السؤال الذي يثيره قارئ الأدب الفلسطيني أحياناً هو: بم شغل أدباء الثورة أنفسهم في أثناء صعودها وفي أثناء خفوتها؟
وربما لا يحتاج المرء إلى الإجابة عن القسم الأول، فالأصل ألا يشغل بال الدارس كثيراً، وإجابته واضحة معروفة: بالواقع والتعبير عنه. أما القسم الثاني فيحتاج إلى أن ينظر فيه وأن يتأمل فيه ملياً، ويتطلب قراءة تعاقبية لما أنجزه الكتّاب، والتوقف بإمعان أمام النصوص التي أنجزت في أثناء تراجع المد الثوري وانحساره، ومن ثم خفوته.
ما بين 1995 و2000 أصدر محمود درويش ثلاث مجموعات شعرية “لماذا تركت الحصان وحيداً؟” و”سرير الغريبة” و”جدارية ” وأعاد في الأول كتابة سيرته منذ كان طفلاً، وكتب في الثاني قصائد عن المرأة أما في “جدارية” فكتب عن تجربته مع الموت. وفي أثناء انتفاضة الأقصى 28/9/2000 عاد وكتب قصائد مقاومة، منها مقطع لافت يقول لنا كم حجم القصائد غير الوطنية في مسيرة الشاعر: “كتبت عن الحب عشرين سطراً/ فخيل إلي/ أن هذا الحصار/ تراجع عشرين متراً”.
ما أود قوله هو أن الشاعر ظل منذ 1964 حتى 1994 يكتب قصائد ذات موضوع وطني، وحتى في أثناء إقامته في باريس استحضر ما عاشه في بيروت في صيف 1982 وما أعقب الخروج من المدينة وما استجد من أحداث في فلسطين والعالم العربي: الانتفاضة وغزو العراق وحلم العودة وريتا والبندقية. هل اختلف الأمر في حالة أحمد دحبور؟
لم يكن أحمد دحبور في بيروت في أثناء حصارها ليستحضر ما جرى فيها وهو في تونس ما بين 1983 و1994، ولما اندلعت الانتفاضة الأولى خصها بغير قصيدة نشرها في ديوانه “هكذا” 1990، وما يلفت النظر في دواوينه منذ 1983 وما بعد هو استمراره في التجريب والخوض في موضوعات لم يكن من قبل -حين كانت الثورة قوية- يخوض فيها، وستحضر طفولة الشاعر في كثير من قصائده، وستحضر مع حضور طفولته شخوص كان له بهم صلة مباشرة: الأم والأب والأخ والأخت والمعلم، وسيحضر المكان الذي كان حاضراً في ذهن الأم: حيفا، وسيحضر أيضاً المخيم. وسيكتب أحمد عن علاقته بهؤلاء، وهو ما لاحظناه في كتابته عن الأب والأم والمعلم.
مريم العسراء:
من القصائد التي كتبها الشاعر وهو في غزة قصيدة عنوانها “مريم العسراء”، ومريم هذه هي أخته الصغرى، وقد كانت حقاً عسراء، ولما كان بعد العام 1983 يقيم في تونس، وظلت هي مقيمة في الشام، فقد كان الهاتف وسيلة اتصال بينهما. والقصيدة تأتي على طفولة أحمد ومريم وفقر العائلة المدقع. البنطال المرقع والحذاء البالي والمدرسة التي تتطلب ملابس لا تشعر بالخجل.
يورد الشاعر في القصيدة ما كان يدور من حوار بينه وبين مريم ويركز على الفقر والملابس. هنا يتذكر المرء ما قصّه جبرا إبراهيم جبرا في سيرته ” البئر الأولى” عن طفولته الفقيرة وعن حذائه الذي حصل عليه جائزة اضطرت الأسرة إلى بيعه لشراء طعام العيد، وما قصه جبرا أيضاً عن البيوت التي أقامت فيها عائلته في بيت لحم، فقد كانت العائلة تبحث عن بيت أقل أجرة لتنتقل إليه حين لا تتمكن من دفع الأجرة، وما قصّه جبرا عن عمل أبيه غير الثابت. مثل هذا كله نقرؤه ونحن نقرأ قصيدة “مريم العسراء”.
تسأل مريم، من بعيد، عبر سماعة الهاتف، أخاها أحمد: قل لي يا أخي، أأنت أنت؟ ويوقظها صوته على شجارها الحلو في الطفولة: “لماذا تأكلين بالشمال؟ ويقص عليها مغامرات وبطولات تبدو لها وهمية، إذ يتخيل نفسه فدائياً، وهو ما سيغدوه لاحقاً حقاً حين يلتحق بالثورة، إذ يصبح مراسلاً إعلامياً ميدانياً “ولم أزل أنام في الجبال والوديان/ ( غادرت مكاني هذه المرة حقاً)”.
يتذكر أحمد أباه الصعب وفرضه الصوم والصلاة على البنت، في حين كان يعفي الإبن من فرض الصلاة أو الأصح لا يلح عليه. وتمر الأيام ولا تعود الأسرة تجتمع كما كانت: “منذ كم حكاية لم تجتمع أسرتنا كاملة؟” هذه الأسرة، أسرة الدحبور، التي كانت معاً، أخذت تبحث عن بنيها، وستنقص الأسرة مع الأيام، حين يستشهد الابن/ الأخ كامل في تل الزعتر ولا تعرف عنه الأسرة شيئاً فلم يبق منه إلا قميصه.
لقد ترك استشهاد كامل أثراً على بقية أفراد الأسرة، وكلما سافر أحمد إلى مكان أمسكت أخته بثوبه: لا تفارقنا، وتبدأ الأم تحسب ألف حساب: “ناقص هو العدد/ ومريم العسراء/ مسروقة من دمعة العزاء/ تمسكني بيدها اليمنى:/ لماذا ليس بالشمال؟/ أما سمعت: ناقص هو العدد/ فلا تفارقنا”.
في هامش إحدى صفحات القصيدة يعرّف الشاعر بأخيه كامل :”استشهد في العشرين من عمره ولم يعثروا إلا على قميصه بين أنقاض المخيم الشهيد. كان القميص المطرز بالدم هو السلوى الوحيدة لأمنا حتى لحقت به. (غزة، السبت 7/10/ 1998 ).
وما بين زمن كتابة القصيدة وزمن حوار الشاعر مع أخته وزمن استشهاد أخيه كامل عقود.
هل تركت إقامة الشاعر في تونس، بعد هدوء الثورة، ومن ثم إقامته في غزة في مرحلة السلام، تأثيراً على موضوعات شعره، وعلى عودته إلى الطفولة ليكتب عن الأسرة؟