لم أكن أدرى أن قراراً لرئيس أمريكي معتوه بشأن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل سيؤثر فيَّ لهذه الدرجة، فأنا أعرف أن الولايات المتحدة هي رأس الأفعى في الحرب على فلسطين وشعبها، وهي الداعمة الأكبر لدولة الاحتلال والعصابة اليمينية المتطرفة التي تقود حكومتها اليوم. لكن الأمور الرمزية على ما يبدو، لها أثر كبير فينا نحن من نعتبر أنفسنا مقدسيّين، حتى وإن كنا ممنوعين من دخول مدينتنا. نعم أنا مقدسي وفلسطين بالنسبة لي مرتبطة وجدانياً بالقدس، مدينة أمي وأبي، مدينة طفولتي ومراهقتي، مدينة أقربائي الذين طردوا منها عام ١٩٤٨، أو الذين حُرموا مما تبقى منها بعد عام ١٩٦٧.
توفي والدي قبل سنوات، لكنه في أواخر أيامه كان يبكي بحرقة على بيته في حي المصرارة والذي تحول إلى منطقة حرام ما بعد تقسيم المدينة عام النكبة. كانت صورة طاولة المطبخ وعليها كاسات شاي نصف ممتلئة، كون النصف الآخر قد تم احتساؤه، باقية في مكانها كما تركها عندما غادر البيت في عصر يوم ملتهب وحزين. كان البيت قريباً من البلدة القديمة، لكن الحدود المرسومة في رودوس أو القائمة على الأرض، حرمته من الوصول إليه. فالمنطقة الحرام تفصل ما بين جيشين وعالمين والدخول إليها محظور. أتخيل والدي يقف على سور القدس فوق باب العامود، أو في الجزء العربي من المصرارة قرب فرن الكعك، وينظر باتجاه بيته والذي كان بعيداً كل البعد رغم أنه لا يبعد عنه سوى مئة متر.
أخيله يقف ناظراً إلى البيت، لكني غير قادر على تخيل ما كان من الممكن أن يدور في خلده. وأعرف أن احتلال شرقيّ المدينة عام ١٩٦٧ والذي ألغى المنطقة الحرام، لم يخفف عليه شيئاً، فسرعان ما بدأت إسرائيل بنقل مواطنيها اليهود للبيوت المتروكة، ومنها بيتنا. لم يزر أبي البيت مطلقاً رغم أن الإمكانية كانت واردة بعد الاحتلال، ولم يصحبني لرؤية البيت ولو عن بعد.
لكني اكتشفت البيت بمحض الصدفة ذات يوم. كنت أسير في شارعنا، شارع الأنبياء، مساء يوم جمعة، حيث يكون ذلك الجزء من المدينة وكأنه مهجور كون اليهود المتدينين يلتزمون بحرمة السبت، أو الشابات كما يسمونه. لا أحد غيري في الشارع المهجور، لكني سمعت صوت محمد عبد الوهاب يغني “يا مسافر وحدك“، وكان يصدع في الحي. كان اليوم دافئاً وكانت النوافذ مفتوحة على مصرعيها، وصوت عبد الوهاب يمر عبرها من الراديو أو جهاز التلفزيون في كل بيت. شعرت لحظتها أنني في بيتي وحارتي.
بيوت تبدو مهجورة لكن الموسيقى العربية كانت تخرجها من سباتها. بالطبع السبب الواقعي كان أن المنطقة مأهولة بيهود من أصول عربية ما زالوا يسمعون عبد الوهاب ويحنون لأحيائهم في المدن العربية التي جاؤوا منها. لكن بالنسبة لي، كان الأمر كما ولو أنني قد دخلت إلى “جهاز ناقل عبر الزمن” أو ”تايم ماشين“ كما نراها في الأفلام، فيكون الزمن قد عاد بي لعام ١٩٤٨ عندما فرغت البيوت من أصحابها، لكنهم قد نسوا أن يطفئوا المذياع، كما نسي والدي أن ينهي كأس الشاي قبل مغادرته.
زرت البيت بعد ذلك مع أمي، ولم يسمح لنا قاطنوه بالدخول، لكننا تجولنا في باحة المنزل بشكل كاف لأمي كي تتذكر اسم كل من عاش في الحي وتريني بيوتهم. لقد كانت هذه بداية عودتي لعالم كان ما يزال ينبض بالحياة في ذاكرة والدتي. ذهبنا بعدها لعدد من المناطق الأخرى في قدسنا التي احتلت عام ١٩٤٨، وتعرفت أمي على بيوت أقربائها في حي البقعة، وقطفت ليمونة من شجرة زرعتها قريبتها “ظريفة” بعد عرسها وانتقالها لبيتها الخاص في البقعة.
وظريفة هذه من أقرباء أمي الذين انتهى بهم المطاف في المنافي في الأردن ولبنان وغيرهم. رأينا فوق بيوت البقعة الأحجار المنحوت عليها بالعربية أسماء من بناها وامتلكها، وقد تعرفت أمي على العديد من الأسماء. كانت الأسماء مرفقة بتاريخ البناء وبمسحة دينية ما حيث رأينا من كَتَبَ “هذا من فضل ربي” أو من وضع صليباً أو ”شكرا لله“ في أعلى الأحجار. رأينا عالماً مخفياً عن الأعين، وبخاصة أعين من يسكن الحي الآن، لكن الشواهد على وجوده ظاهرة للعيان. شعرت بغصّةِ من خسر كل شيء وأُخفيت آثار الجريمة التي ارتُكبت بحقه. تخيلت كم أمكن لحياتي أن تكون مختلفة، لدرجة يعصب تخيلها، لو بقينا في حينا ولم تقم دولة إسرائيل ولم نُهجّر نحن ومئات الآلاف من أشقائنا وأبناء موطننا. لقد غيّر غيرنا حيواتنا الممكنة من دون استشارتنا أو أخذنا بعين الاعتبار، وما زلنا ندفع الثمن في مخيمات اللجوء أو حتى في بيوتنا في ما تبقى من فلسطين. وما زال أبناء القدس يُطردون من بيوتهم والتي ينتقل إليها المستعمرون.
حتى قبل إنشائها رسمياً في أيار ١٩٤٨، قامت إسرائيل -آنذاك الحركة الصهيونية ممثلة بقوات الهاجاناه والبلماخ- بطرد حوالي ثلاثين ألف فلسطيني من بيوتهم وأحيائهم في القسم الغربي من المدينة. لكن عدداً قليلاً بقي في الشطر الغربي، عدة آلاف بحسب بعض الإحصائيات، وبضع مئات حسب ما أورده أبناء المدينة المتبقين. هؤلاء مُنعوا من التجول بحرية ومن الاحتفاظ ببيوتهم في غالب الحالات، فقد تم نقلهم إلى منطقة خاصة سُمّيت بالمنطقة أ (أو Zone A) حيث أقاموا في بيوت فلسطينيين آخرين تركوا المدينة. منحتهم السلطات وثائق إقامة مؤقتة لمدة ثلاث شهور قابلة للتجديد، وسعت بكل الطرق إلى منعهم من الاستمرار بالحياة الطبيعية ومحاولة طردهم بالتدريج.
يصف جريس السلطي، والذي بقي مع جزء من عائلته في بيته بحي البقعة بعد عام من سقوط منطقته بيد الدولة حديثة الولادة، شعوره وهو يسير في الشارع ذات مساء من عام ١٩٤٩ قائلا “إن القمر بدر والمشي جميل ولكن الدور والشوارع مليئة بأناس أغراب وأهل البقعا غير موجودين. المناظر جميلة لكن الحالة محزنة.“
تطهير المدينة عرقياً، كما نرى من تجربة عام النكبة، سياسة ممنهجة لم تتغير منذ تأسيس إسرائيل على أنقاض فلسطين وقد استمرت هذه السياسة بعد احتلال الشطر الشرقي من المدينة من الأردن عام ١٩٦٧، وما زالت تُمارس سياسة إبعاد الفلسطيني عن مدينته بكافة الوسائل بما فيها سحب حق الإقامة -الهوية المقدسية- لمن يعيش خارج حدود المدينة أو في خارج البلاد. فإسرائيل ما زالت تطرد العربي من بيته وتسيطر عليه أو تهدمه، وهي بذلك تتجاوز حتى معاييرها التي استخدمتها بعد عام ١٩٤٨ في القدس والمدن حيث كانت السياسة فقط الاستيلاء على البيوت وليس هدمها، كما حصل في القرى التي هُدّمت بعد النكبة.
وبالعودة إلى حنيني الخاص للمدينة وارتباطي بها، فهي مدينة طفولتي وشبابي المبكر والتي فيها تعرفت على المسرح والندوات الثقافية والمعالم التاريخية والسرديات المختلفة، لا بل والمتناقضة حول هذه المعالم. ففي القدس كانت البدايات بالنسبة لي على عدة مستويات ثقافياً، وفنياً ومطبخياً، كما كانت مدينة البدايات لعائلتي. ففي القدس تعرفت على السياح الأجانب، وكل منهم قد جاء لسبب مختلف عن الآخر، وعبرهم فهمت كيف أن معاني القدس الخاصة بكل التي شكلوها وتعلموها أحياناً، تعميهم عن رؤية وفهم ما يجري بقرب المواقع التي يزورونها. ولربما كان هذا سبباً في رغبتي الجامحة للتعرف على المدينة وتاريخها عبر المواقع الأثرية ودور العبادة والبنايات. وهكذا كان أن تعرفت على تفاصيل لمواقع وشوارع أمرّ بها لكني لا أعرف تاريخها. فمدرسة الأيتام مثلاً هي تكية بنتها زوجة السلطان العثماني سليمان واسمها خاصكي سلطانة، وبوابتها الكبيرة مبنية على الطراز المملوكي في العمارة. وفي كنيسة القيامة هناك من نحتوا أسماءهم على الحجارة ووضعوا تواريخ يعود بعضها لعدة قرون. وهناك في كل النواحي زوايا صوفية تعرف بالخاناقاة وتنتمي لعدد من الطرق الصوفية. وهناك، أمام قلعة باب الخليل، وقف اللنبي عام ١٩١٧ وألقى خطابة الشهير بعد احتلال قواته للمدينة، حيث أبلغ صلاح الدين عن عودة القدس للصليبيين. وهناك في قبر البني داوود ما يشير بوضوح إلى أن المكان قد بني كمسجد، وليس ككنيس يهودي.
ولكني أيضاً عرفت القدس من روائحها، فهي مدينة لها عطر خاص يميز كل حي فيها، فهناك سوق العطارين حيث تغلب رائحة الكمون المطحون على روائح بقية التوابل، وهناك سوق القطانين حيث رائحة القِدَم كون المكان مظلم بشكل عام، أما سوق اللحامين، فكنت أركض عبره قاطعاً أنفاسي نظراً لقبح رائحة الأغنام المغدورة المعلقة جثثها أما أبواب اللحامين. أما خارج القدس القديمة فهنا روائح الأطعمة التي يبيعها سائقو العربات، ولعل أهمها في ذاكرتي هي رائحة الكعك المقدسي الشهير، أو رائحة النعناع الطازج في الربيع المعروض أمام بائعاتٍ حضرن من القرى المجاورة. وحتى في القدس الغربية والتي اقتُلع أهلها عام النكبة، هناك رائحة القرفة في الأحياء التجارية -المستخدمة في الحلويات الأوروبية الطابع- وروائح الياسمين أمام البيوت العتيقة والتي شُرّد أهلها واستوطن بها قادمون جدد. فقد طُرد أصحاب البيوت لكن الياسمين الذي أكثروا من زرعه عند بوابات حدائقهم ما زال يعبق، ربما استعداداً لعودتهم في أية لحظة.
قدسي هي مدينة ككل المدن، لكنها أيضاً مدينة ليست كأي مدينة أخرى. فهي مدينة تعبق ليس بالحياة فحسب بل أيضاً بالتاريخ والعراقة وبالتقاليد، مثل عيد سبت النور في كنيسة القيامة أو ليلة القدر في المسجد الأقصى. لكنها مدينة مقهورة تشعر حال المشي في شوارعها أنك غريب في الأحياء التي تم استعمارها، أو حزين في الأحياء الفلسطينية المتبقية كون الحزن ظاهراً على وجوه أهل المدينة. هذه هي قدسي التي لن يعرفها ترامب المأخوذ بقدس متخلية غير حقيقية.