تعرض الجزء الأول من هذه المُقاربة إلى العلاقة المُلتبسة بين آلية تحرير “الحيز العام” أو public sphere من قبضة السلطوية السياسية في التجربة الحداثية الغربية، وآلية إعادة إحتلال ذلك الحيز العام من قبل قوى رأس المال خاصة الإعلامية. حدث ولا زال يحدث هذا على حساب المكاسب التي من المُفترض أن تحققها الحريات العامة، الجمعية والفردية. تطورت أشكال من التحكم غير المباشر وتشكيل الرأي والمزاج الشعبي من قبل امبراطوريات إعلامية هائلة أعادت صوغ الأفراد وتصوراتهم وتطلعاتهم وفق تنميطية ضاغطة وإن اتسمت باختلافها عن فجاجة السلطويات السياسية المباشرة والقامعة. لا يعني هذا الإنجرار إلى القول أن لا فرق بين التجربة الغربية الليبرالية في الحريات العامة والتجارب السلطوية التقليدية، ذلك أن الأولى قدمت ولا تزال ورغم كل جوانب الإختلال فيها التجربة الأهم بشريا في توسيع نطاق الحرية وثراء الحيز العام وما يحدث فيه من جدل دائم وتعميق للفكر النقدي ودفع الحدود نحو مساحات جديدة ومبتكرة.
تستكمل هذا السطور وفي ما تبقى من المقاربة التأمل في مسألة “الحيز العام” وخاصة في سجالات ونضالات الحريات العامة في التجربة العربية في حقبة ما بعد الإستقلال. وهي تجربة تلتقي وتختلف مع تجارب العديد من شعوب ومجتمعات العالم (غير الغربي) في ذات الحقبة الزمنية. التشابه الأعرض في سيرورة هذه المجتمعات وقيام دولها ما بعد الكولونيالية وترسخ هوياتها الوطنية السيادية يبرز في تسيد السلطوية السياسية لعقود طويلة من الزمن، على حساب الحريات العامة والمشاركة السياسية. في تسويغ السلطوية سواء الخشنة منها أو الناعمة وُظفت مبررات عديدة أهمها إيلاء الاهتمام للأولويات الضاغطة على الدول والمجتمعات النامية مثل الانخراط في تنمية مستديمة، وبناء هويات وطنية مُكرسة، واقتصادات قوية، وتأجيل مسائل الحريات العامة والديموقراطية والانفتاح السياسي. عربياً، أضيف إلى ذلك كله مبررين آخرين هما أولوية الصراع مع إسرائيل (خاصة في المشرق)، والخصوصية الثقافية. في معظم البلدان. الأول وظف الصراع مع إسرائيل لتأجيل أو بالأحرى وأد أي مطالبات بالحريات العامة، السياسية أو الإعلامية، وحتى الثقافية، فضلًا عن الديموقراطية والتعددية الحزبية، بدعوى أن التحدي الأكثر الحاحاً على الدول والمجتمعات العربية هو الحرب مع إسرائيل وتحرير الأرض المحتلة. استمر هذا المسوغ فعالاً ومستودعاً لشرعيات سياسية لأنظمة عديدة في المنطقة. الثاني، الخصوصية الثقافية، وُظف أيضاً بطرائق خدمت أنظمة أخرى عديدة في المنطقة بزعم أن المجتمعات العربية لها تقاليد وثقافة ودين لا تسمح بالضرورة بـ “نسخ التجربة الغربية الليبرالية” وما يتناسل عنها من حريات و”حيز عام” وديموقراطية. زاد هذان المبرران الضغط على مطالب الحريات العامة والمشاركة السياسية وقاداً عملياً إلى سلطوية سياسية سيطرت على الفضاء العام، والمجتمع، والسياسة والثقافة، ولم تتح أي مجال لنشوء “حيز عام” فعال ولو في حدوده الدنيا.
تعرض النموذج “العالم ثالثي المُمانع” للدمقرطة واللبرلة الغربية، وبتنويعاته المختلفة، إلى انهيارات متتالية، جزئية ومتنوعة، ولم تعد المسوغات التي احتمت بها عشرات الأنظمة السلطوية قادرة على الاستمرار، خاصة وأن مرور عقود من سنين الاحتماء خلف تلك المسوغات قاد إلى انكشافها وزيادة هشاشتها. في غالبية الدول النامية والعربية على رأسها لم تحدث التنمية المُستدامة، ولا الاقتصادات القوية، ولا حتى تكرست هويات وطنية مُعقلنة، وكان الثمن الذي دفعته تلك المجتمعات في تأجيل الحريات العامة ووأدها باهظاً. انهار نفس المسوغ عربياً ومعه انهارت دعاوى أولوية الاستعداد للحرب مع إسرائيل، وكذا وظائفية “الخصوصية الثقافية” التي أرادت أن تبرر ديمومة الاستبداد والسلطوية وتنسبه لجوهرانية عربية وإسلامية متأصلة، تنسخ بوعي أو من دونه مقولات الاستشراق التقليدي. لكن لا يمكن القول أن تلك الانهيارات الجزئية للمسوغات التي تبرر تأجيل ووأد الحيز العام والحريات العامة وصلت إلى نقطة “الانهيار الكامل”، إذ لا تزال هي أو جوانب منها، إضافة لصلابة الأقنوم الأمني، تدعم وترعى الوضع القائم.
لكن وبكل الأحوال قادت تلك الارتجاجات في أركان الوضع القائم العربي ومسوغاته التي دامت طيلة عقود ما بعد الاستقلال إلى انزياحات مهمة في التسيس العربي، وتحدي السيطرة الشمولية للسلطوية السياسية، وقد بدأت تلك المعالم تظهر مع انهيار الثنائية القطبية، وصعود التوجه نحو الدمقرطة في العالم في تسعينيات القرن الماضي. وتواصلت تلك الإنزياحات ومعها الانفكاك التدريجي للقبضة السلطوية على الدولة والمجتمع والفضاء العام، وانفجرت مع هبات الربيع العربي وما نتج عنها من تغييرات درامية وأحياناً جذرية في بعض الحالات. ما يهمنا هنا هو التأمل في السيرورة التي لحقت بـ “الحيز العام” والحريات العامة في بعض الحالات العربية التي تغير فيها النظام السياسي كلياً أو جزئياً، وخفت القبضة “الدولتية” على المجتمع. هنا، ومن ناحية نظرية بحتة وتبعاً لتحليلات وتأملات فكرة “الحيز العام” فإن الافتراض يقوم على أن “تحرير” لهذا الحيز من قبضة الدولة والسلطة يتبعه انتعاش للحريات العامة وانفتاح في النقاش وتسارع في التسيس الحر الذي يعزز أمرين: التعددية والوسطية. تتعزز التعددية لأنه مع النقاش الحر واصطدام الأفكار وخروجها إلى السطح تصبح التعددية والتعايش شرطاً للوجود المجتمعي، وليس ترفاً شعاراتياً أو فكرياً يطرحه طرف من الأطراف. يكتشف الجميع أن البديل للتعايش التعددي هو الإقصاء والاستئصال. وتتعزز الوسطية لأن نفس صدام الأفكار وتلاقحها مع بعضها البعض يكشف سيادة الرمادي في التسيس بشكل عام وأن لا أحد يملك “الحقيقة السياسية” ولا “الحق” في توجيه الآخرين رغماً عنهم نحو الإتجاه الذي يراه. وتعمل هذه الآليات على تهذيب التطرف الفكري والشطط السياسي وتتعزز الأفكار الوسطية وتتجه نحو المركز، وبالتالي تخلق طبقة “وسط عام” صلبة ومعقولة.
ما حدث ويحدث في المشهد العربي، وربما الإسلامي، إزاء هذه السيرورات يتسم بأمر مختلف ومقلق في آن معا. ففي كل حالة حدث فيها زعزعة لمفاصل السلطوية السياسية وتحرير لمساحات من الحيز العام فإن الوافد الجديد الأهم والأكثر تأثيراً في المساحات المحررة كان الخطاب الديني ومن يقف وراءه، سواء تيارات إسلاموية سياسية، أو مؤسسات دينية رسمية أو شبه رسمية (للمقارنة، لنتذكر بأن الوافد الجديد الأكثر تأثير في التجربة الغربية كان قوى رأس المال). لم يشتغل هذا الخطاب الديني بتنويعاته المختلفة وفق الافتراض النظري لفكرة “الحيز العام”، فلم يعزز التعددية ولا الوسطية بمعناها المقصود في النقاش هنا. دخل ويدخل الخطاب الديني وتلاوينه في أي مساحة للحرية ليسيطر عليها ويفرض عليها سلطوية من نوع آخر، دينية هذه المرة، تحل عوضاً عن السلطوية السياسية المنقضية. الخطاب الديني في مجمله العام، أي خطاب ديني وبغض النظر عن الدين المعني، يتصف بأحاديته الصارمة وبقناعته اليقينية بـ “الحق” الذي يرتكز عليه، ولهذا فإن انخراطه في السياسة يجلب عليه، وعلى الآخرين، صداعاً وإشكالات كبيرة عند مواجهته بفكرة “تعددية” الأفكار ورماديتها وبعدها عن الأسود والأبيض.
خلاصة ذلك تقدم لنا إشكالية متعددة الأبعاد وفعلاً معقدة وهي أن الحريات العامة والحيز العام الذي يتم تحريره من السلطوية السياسية يتم الانقضاض عليه فوراً من قبل سلطويات دينية. وهذه الأخيرة تبدأ بفرض قيود واستبداد من نوع جديد، وإذا ما تسلمت مقاليد السياسة في مرحلة موازية نتيجة استغلالها للحيز العام الذي تحرر من السلطوية السياسية المنقضية، فإننا ننتهي إلى سلطوية مزدوجة: سياسية ودينية في آن معاً. هل هذا معناه تأييد الوضع القائم على التغيير؟ طبعاً لا، لأن التغيير فيه دوماً المراهنة على المستقبل وفتح الخيارات، أما رفضه فمعناه الارتكان إلى التكلس والماضي.