عندما تم تناول تجربة المخرج الفلسطيني الدنماركي الجنسية مهدي فليفل في مقالة سابقة، بخاصة بعد ترشيح فيلمه الجديد «رجل يغرق» للمشاركة في المسابقة الرسمية للفيلم القصير في الدورة السبعين من مهرجان كان السينمائي الدولي، وضعت سؤالاً بين علامتي تنصيص “شو شكل الوجع هالمرة؟”، لتأتي الإجابة مباشرة بعد مشاهدة الفيلم، بأن الوجع يكمن في أنك تتمنى في كل لحظة من الفيلم، ومدته 15 دقيقة، أن يكون البطل عبارة عن ممثل يؤدي دوره المكتوب عبر نص، ستتمنى في كل لحظة أن تكون القصة غير واقعية، وحتى الوجوه العابرة تتمنى أن تكون خيالية، فالوجع الذي قدمه فليفل هذه المرة هو مسؤولية كاملة من المفترض أن يتحملها العالم كله تجاه الحال الذي وصل إليه الفلسطيني بكل صفة تلازمه لاجئاً كان أو نازحاً أو حتى مرابطاً.
لا شك أن الفيلم الذي سيتم عرضه لجمهور مهرجان كان بعد ساعات من نشر هذه المقالة ضمن المسابقة الرسمية للفيلم القصير، لنقاد وصحافيين وجمهور متعطش للسينما، سيتعرض لموجة غضب بخاصة من قبل الذين يريدون دوماً تصدير صورة الفلسطيني على أنه استثناء، على أنه لا يضعف، على أنه فقط من يحمل بندقيته على كتفه ويمضي، وكل هذا للابتعاد رويداً رويداً عن كل العوامل التي ساهمت إلى جانب الاحتلال بخلق نموذجاً جديداً للصورة السائدة.
نعم، يكاد يكون فليفل من ضمن قلّة تتناول نماذج متعدة موجودة في الواقع لكنها لا تتناسب مع ما تريد جهات معينة تثبيتها، لماذا؟ لأنها تدرك ببساطة أنها ستتحمل المسؤولية في ما آل إليه شكل النموذج الفلسطيني أو بالأحرى الحلم الفلسطيني. يسعى الفيلم لنقل الحقيقة كما يراها، من خلال شخصيات أفلامه، فهو يلامس عقول المشاهدين، في الغرب أولاً، الذين لن يترددوا في البحث أكثر إذا ما اقتنعوا بالمعضلة التي يقدّمها وكيفية تقديمه لها.
لا شيء يمر صدفة في «رجل يغرق»، وليس هنالك عابر لا معنى له. يكثّف الفيلم قضية كاملة في 15 دقيقة، تحاول من خلال هذه الدقائق أن تتابع الشخصية الرئيسية فيه، وتتابع ماذا يقول وهي كلمات قليلة وإشارات أقل، هو ينادي صديقه بـ فتح، وجاره بـ أبو الحب، يستجدي منهما خمسة يورو لشراء قهوته المفضلة، وهذا ليس بمشهد عابر، فقد كان لديه، قبل أن يعبر السواحل لاجئاً، بيت وقهوة مفضلة، هم يرفضون مساعدته، فيهيم على وجهه في شوارع غريبة، يطلب سيجارة من غرباء، يشيحون بوجوههم عنه أو يعطونه، إلى أن تأتي اللحظة التي من الواضح أنها هي المشهد الذي تم استدعاؤه لإكمال الحكاية، عندما يقرر البطل أن يسرق حذاءً لونه أحمر لصاحبه الذي ظهر فجأة أمامه، ويخذله لأنه لم يأت بنمرة تناسبه. القصة ليست هنا، فطريقة التفاوض طوال الوقت هي أساس الحكاية، طريقة التنازل من خمس يورو إلى ثلاثة إلى اثنين، هي الأساس، طريقة تسلسل الأحداث المرتبطة بالشخصية الرئيسية وإظهارها بكامل ضعفها لأنها شخصية جائعة وتريد شرب القهوة. من الممكن أن يتم استنكار كل هذا التنازل بسبب مبلغ زهيد، وهنا دائماً يخرج فليفل ليقدم المختلف، أنت ستصطدم بالمشهد قبل النهاية، عندما لم يتحول البطل إلى لص فقط، بل وقدم جسده لغريب مر به، مقابل أن يأكل، ستعتقد أن هذا قمة التنازل، لكنك إن أعطيت نفسك فرصة دون عصبية ودون قذف الاتهامات، ستدرك أن معنى قضية كاملة انهارت متجسدة بهذا الفيلم.
الحذاء، الهروب، القهوة، الجوع، انتهاك الجسد، صندوق الحذاء الفارغ على سطح البحر، كلها إشارات عبر مشاهد تؤدي إلى معنى قضية تم اللعب بها والدوس عليها من كل الأطراف محلية وخارجية إلى أن انتهت على هذا الشكل.
فيلم فليفل موجع لحد أنك ستتمنى أن لا يكون حقيقة وستتمنى أن يفوز كنوع من رد الاعتبار مثلاً، أو تأكيداً على قناعة الآخر بما تم تقديمه خاصة أنه بالإضافة إلى قصته، هو فيلم مصنوع بشكل محترف، فالعوامل كلها فيه حاضرة وبقوة من ناحية الصناعة كصناعة، لكنه من جانب آخر هو من ذلك النوع من الأفلام الذي يجعلك ببساطة تفكر، تفكر بغصّة البطل وهو يأكل بعد جوع طويل.