سرقت الحركة الصهيونية وطناً كاملاً، ومعه سرقت كل محتوياته من بيوت وأراض ومعالم وأوراق خاصة ومكتبات خاصة وصور فوتوغرافية. كانت سرقة الوطن وطرد سكانه في وضح النهار وقد باركتها دول العالم. أما سرقة محتويات البيوت والمخازن والمحلات التجارية فقد تمت أيضاً أمام عيون أصحابها، أو أقربائهم الذين بقوا في الوطن. وقد وُثّق النهب في كثير من الأحوال فوتوغرافياً وعلى يد مصورين من الجيش الغاصب ذاته. ففي أرشيف مكتب الصحافة الحكومي في غربي القدس وُجدت قبل عقود صور تعود لأول عام أو اثنين من تأسيس دولة إسرائيل توثّق نقل مهاجرين جدد للأثاث من بيت لآخر بعد إسكانهم في بيوت الفلسطينيين الممنوعين من العودة.
الصورة أعلاه هي لواحدة من هذه الصور والتي تعود لعام ١٩٤٩، وهي لمهاجرين يهود من إحدى الدول العربية يسرقون مقاعد من بيت في عين كارم قرب القدس وهي من تصوير جندي إسرائيلي مشارك في العملية. ولدينا توثيق عبر اليوميات لسرقات البيوت في ذات العام، حيث كتب جريس السلطي، والذي قد بقى في منزله في البقعة في القدس بعد سيطرة قوات الهاجاناه عليها، كتب في مفكرته يوم ١٩ أيار ١٩٤٩وصفاً لما رآه من نهب لبيت جيرانه معلناً أنهم “اليوم أجو أخذوا من دار ابو جظم باقي عفشه وأخذوا أيضاً بلاط الحمامات وقد صحنا عليهم فلم يردو علينا”، وأورد جون روز، الأرمني الذي بقي في منزله في غربي القدس بعد سقوط ذلك الشطر من المدينة بيد القوات الصهيونية، أيضاً الملاحظة التالية في مذكراته المنشورة تحت عنوان «أرمن القدس»:
في اليوم التالي وفي حوالي الرابعة من بعد الظهر توقفت حافلة شحن خارج بوابة الحديقة الأمامية. خرج منها خمسة رجال مسلحون دخلوا إلى الطابق العلوي لبيتنا. بقينا في الداخل وراقبناهم وهم يأخذون الفرشات والمخدات واللحف وكل ما يمكن حمله ملقين بها من النوافذ إلى الحديقة. لقد حملوا العفش عبر بيت الدرج للأسفل. رأيت آخر الخارجين من البيت، رجل يحمل عوداً قد وجده فوق الخزانة. وقد ألقى اللصوص المفاتيح باتجاهنا غير عابئين. بعد خروجهم صعدنا للطابق العلوي لترتيب ما تبقى ورُكبنا ترتعد من هول هذه التجربة.
والزائر اليوم لمحفوظات المكتبة الوطنية في الجامعة العبرية يمكنه بسهوله أن يجد رفوفاً من الكتب العربية مصنفه تحت بند “ملكيات متروكة” وبها تواقيع وإهداءات من مؤلفيها لأشخاص فلسطينيين نهبت مكتباتهم بعد النكبة بقليل، ففي أحد كتب المؤرخ المقدسي عارف العارف نجد إهداءً لصديقه عمر البرغوثي مثلاً، وقد استخدمت هذا الاهداء حديثاً الفنانة إملي جاسر في أحد أعمالها الفنية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى أعمال المصورين الفوتوغرافيين الذين عملوا في بلدان فلسطين قبل النكبة، فقد نُهبت أعمالهم وبعضها وجد طريقه للسوق. فبرغم أن أحد مساعدي المصور خليل رعد قد تمكن عام ١٩٤٨ من التسلل لمحترف رعد، والذي أصبح بعد تقسيم مدينة القدس في المنطقة الحرام، وإنقاذ جزء كبير من مجموعة المصور، إلا أن صور رعد وجدت طريقها للأرشيفات الإسرائيلية ولأسواق التجارة بالتحف القديمة. ففي كتاب حول مصوري الشرق نُشر عام ١٩٨٨ لنيسان بيرس، قيّم معارض متحف إسرائيل، نجد صوراً لرعد مرفقة بالتعليق أن المصور “غير معروف”، وقد أقامت قيّمة المعارض والباحثة الإسرائيلية رونا سيلع معرضاً حول أعمال خليل رعد الفوتوغرافية مستندة إلى ألبومات رعد التجارية والتي وجدتها بحوزة أحد مجمعي الصور القديمة الإسرائيليين، وقد نشرت كتاباً بالعبرية حول أعمال رعد. وها هي الآن ذات الباحثة تجد ما فقده الفلسطينيون من صور للمصور خليل رصاص في أرشيف “وزارة الدفاع” الإسرائيلية وتقيم معرضاً حوله.
لا احتجاج لدي على أن ينشر الباحثون ما يجدونه، وبخاصة إذا وُضع في سياقه التاريخي المرتبط بعملية السرقة والنهب، وهذا ما تفعله سيلع، وما فعله عدد من المؤرخين الإسرائيليين بما في ذلك الصهاينة مثل بني موريس. لكن ما يزعجني أحياناً هو الادعاء التام بأن ما يعرضه هؤلاء هو اكتشاف خاص بهم، وليس فقط أنهم وجدوا ما فقد. ويذكّرني هذا بأعمال “المكتشفين” الأوروبيين في القرن التاسع عشر والذين غاص بهم الشرق ليعلنوا أنهم اكتشفوا منابع النيل، أو الأهرامات، أو بركة سلوان في القدس أو غيرها من المعالم الماثلة للعيان لكل من عاش في المنطقة. بمعنى آخر أن اكتشافاتهم هذه كانت اكتشافات لِما لم يكن يعرفه الأوروبيون، وليس لما لا يعرفه القاطنون بجوار هذه المعالم. ففيلم بني موريس «النكبة» والذي هو فيلم توثيقي هام أُنتج بمناسبة خمسين عاماً على قيام إسرائيل، كشف الستار للجمهور الإسرائيلي عما حصل للفلسطينيين عندما قامت دولة ليست لهم في وطنهم عام ١٩٤٨، لكنه لم يكشف شيئاً لم يعرفه حتى أصغر فلسطيني عما حصل آنذاك. برغم الأهمية القصوى لأعمال فنية وبحثية كهذه وغيرها من قبل باحثين إسرائيليين وآخرين، لكنها تتجاهل بالأساس حقيقة أن الضحية تعرف الحقيقة وبالتفاصيل. إنها تماثل عملية “اكتشاف” أمريكا على يد المدعو كولومبوس عام ١٤٩٢ عندما أضاع هذا الملّاح المتجه للهند الطريق ووصل لبلاد لم يعرفها من قبل استنتج أنها الهند، وإلا لكانت سميت القارة باسمه لتصبح كولومبيا بدل أمريكا، كون “مكتشف” آخر أعلن انها ليست الهند ولذلك سميت باسمه، أمريكا نسبة لأمريكو فسبوتشي.
لكن هناك أيضاً جانب آخر لعملية نهب الموروث الثقافي للشعوب وبحالتنا هذه الشعب الفلسطيني، وهي عملية الإهمال ومساهمة أبناء البلد ذاتهم في ضياع الكنوز الثقافية هذه. ففي خلال عملي في البحث عن أعمال المصورين الفوتوغرافيين الفلسطينيين لطالما التقيت بأبناء أو أحفاد لهم ساهموا بتدمير أعمال رواد التصوير الذين كنت أبحث عنهم. فهناك ابن مصور هام زرته ذات يوم، قبل خمسه عشر عاماً أو أكثر، ليبلغني بأنه أحرق مجموعة والده لأنه بحاجة لاستخدام المستودع والذي قد امتلأ بصور لناس ماتوا منذ زمن وليس هناك أهمية لحفظ صورهم، أو الصور التي وجدتها المصورة أحلام شلبي ملقاة على قارعة الطريق عندما هدمت العمارة التي كان فيها محترف تصوير باسم “ستوديو فينوس”. وهناك من أخبرني أن أفراداً من الجيش الأردني المقيم في بيت إسعاف النشاشيبي، أديب العربية في فلسطين قبل النكبة، والذي تحول لثكنة عسكرية كونه قد وقع على خط التماس ما بين حي الشيخ جراح في القدس والبؤرة الإسرائيلية على جبل سكوبس أو الطور حيث بقيت الجامعة العبرية تحت سيطرة إسرائيل، كانوا يحرقون الكتب والأوراق الموجودة في البيت للتدفئة في الشتاء. وذات يوم قرر أحد الضباط أنه بحاجة إلى استخدام غرفة المكتبة في بيت إسعاف وبالتالي أمر جنوده بإلقاء الكتب على حافة الطريق. وقد صادف أن الكتب قد ألقيت في ذات اليوم الذي كانت تعبر به القافلة الإسرائيلية التي كانت تمر من المكان في طريقها للجامعة العبرية (فقد سمح بحسب اتفاقيات الهدنة لقافلة إسرائيلية بالعبور لمرتين في الأسبوع عبر الأراضي الواقعة تحت السيطرة الأردنية للوصول إلى جيب الجامعة العبرية). وفي ذلك اليوم اختفت كتب إسعاف عن قارعة الطريق، لتظهر لاحقاً في الجامعة العبرية تحت تصنيف “ملكيات متروكة”. هل أنقذت القافلة الإسرائيلية مكتبة النشاشيبي من الضياع؟ أم نهبتها؟ طبعاً الإجابة تشمل الشقيْن، لكنها أساساً تشير لعدم وعي ذلك الضابط لأهمية ما أمر بإلقائه في حاوية القمامة. بالطبع هذه حالة واحدة، وليست القاعدة في طريقة النهب الإسرائيلية لمقتنيات عرب فلسطين، لكنها حالة استثنائية هامة جداً ولها دلالات جوهرية لا تقتصر فقط على ما حصل قبل سبعين عاماً، إنما على ما يحصل حتى أيامنا هذه.
لتوضيح ذلك سأعطي أمثلة معاصرة أخرى منها قصة صديق باحث كان يشتري من بائع متجول ليكتشف أن البائع قد لف ما اشتراه صديقي بأوراق من مجلات فلسطينية تعود لمرحلة الانتداب البريطاني. لحسن الحظ أن الباحث عاد للبائع واشترى منه بقية الأوراق ووضعها في عهدة أرشيف محلي. لقد أنقذ صديقي جزءاً من الأوراق، لكنه لا يعلم كم من الأوراق الأخرى قد ضاعت قبل أن يذهب هو لذالك البائع. ولا ننسى أن أرشيف مركز الأبحاث الفلسطيني والذي قد نهب في بيروت من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي عام ١٩٨٢، قد أعيد للمنظمة إثر عملية تبادل أسرى عام ١٩٨٤ تقريباً، لكن الأرشيف ذهب لقاعدة فلسطينية في أحد الدول البعيدة -أعتقد انها الجزائر- وبقي في صناديق أتلفتها المياه والرطوبة وما عادت صالحة للحفظ وقد تم تدميرها. لكني عندما زرت أرشيفاً إسرائيلياً قبل عقد من الزمن، أراني مدير الأرشيف المتعاطف مع الفلسطينيين غرفة قال لي أن فيها نسخة عن أرشيف مركز الأبحاث، وأعلمني أنه من غير الممكن لي الاطلاع عليها كون ذلك يحتاج لإذن أمني.
المسألة مركبة إذاً، ففقدان الموروث الثقافي الفلسطيني عملية متشعبة ساهم فيها الإهمال ولو بدرجة صغيرة، لجانب النهب والمصادرة. لكن كيف للفلسطيني أن يعيد شظايا من موروثه الثقافي حتى لو لم يتمكن من إعادته مادياً؟
الإجابة عن هذا السؤال تبقى جزئية، ورهناً بالنشاط الفردي حتى الآن. فهناك بعض الأفراد من بحاثة وجامعي مقتنيات وفنانين قد قاموا فعلًا بإعادة الاعتبار لموروثات ثقافية نُهبت أو ضاعت. فسليم تماري على سبيل المثال قد نشر كتاباً بعنوان «عام الجراد» مستنداً إلى دفتر يوميات جندي عثماني مقدسي يدعى إحسان الترجمان. دفتر الترجمان كان ضمن مجموعة وثائق في الأرشيف الإسرائيلي تتعلق بأوراق ملكيات -أي قد صُنف خطأً- وقد وجده عادل مناع واستخدمه لكن بدون أن يعرف من هو صاحب اليوميات، وقد استخدمته أيضاً باحثة إسرائيلية وأوصلته لتماري والذي درسه بتأن وعبر بحث مضن ليكتشف من هو صاحب اليوميات. وبالنتيجة فقد عاد الترجمان إلى الوعي الفلسطيني، وإن لم تعد أوراقه الأصلية، وذلك بجهد بحاثة مختلفين أهمهم سليم تماري الذي لم يكتفِ بالإشارة للمفكرة كما فعل غيره. وهناك أيضاً النصراوي أحمد مروات والذي اشترى من بائع مقتنيات إسرائيلي مجموعة صور المصورة كريمة عبود المفقودة برغم أن اسمها كان معروفاً في أوساط ضيقة، ليعيد عبود كاسم هام في أوساط مصوري فلسطين المحليين الأوائل. ولأن أولى المعلومات حول عبود والتي كتبها مروات كانت غير صحيحة، فقد ظهرت المعلومات عنها لاحقاً وقد راجع مروات المعلومات السابقة وصححها، وهناك العديد من الأمثلة المشابهة والتي أعادت الاعتبار لأعمال أو لأسماء اختفت منذ النكبة. لكن المؤسسة الرسمية الفلسطينية لا علاقة لها بكل ذلك، ومازالت أرشيفاتها الرسمية مبعثرة ولا تحوي ما يغني أو يسمن من جوع.
وبالعودة للباحثين الإسرائيليين مرة أخرى، ففلسطين قد أصبحت صنعة أو وظيفة لعدد منهم، أو ربما التزاماً سياسياً وأخلاقياً لعدد آخر. وقد تزعجنا الاستشراقية في عمل بعض البحاثة، لكنهم يشيرون لنا أن شظايا من تاريخنا موجودة لدى من سطا عليها، ولعل في هذا عبرة لنا بأن نهتم أكثر ليس فقط في إيجاد ما فُقد، واستعادته، بل أيضاً في الحفاظ على ما لم يُفقد بعد.