مرة درس أكاديمي ألماني غسان كنفاني تحت عنوان “غسان كنفاني: حياة فلسطيني” ومما قاله (شتيفان فيلد) عن مبررات دراسته إن دراسة حياة غسان كنفاني وأعماله تعتبر مكافأة خصوصية. ولهذا الغرض رسم الدارس صورة وصفية لرجل خيف منه وكُره كثيراً مثلما وُثق به وأُحب، رجل حيّر بطرق متعددة الناس الذين حتى يومنا ما زالوا، في الشرق الأوسط، ضحايا ورهائن، إلى حد بعيد للعبة الأمم. ولم يختر (فيلد) كنفاني بسبب النوعية الرمزية لحياته وموته التي تشغل بعض الفلسطينيين، فهناك سبب آخر لا يقل أهمية يكمن في أن كنفاني كصحفي وسياسي عبّر عن وضعه وكان صريحا في ذلك، وعلاوة على ما سبق فقد كان أحد أبرز الكتاب المعاصرين الموهوبين في القصة العربية.
هل يمكن استعارة ما قاله الأكاديمي الألماني في العام 1975 عن كنفاني في أثناء دراسة حياة أحمد دحبور؟ هل خيف من دحبور كثيراً وهل أحبه في المقابل أناس كثيرون؟ هل شغلت حياته بعض الفلسطينيين؟ وعلاوة على ما سبق هل عبّر عن وضعه وكان صريحاً في ذلك؟ وهل كان أحد أبرز الشعراء المعاصرين في الشعر العربي؟
انتمى أحمد دحبور منذ شبابه إلى حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) وتغنى بها في أشعاره واتخذ في سبعينيات القرن الماضي مواقف صريحة من بعض الأنظمة العربية التي اصطدمت مع الثورة، مواقف لا تقل وضوحاً عن مواقف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين “يا فلسطين التي تغتال في عمان ثانية/ ألا لا برأتهم من دمي عمان/ كانوا تاجراً ومقامراً كانوا دنانير الدخيل”.
ونحن نقرأ هذه الأسطر نتذكر “درب إلى خائن” و”رجال في الشمس” لغسان كنفاني. ومن من متابعي الشعر الفلسطيني في السبعينيات لم يضع اسم الشاعر إلى جانب اسم محمود درويش؟ وفي رثاء شعراء ونقاد عرب كبار لأحمد دحبور، مثل العراقي علي جعفر العلاق، ما يقول إن الشاعر اسم شعري كبير وقامة شعرية كانت واعدة. ولكن ما علينا ألا ننساه ونحن نقارن بين كنفاني ودحبور هو أن الأول ناثر والثاني شاعر، والنثر يتسع أكثر من الشعر في التعبير عن الحالة والوضع الذي يحياه الكاتب.
خطر ببالي ما سبق وأنا أقرأ مجموعات الشاعر “كسور عشرية”، 1992، و”جيل الذبيحة”، 1999، و”كشيء لا لزوم له”، 2004. ولسوف استحضر نشاط الشاعر الحثيث ما بين 1994 و2006 على صفحات “الحياة الجديدة” حيث كتب مقالات كثيرة متنوعة عرّف من خلالها بالكتاب الفلسطينيين وكان دوره في هذا الجانب لا يقل عن دور غسان كنفاني في الستينيات حين قدم للقراء العرب شعراء المقاومة وأدباءها من خلال كتابيه “أدب المقاومة في فلسطين المحتلة “، 1966، و”الأدب الفلسطيني المقاوم”، 1968. ولو جُمعت مقالات أحمد في كتب لكانت ثروة لدارسي الأدب الفلسطيني، وأعتقد أن ما كتبه عن توفيق صايغ وقصيدة النثر يعد درة من درر مقالاته.
يختلف أحمد دحبور عن غسان كنفاني في أنه انحدر من أسرة فقيرة جداً، أسرة معدمة، فأقام في المخيم وعاش فقراً مضاعفاً، ويختلف الأمر بخصوص كنفاني الذي انحدر من أسرة برجوازية، فقد كان أبوه محامياً ووفر له تعليماً جيداً في يافا، وفي المنفى لم يعش في الخيام، وإن علّم أطفال اللاجئين في المدارس وكتب كثيراً، في قصصه، عنهم، بل إن روايته “أم سعد” التي كتبها وهو في بيروت، استوحى نموذجها النسائي من نساء المخيم وترك المجال للمرأة واسعاً لتقص حكايتها وحكاية المخيم.
إن صورة المخيم واللجوء تبرز في نصوص الكاتبين بشكل واضح بارز، وقد عد الشاعر شاعر المخيم في الأدب الفلسطيني، ونعت نفسه براوية المخيم وذاعت قصيدته هذه ذيوعاً كبيراً.
هل كتب كنفاني الكثير عن أسرته؟ عن أمه وأبيه وأخوته؟ هل يستطيع المرء أن يرسم، من خلال أعمال كنفاني، صورة لعائلته كعائلة فلسطينية لاجئة تمثل حياة الفلسطينيين؟
أعتقد جازماً أن أشعار أحمد دحبور تصلح لهذا أكثر مما تصلح أعمال كنفاني، وأعتقد جازماً أنها تمثل حياة شريحة واسعة جداً من حياة اللاجئين. فقر الأب وانكسار الأم واستشهاد الأخ الكبير، وشتات العائلة والطفولة الفقيرة المعذبة. هذا كله الذي عاشه اللاجئون تجسد في قصائد الشاعر، كما ظهر في قصص سميرة عزام.
كنت توقفت أمام “الإهداء” في دواوين الشاعر، وأتيت على ديوان “جيل الذبيحة “، 1999. هنا لا بد من التوقف أمام الإهداء ثانية. “إلى ذكرى أختي زينب. إلى ذكرى أخي محمد. جاءني نبأ رحيله فور انتهائي من تصحيح آخر كلمة في هذا الكتاب. لقد خطفتني التغريبة الفلسطينية من بين أهلي ست عشرة سنة حتى الآن، لم أرَ خلالها، أيا منهما، مرة واحدة.”
خص أحمد دحبور أخاه كامل الشهيد بغير مقطع من قصائده، في بداية مسيرته الشعرية وحتى “كشيء لا لزوم له ” في 2004، وحين كان يعاني من المرض وكان الموت يقترب منه في التسعينيات كتب قصيدة “في حضرة الذئب” وممن تذكّرهم أمه وأخاه كامل.
تذكر عبارة الشاعر، في الإهداء “ست عشرة سنة، حتى الآن، لم أرَ خلالها، أيا منهما، مرة واحدة”، تذكّر قارئ سميرة عزام بقصة “عام آخر”.
إنّ قراءة أشعار أحمد دحبور لاستنباط سيرة حياته العائلية منها أمر وارد، وأعتقد أنه مجزٍ.
ماذا عن أحمد وأخته مريم؟ هذا ما سأتابعه.