طُبعت الصحف في القدس مبكراً، مقارنةً بجاراتها من حواضر المشرق العربي، سبقتها القاهرة في عهد والي مصر محمد علي الذي أمر سنة 1827 بإصدار “جرنال الخديوي”، كنشرة خاصة عن شؤون البلاد وماليتها، بعد القاهرة طبعت في بيروت صحف اتسمت بطابع ديني نتيجة موجات المدّ التبشيري في لبنان منتصف القرن الثامن عشر، فكانت انطلاقتها مع جريدة “حديقة الأخبار” عام 1858.
الصحف في فلسطين:
أول ظهور للصحافة كان في القدس التي كانت تشكل مركزاً للثقل السياسي والديني لوجود مقدسات مسيحية وإسلامية فيها، وتاريخ المدينة جعل منها أحد الحواضر الهامة التي اعتنت بها الدولة العثمانية كمِحجٍ للمتدينين. فصدرت فيها أولى الصحف العثمانية “القدس الشريف” كأول صحيفة حكومية رسمية.
من هنا عرفت فلسطين الصحافة عام 1876 حين صدرت صحيفة “القدس الشريف” باللغتين العربية والتركية، كما صدرت صحيفة الغزال باللغة العربية وهي أيضاً صحيفة رسمية كان يحررها على الريماوي وهو نفسه الذي كان يحرر “القدس الشريف” باللغة العربية بينما يحرر نسختها التركية “قدس شريف” عبد السلام كمال. وكانت تنشر أخباراً رسمية فحسب. واحتجبت الجريدة بعد الانقلاب على السلطان عبد الحميد عام 1908. ثم أعادت متصرفية القدس إصدارها بشكل متقطع في كانون الأول 1913. (تاريخ الصحافة المقدسية – البيادر السياسي – بشير بركات – الأرشيف: العدد 883)
الصحافة الخاصة:
بعد الانقلاب على السلطان عبدالحميد عام 1908، وفرت أجواء الانقلاب تحولات سياسية استلزمت دعاية سياسية مرافقة، فتم السماح بترخيص العديد من الصحف الخاصة لاستخدام بعضها للدعاية لنظام الحكم الجديد، حيث أصدر جورجي حبيب حنانيا جريدة “القدس” في أيلول 1908، والتي كان يطبعها في سويقة علون، وكتب فيها علي الريماوي وخليل السكاكيني. وكانت تصدر مرتين أسبوعياً من أربع صفحات. وتوقفت عن الصدور في آذار 1915. كما أصدر جورجي بعدها جريدتين خطيتين وهما “الأحلام” و”الديك الصياح” في نفس الجريدة.
ولكن بعض الباحثين يؤرخون لكون “صحيفة النفير العثماني” التي أنشأها إبراهيم زكا في الإسكندرية هي أقدم الصحف الفلسطينية العربية، لأنها كانت أول جريدة عربية فلسطينية يصدرها فلسطيني باسمه، ثم انتقلت بعد ذلك إلى القدس عام 1908، وأطلق عليها اسم النفير. (مقتطفات من الصحف الفلسطينية، وليد خليف وسهير دياب، الناصرة، 1995).
بينما اعتبر بعض من أرّخوا للصحافة الفلسطينية أن صحيفة “الكرمل” هي أول صحيفة سياسية فلسطينية، صدرت عام 1908 في حيفا بمبادرة من الصحافي اللبناني الأصل نجيب نصّار.
وفي كانون الأول 1908 ظهرت عدة صحف في آن واحد، فقد أصدر بندلي الياس مشحور جريدة “الإنصاف”، وكانت أسبوعية سياسية علمية أدبية إخبارية فكاهية، توقفت قبيل الحرب العالمية الأولى. كما أصدر أطناسيوس ثيوفيلو باندازي جريدتي “بشير فلسطين” و”البلبل”، إضافة إلى جريدتين خطيتين وهما “منبه الأموات” و”الطائر”. وأصدر علي الريماوي جريدة “النجاح” وكانت أسبوعية سياسية أدبية علمية زراعية، بالعربية والتركية.
وفي شباط 1912 أصدر سعيد جار الله جريدة “المنادي”، وكانت أسبوعية عمرانية تنادي بالإصلاح، وكان محررها محمد موسى المغربي، ورغم أن صاحبها كان مديراً للسجون فقد كانت جريدته مناوئة للسلطة مما تسبب في إغلاقها في تموز 1913. وفي ذات العام 1913 اصدر جميل الخالدي جريدة “الدستور”. وفي آذار 1914 اصدر بكري السمهوري جريدة “الاعتدال” كما يوثق لتلك الصحف الباحث يعقوب الهوشع، في كتابه “تاريخ الصحافة العربية في فلسطين في العهد العثماني” وهو واحد من أربع كتب أصدرها في سبعينيات القرن الماضي وأرخ فيها للصحافة في فلسطين منذ المرحلة العثمانية.
وبالعودة للأرشيف نجد أن أهم ما ميز أولى الصحف الصادرة في ذلك الوقت أنها كانت ساخرة ناقدة، لجأ كتابها للسخرية للتحايل على الرقابة، على الرغم من أنها لم تكن صحافة بالمعنى الناضج تحديداً بالفترة العثمانية، فقد كانت معظم صفحاتها عبارة عن مقالات أكثر مما هي أخبار، لأن كتابها كانوا أدباء وليسوا صحافيين بالمعنى الأكاديمي، في حين اقتصرت الصحافة الخبرية على الصحف الحكومية التي أصدرتها الحكومة العثمانية، والتي اتصفت بالجمود والرسمية والترويج لأعمال السلطة القائمة والتمجيد بالسلطان ونقل منجزات الدولة في تركيا.
تحت رقابة الانتداب البريطاني:
شجعت التحولات السياسية بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية واحتلال البريطانيين لفلسطين، الناشرين الفلسطينيين على إصدار العشرات من الصحف بمختلف الاتجاهات السياسية والأدبية، قابلته سلطات الانتداب بإغلاق الصحف التي حرضت ضدها وهاجمت تجزئة المشرق العربي. وسنّت مجموعة هائلة من قوانين الرقابة، حتى تجاوز عدد صفحات القوانين في الفترة 1925-1935 ألف وخمسمائة صفحة، فتهكمت الصحافة العربية على ذلك، وأطلقت على سلطات الانتداب لقب مصنع القوانين. وكانت غالبية الصحف تضم أربع صفحات وتصدر مرتين في الأسبوع في بداية الاحتلال.
فقد أصدر المحامي محمد حسن البديري في أيلول 1919 أول جريدة بعد الاحتلال البريطاني، وهي جريدة “سورية الجنوبية”، ووصفها بأنها “عربية سياسية حرة”. وكانت تنادي بشعارات قومية، وكتب فيها رأفت الدجاني وصليبا الجوزي وعمر الصالح البرغوثي وعارف العارف. لكنها أغلقت في تموز 1920. وفي أيلول 1919 أيضاً أصدر بولس شحادة جريدة “مرآة الشرق” وكانت أسبوعية “سياسية حرة”. وكتب فيها حمدي الحسيني وأحمد الشقيري وعمر الصالح البرغوثي، وتوقفت عام 1929.
وفي كانون الثاني 1919 أصدر بندلي الياس مشحور جريدة “بيت المقدس” وكانت “سياسية أدبية”، تحت إدارة حسن صدقي الدجاني وتحرير أنطون لورنس. وظهر آخر أعدادها في نيسان 1924.
وقد شهدت فترة الانتداب تطوراً آخر في صحافة تلك المرحلة، حيث أصبحت الصحف تصدر بلغات أخرى، فقد أصدر حسن صدقي الدجاني نيسان 1920 جريدة “القدس الشريف” ولم يربطها بسابقتها العثمانية سوى الاسم، حيث وصفها صاحبها بأنها “سياسية حرة”، وطبعت في مطبعة جريدة مرآة الشرق. وقد أضاف إليها ملحقاً إنجليزياً باسم “ذي جيروزاليم غازيت”. لكنها توقفت في تموز من نفس العام.
الصحافة اليهودية:
وكما يؤرخ كذلك يعقوب الهوشع في كتابه تاريخ الصحافة العربية في فلسطين في العهد العثماني، أن العشرينيات من القرن الماضي شهدت صدور صحافة حزبية أو تصدر عن تيارات سياسية، كما شهدت ذات الفترة بدايات إصدار اليهود العرب لصحفهم، والتي تنوعت بين الوطنية وبين المؤيدة للمشروع الصهيوني، فيذكر الهيوشع، أنه في أيار 1920 أصدر نسيم ملول في يافا جريدة يهودية باللغة العربية أطلق عليها “جريدة السلام”، ثم نقلها إلى القدس. وصدر عددها الأخير في كانون الثاني 1931. وفي أيار 1920 أيضاً صدرت جريدة يهودية أخرى بالعربية وهي “بريد اليوم”، وكانت “سياسية أدبية اجتماعية زراعية”، حررها إبراهيم المحب وهو سوري استقر بالقدس. لكن العرب قاطعوها فأصبحت توزع بالمجان حتى توقفت عن الصدور، وبعد فشلها أصدر اللبناني إبراهيم سليم النجار في حزيران 1921 جريدة يومية مشابهة في القدس تدعى “لسان العرب”، شاركه في تحريرها عادل جبر وإبراهيم المحب، وتولى إدارتها فخري النشاشيبي، لكن قاطعها العرب أيضاً لكونها كانت مناصرة للقضايا الصهيونية حتى أغلقت في كانون الثاني 1923، وعاد النجار إلى لبنان.
وفي أيلول 1920 أصدر صالح عبد اللطيف الحسيني “جريدة الأقصى”، وكانت “وطنية سياسية أدبية”. لكنها لم تعمر سوى بضعة أشهر حيث كانت تصدر على نفقة صاحبها شخصياً.
وفي تشرين الأول 1921 أصدر محمد كامل البديري ويوسف ياسين جريدة “الصباح”، وكانت لسان حال المؤتمر العربي الفلسطيني والوفد الفلسطيني. وحررها هاني أبو مصلح حتى توقفت بعد عام.
وفي كانون الثاني 1921 أصدرت بطريركية اللاتين جريدة “رقيب صهيون”، وكانت دينية وسياسية مناهضة للصهيونية والماسونية والشيوعية. وقد تصدت لمشروع الجامعة العبرية. وفي أيار 1925 صدرت جريدة “اتحاد العمال” لسان حال العمال في فلسطين، وكنت مؤيدة للهجرة اليهودية، واستمرت حتى عام 1928.
وفي كانون الأول 1927 أصدر محمد منيف الحسيني جريدة “الجامعة العربية” لسان حال المجلس الإسلامي الأعلى. وكانت يومية سياسية علمية اجتماعية. وتولى تحريرها إميل الغوري ومحمد طاهر الفتياني. وفي عام 1928 أصدر الحزب الشيوعي الفلسطيني جريدة “إلى الأمام”، وأصدر ميشال سليم نجار جريدة “المعاد”.
وفي نيسان 1930 أصدر عادل جبر جريدة “الحياة”، وكانت أول صحيفة عربية يومية تصدر في الصباح، حيث كانت الصحف توزع بعد الظهر. كانت سياسية أدبية اجتماعية اقتصادية. لكنها توقفت بعد عام ونصف. وفي تموز 1932 أصدر سليمان التاجي الفاروقي جريدة “الجامعة الإسلامية” وكانت يومية سياسية. وقد أغلقت في تموز 1934 بحجة التحريض ضد السلطات البريطانية.
أما المجلات فلم يصدر منها سوى عدد ضئيل بعد الانقلاب العثماني. فكانت مجلة “الباكورة الصهيونية” أول مجلة مقدسية، أصدرتها مدرسة صهيون الإنجليزية التبشيرية عام 1909، واستمرت في عهد الانتداب تحت اسم مجلة باكورة جبل صهيون أو مجلة مدرسة صهيون، وكانت تصدر ثلاث مرات في السنة، وصدر عددها الأخير في شباط 1947. وكذلك فقد أصدر موسى المغربي مجلة “المنهل” في آب 1913.
أما في عهد الاحتلال البريطاني فقد صدر عدد أكبر من المجلات. كان أولها مجلة دار المعلمين التي صدرت في تشرين الأول 1920، وأصبح اسمها مجلة الكلية العربية. ثم مجلة روضة المعارف في كانون الثاني 1922 تحت إدارة فايز يونس الحسيني، وفي كانون الثاني 1935 أصدرت شركة المطبوعات المحدودة مجلة الإقتصاديات العربية. وتولى رئاسة تحريرها فؤاد سابا وعادل جبر، وكانت تبحث في الشؤون التجارية والزراعية والصناعية في الأقطار العربية.
تطورت الصحافة في فلسطين ضمن تطور الأحداث السياسية فيها، حتى أصبحت تشكل حالة فريدة في بلد محتل لا يزيد عدد سكانه عن مليوني شخص، ما يقارب الثلاثين بالمائة منهم أميون، وتصدر فيه ثماني عشرة صحيفة صباحية وثلاث صحف مسائية وعدد أكبر من الصحف الأسبوعية والشهرية، وقبيل انتهاء الانتداب في عام 1948، كانت جريدة “فلسطين” هي أقدم الصحف اليومية العربية الأربع التي كانت ما زالت تصدر في فلسطين التي صدرت عام 1932.
إذاعة هنا القدس:
كما شهدت ثلاثينيات القرن الماضي ظهور إذاعة هنا القدس كثاني إذاعة تظهر في المنطقة العربية بعد القاهرة. والتي تأسست في حي مأمن الله في القدس بقرار من حكومة الانتداب البريطاني في 30/3/1936، وانتقلت إلى رام الله بعد النكبة، وتقع أبراج إرسالها على إحدى قمم رام الله العالية، لكنها لم تكن إذاعة فلسطينية خالصة، إذ إن أوقات بثها كانت مقسمة بين فترة إنجليزية يديرها البريطانيون، وأخرى عبرية يديرها اليهود، وثالثة عربية يديرها الفلسطينيون. بينما كان حاكم القدس (ستورز) قد قام بنفسه باختيار موظفي محطة الإذاعة.
لم يبق من أرشيف الصحافة الفلسطينية الكثير، فقد قامت العصابات الصهيونية منذ احتلالها المدن الكبرى بعد جلاء البريطانيين، بالسطو على الأرشيف الفلسطيني أينما وجدوه، فجزء كبير منه وخاصة أرشيف المحاكم الشرعية، والمخطوطات، الصحف، وغيرها قد تمت مصادرته، وتحتفظ فيه أرشيف الجامعات الإسرائيلية وأرشيف الدولة، في حين ضاع جزء منه في الشتات الفلسطيني بعد النكبة، والجزء المتبقي منه والموزع في أرشيفات شخصية ومستودعات مقتني الأرشيف وبعض المكتبات العامة لم يجد حتى اليوم مبادرة رسمية فلسطينية لجمعه وأرشفته ونسخه إلكترونياً.