في حيز ضيق، يقف حائط أخرس بفواصله الإسمنتية الضخمة أمام تسعة أجساد محاطة ببعض من الإضاءة والكثير من الظلال، هكذا تسطّر هذه العناصر لوحة المشهد.
في أول مشهد للعرض، تتجمع الأجساد في دائرة مغلقة ويشكل الراقصون دعامة صلبة لإحدى الراقصات التي تحاول تسلق الحائط من أمامها إلى أعلى. تفشل الراقصة مراراً في الصعود وفي كل مرة يكاد ينقلب جسدها إلى الخلف مقبلاً للسقوط تستقبلها دعامة الأجساد الأخرى وتعيدها إلى صراعها مع الحائط الصلب.
يعود الراقصون التسعة تارة أخرى في صف واحد ويركضون بكل ما أوتوا من قوة ويضربون أجسادهم في عرض الحائط وتتكرر الرقصة العنيفة حتى يتعب أحدهم ويسقط أرضاً لينتشله راقص آخر وتستمر الرقصة.
قوة الرمز “الحائط”
على بعد بضع كيلومترات من القدس حيث مكان العرض، يقبع الحائط الحقيقي الذي نمر منه كل يوم ويفصلنا عن النصف الثاني من الأرض. نمر عنه كل يوم فارضاً نفسه واقعاً أليماً مع أننا نعرف أنه على بعد أنفاس من ذكرياتنا وولعنا بالأرض. وبالتالي، رؤية هذا الحائط ذاته على المسرح لا يتخذ فقط بعداً رمزيا بل بعد حرفي وجودي. الحائط لا يُقاوَم بحركات رمزية فقط، فالعرض أكثر مباشرة حيث يُقابَل الحائط بالجسد، الجسم الصلب مقابل الجسم الصلب، حتى أنني أكاد لا أتخيل كيف نجح الراقصون مراراً وتكراراً في ضرب أجسادهم في الحائط بكل قوة حتى أثناء التدريب للعرض.
تشكل مرونة الأجساد في التحرك فعل مقاومة بحيث يُوظّف الجسد ليصبح جسراً للعبور أو حائطاً “قابلاً للإختراق” إن أمكن القول. بالفعل، نرى ذلك واضحاً في أحد المشاهد التي تستخدم فيها إحدى الراقصات جسد أحد الراقصين لتسلق الحائط في محاولة للوصول إلى أعلى الحائط لترى الجانب الآخر، الفشل والتكرار مجدداً.
في مشهد آخر، نرى راقصة أخرى تحاول مراراً إختراق الحائط، تضرب بجسدها نحوه، تذهب إلى فاصل إسمنتي آخر تضرب بجسدها نحوه، تتعب وتركض في المساحة الضيقة وتثني بجسدها بعنف راكضة مجدداً نحو الحائط لكن في هذه المرة يعترضها راقص أثناء ركضها محولاً جسده إلى هذا الحائط “الحاضن القابل للإختراق”.
يتجلى جمال العرض في عضوية العلاقة بين الراقصين بحيث تتحول الأجساد إلى حيطان مخترقة وتسقط الحواجز بين أجسادهم. يذهب الراقصون بعرض الحائط، جميعهم! يركضون نحو الحائط ويدركون تماماً أن “كلنا بفرد خندق”. التركيز هنا على إختراق الحائط لذلك نراهم يساعدون بعضهم للوصول إلى هذا الهدف. تتحول الأجساد إلى أدوات تساعد بعضها للعبور وتتحول الفواصل الإسمنتية بالنسبة للراقصين إلى صفائح شفافة يرون من خلالها النور ويتكاملون مع الجانب الآخر من المكان.
نحن أمام عرض ديناميكي فالفكرة الرئيسية المتكررة طيلة مدة العرض تتركز في ضرب هذه الأجساد الحائط بشكل مستمر، ضربه ومقاومته ومحاولة كسره وتجاوزه فالراقصون على وعي تام في ما وراء هذا الحائط، في النصف الثاني من الحقيقة.
الزمن والتعب
مع تقدم زمن العرض، يأخذ هذا الفعل المتكرر إسماً جديداً وهو التعب. على الرغم من الإستمرارية في تكرار حركة الجسد “المقاوم”، يصل الراقصون إلى مرحلة التعب. إذا ما إستمرت الأجساد في الحركة لفترة طويلة تضعف إمكانية هذه الأجساد من أداء وظيفتها بالشكل المطلوب وعلى الرغم من أن ذلك مفهوم ضمناً وهو أمر طبيعي بواقع محدودية هذا الجسد، إلا أن إظهار حالة التعب هو أمر ضروري كإنعكاس صادق وضروي للفعل المقاوم. الراقصون على وعي تام بالضرورة الحتمية لإختراق الحائط وكسره ولكن إظهار حالة التعب التي وصلوا إليها هو جزء من رحلة المقاومة التي أخدوها على عاتقهم. لا يعتبر التعب في هذا العرض مرحلة عابرة من الهدف الأكبر وهو إختراق الحائط، بل يجتهد الراقصون أثناء العرض ليفهموننا أنها مرحلة صادقة يجب التوقف عندها وإظهارها في خضم الرحلة الطويلة لإختراق الحائط.
تتحول الحركة في هذه المرحلة من الجماعة إلى الفرد. في هذه المرحلة، لم نعد نرى المجموعة كاملة تركض نحو الحائط بل نكتفي برؤية أحد الراقصين يتجلى بحالة التعب. يقف بجانب الحائط ويتصبب جسده عرقاً، لا يقارع الحائط بل نراه يقارع جسده وينهمك في تصويب حركاته المرتجفة، يساءل مدى نجاعة إستمراريته، يمنعه من الموت.
يتجلى التعب في تخلخل العلاقات في المجموعة ففي مشهد آخر يتوقف الراقصون عن الحركة العضوية كمجموعة ويحدث الإنفصال. نرى الراقصون الثمانية كل منهم يرقص مع شريك بإستثناء راقصة واحدة ترقص وحدها تبحث عن طريقة للتغلغل بينهم لتكون جزءاً من المجموعة ولكنها تنتهي بالرقص وحدها.
ظل الأجساد
لا يفارق الظل الراقصين طيلة مدة العرض فناهيك عن البعد الجمالي الذي يضيفه إلا أن إدخال عنصر الظل على العرض شكل عنصراً أساسياً لم يأت عبثا. لا يسمح لك الظل طيلة مدة العرض إلا أن ينحرف تركيزك عن الرقص الفعلي وأن تدقق في الأشكال واللوحات الجديدة التي يضيفها الظل كطبقة أخرى على العرض. توظف الإضاءة كافة تقنياتها لتظهر لنا الظل في كل مشهد: مشهد الجماعة، مشهد الفرد، مشهد الرقص الثنائي. في الرقص المنفرد، تؤدي إحدى الراقصات حركاتها بموازاة الحائط وفي ثنايا تعرجاتها يظهر ظلها على هيئة ظليّن وكأن هناك شخصان يرقصان وليس شخصاً واحداً. في مشهد آخر، نرى ظل راقصيْن يرقصان بالقرب من الحائط ونرى ظل راقص آخر ينظر إليهما من بعد. يقترب الراقصان من الحائط ويصغر ظلهما حتى يكاد يختفي ويبتعد الراقص المشاهد عن الحائط ويكبر ظله معه حتى يسيطر على المشهد وكأنه يرى حقيقة الصورة كما لا يستطيع الراقصان رؤيتها. يعكس الظل طبقة أخرى من المشهد المرئي وديناميكية العلاقات حيث يذهب ليذكرنا بما هو أبعد وأعمق من الصورة القريبة، بالجانب الآخر من الحائط.
الأمل
يختتم العرض مشهده الأخير براقص يضرب الحائط ولأول مرة يخرج الغبار منه، حيث ينتصر أخيراً في إختراقه وهزيمته، كما تخرج ثمانية أيدٍ من ثقوب الحائط ولكن من الجهة الأخرى التي لم نستطع قط رؤيتها طيلة مدة العرض. هذا عرض يحكي عن رحلة طويلة تبشر بأمل جميل ينتصر فيه الفعل المقاوم على الحائط الصلب.
هناك من على أعلى الحائط الحقيقي أرى كل يوم كرات عالقة على شبك الحائط، يزداد عددها يوماً بعد يوم حين يتجرأ طفل مصاب بالأمل بأن يرمي كرته إلى أعلى الحائط وهو مؤمن بأن كرته تستطيع أن تطير في السماء عالياً بلا عوائق، وبأن صديقه لن يمل قط من الإنتظار لالتقاط الكرة على الجانب الآخر.
«بعرض الحائط»، بدأت عروضه في القدس الشهر الماضي
اخراج وتصميم : سمر حداد كنغ وأمير نزار زعبي
موسيقى: مقاطعة
تصميم إضاءة: معاذ جعبة
مدير مراجعات: زوي رابينوفياش
تنفيذ ديكور: نادر خوري
المؤدون: حمزة ضمرة، هوبا حميدان، يوكاري اوساكا، زوي رابينوفيتش، اديب صفدي، ايمن صفية، محمد سماحنة، سماء واكيم وفداء زيدان.
مدة العرض: 60 دقيقة