تُعتبر السينما، بخلاف كونها فنًا مرئيًا، وسيلة لتوثيق حال المجتمع، ومن خلالها يمكن أن نرصد حال الشعوب وتاريخها، لذلك فإن السينما منذ نشأتها قد انشغلت بالقضايا وبالمشاكل سواء كانت إنسانية أو إجتماعية أو سياسية أو قومية، وقد حاولت قدر المستطاع أن تقدم رؤى مختلفة لتلك القضايا، ومن أهم القضايا التي تناولتها السينما، وتحديدًا السينما المصرية، قضية فلسطين. فهل نجحت في ذلك؟
ربما يكون فيلم “فتاة من فلسطين” أقدم الأفلام المصرية التي تعرضت لتلك الإشكالية… والفيلم تم إنتاجه في عام النكبة، 1948، وهو بطولة محمود ذو الفقار وإخراجه أيضًا، وقد شاركته في البطولة سعاد محمد، وكتبته عزيزة أمير ويوسف جوهر، وتدور أحداثه حول الضابط المصري الذي يدافع عن الأراضي الفلسطينية ضد العدو الصهيوني، وذات مرة تصاب طائرته فيسقط في قرية صغيرة بفلسطين، وهناك يتعرف على سلمى التي تتولى العناية به في منزلها، ويتعرف أيضًا على مجموعة من الفدائيين الذين يدفعون حياتهم مقابل الأرض والوطن، وتتوطد علاقته بسلمى فيقع في حبها، خصوصًا بعد معرفته أن بيتها ما هو غير مركز للمقاومة، وفي النهاية يتزوج منها في حفل عربي فلسطيني حيث يزفه الفدائيون.
في العام نفسه، 1948، قدم المخرج نيازي مصطفي فيلم “أرض الأبطال” بطولة كوكا وجمال فارس، وإن كانت قصته لا تبتعد كثيرًا عما سبقه، فالبطل جمال تضربه الصدمة حين يعلم أن الفتاة التي يحبها ستتزوج من والده الثري، فيقرر ترك البلاد ويسافر إلى فلسطين وهناك يتعرف على كوكا ويقع في حبها، ثم ينضم إلى المقاومة غير أن والده يعقد صفقة سلاح مع رجال المقاومة وإذ بها أسلحة فاسدة تتسبب في فقدان بصر الابن، وهي إشارة واضحة لصفقة الأسلحة الفاسدة حينذاك.
بعد ثورة يوليو بعدة أعوام، في عام 1957 قدم المخرج كمال الشيخ مع فاتن حمامة وعمر الشريف فيلم “أرض السلام”، ما يحسب فعليًا لهذا الفيلم أنه أول فيلم يستخدم اللهجة الفلسطينية، والفيلم هو تكرار لنفس القصص الفائتة تقريبًا حيث المناضل أحمد الذي ينضم للمقاومة ضد الصهاينة فيسقط في حب سلمى الفلسطينية لتنتهي قصة الحب بالزواج كالعادة.
قبل هذا الفيلم بعامين فقط، 1955، وبأمر من جمال عبد الناصر شخصيًا تم عرض فيلم “الله معنا”، والفيلم تم تصويره في عهد الملك. غير أن الملك فاروق منع عرضه. وهو يحكي عن الضابط عماد الذي يشارك في حرب 48 ليقع ضحية الأسلحة الفاسدة فيفقد ذراعه وعند عودته يكتشف أن والد حبيبته نادية متورط في تلك الصفقة المشبوهة فتساعده. والفيلم من بطولة عماد حمدي وفاتن حمامة، وإخراج أحمد بدر خان، أما القصة فللكاتب الكبير إحسان عبد القدوس.
ويبدو أن بعد النكسة انشغلت السينما المصرية بقضيتها الداخلية، وانصرفت عن قضية فلسطين فلم يظهر أي فيلم يناقش القضية الفلسطينية إلا بعد نصر أكتوبر بعامين، في 1975، من خلال فيلم “الظلال في الجانب الآخر”، والفيلم ناقش القضية وقضايا أخرى من منظور مختلف هذه المرة، وهو من إخراج غالب شعث، وتأليف محمود دياب، وبطولة نجلاء فتحي ومحمود ياسين، ويتناول الفيلم علاقة حب محمود وروز التي تسفر عن جنين، فيهرب محمود من المسؤولية ويلجأ إلى العوامة حيث الأصدقاء الجُدد، وهناك تُدار المناقشات عن ظروف البلد الداخلية والخارجية، وأهم تلك المناقشات ما يدور في فلسطين، وفي النهاية تموت الطفلة وتنتحر البطلة كعادة أفلام السبعينيات.
فيلم “إسكندرية ليه؟” ليوسف شاهين يعد أهم محطة في تناول السينما للقضية الفلسطينية، هو يعتبر من زاوية ضيقة أول سيرة ذاتية سينمائية للمخرج الكبير، ولكن من زاوية أوسع هو رصد لتاريخ دول تتبدل أحوالها حيث نهاية الحرب العالمية الثانية وتأثيرها على البلدان والشعوب والأشخاص أيضًا، والفيلم من إنتاج عام 1978، وفيه يعرض شاهين مقتطفات من حياته من خلال شخصية يحيى الفتى الذي يعشق السينما بجنون، ويتطرق إلى التهجير القسري في فلسطين وتشكيل العصابات الصهيونية، ويصبح صديق اليوم عدو ومغتصب في الغد، فصديقه اليهودي الذي كان يرافقه دومًا يرحل إلى فلسطين ليكون واحداً من عصابة تعمل على قتل المواطنين هناك، ولنا وقفة أيضًا عند شخصية سارة، نجلاء فتحي، اليهودية وعلاقة حبها مع إبراهيم، أحمد زكي، ورفضهما لسياسات حكامهما، وتعلقهما ببعضهما في علاقة حب.
أما فيلم “ناجي العلي” الذي تم عرضه عام 1992 فيُعتبر حالة متفردة، وهو من إخراج عاطف الطيب، وتأليف بشير الديك، وبطولة نور الشريف، ويصنفه النقاد على أنه سيرة ذاتية، ولكن المتأمل الحقيقي لأحداث الفيلم سيدرك على الفور أنها سيرة وطن يناضل بالكلمة أو الصورة ليكون جزاؤه في النهاية الاغتيال، والفيلم يحكي عن ناجي العلي رسام الكاريكاتير الأشهر، ومبدع شخصية حنظلة، وعن نضاله بفنه ضد الصهيونية بأسلحتها، وكيف للرسمة أن ترهب جيشاً بأكمله فيلجأ إلى قتل صاحبها.
قبل الانتفاضة الفلسطينية الثانية بعامين تقريبًا ظهر على الساحة السينمائية ما عُرف باسم سينما الشباب، ويعتبر مدحت العدل والمخرج سعيد حامد أهم مؤسسي تلك الظاهرة التي لم تعد ظاهرة في الحقيقة، وقد كان فيلم “صعيدي في الجامعة الأمريكية” تدشيناً لمرحلة سينمائية جديدة تعبر عن الشباب ووعيهم بالقضايا، والفيلم من بطولة هنيدي ونخبة من الشباب الذين أصبحوا نجوماً فيما بعد، وتدور أحداثه حول خَلَف، الفتي الصعيدي الذي جاء من قريته ليلتحق بالجامعة الأمريكية، فينشغل بالموضة والفتيات إلى أن يعرف طريقه في النهاية، وأنه لا بد أن يصبح صاحب قضية، ويحرق علم إسرائيل ليصبح بطلاً في عيون الجميع! بعدها بعدة أعوام اندلعت انتفاضة الحجارة وأصبح حرق العلم الإسرائيلي داخل جامعات مصر هو المشهد الأكثر انتشارًا.
بعد ثلاثة أعوام يكتب مدحت العدل فيلم “أصحاب ولا بزنس” ويخرجه علي إدريس، وهو من بطولة مصطفي قمر وهاني سلامة، ويحكي الفيلم عن صديقين يتنافسان على إعلان لشركة ملابس، كريم وطارق، ويفوز طارق بالإعلان في حين تجبر المحطة كريم أن يسافر إلى فلسطين لتغطية أحداث الإنتفاضة، وهناك يتعرف على جهاد الذي يقرر أن يفجر نفسه في كمين لجيش الاحتلال ليفوز كريم بسبق إعلامي يضمن له جماهيرية عريقة، والفيلم لا يخرج عن كونه سطحياً جدًا سواء في اختيار الأسماء أو على مستوى التعامل مع القضية وأهلها.
ولكن في عام 2004 ظهر فيلم “باب الشمس” ليعيد للقضية رونقها وعمقها، والفيلم مأخوذ من رواية إلياس خوري الكاتب اللبناني المولود في بيروت 1948، أي أنه ابن عام النكبة، وهي رواية بديعة تحمل نفس اسم الفيلم، وقد أخرجه يسري نصر الله. والقصة تسرد تاريخ شعب بأكلمه من خلال قصة يونس ونهيلة، زوج وزوجة في مواجهة الاحتلال الذي يفرّق بينهما فيلتقيان سرًا في باب الشمس، وهو يعتبر الفيلم الأصدق والأجمل فنيًا، ولعل ذلك ما دفع الناقد رفيق الصبان بأن يقول عنه: “باب الشمس فيلم نفتخر به، وكنا ننتظره من سنين طويلة عن قضية هي قضية عمرنا كله وقضية أولادنا من بعدنا، قضية عرف يسري نصر الله كيف يجعلها درة حقيقية على رأس السينما المصرية”.
غير أنه بعدها بعام، 2005، تم تقديم القضية في شكل مبتذل للغاية من خلال فيلم “السفارة في العمارة” الذي أخرجه عمرو عرفه وكتبه يوسف معاطي، وهو من بطولة عادل إمام وداليا البحيري، وقد تفنن الكاتب يوسف معاطي في جعل القضية تافهة، فالبطل/ المناضل شريف خيري رغم سنه الطاعن إلا أنه زير نساء من الدرجة الأولى، يعمل في الإمارات ولكن يُطرد من عمله بعدما اكتشف مديره بأنه على علاقته بزوجته، فيعود إلى القاهرة حيث شقته القديمة التي تجاور السفارة الإسرائيلية، ينزعج لأن وجود السفارة بالعقار يمنعه من متعه. غير أنه مع الوقت تبدو أن السفارة قد حلت كل مشاكله، وفي إحدى جولاته يتعرف على “داليا، من اليسار التقدمي”، هكذا اسمها بالكامل لنكتشف معه أن اليساري المصري ما هو غير كاريكاتر أجوف وقذر ومنحل، هذا ما أبرزته عائلة داليا! ولإعجابه بداليا يقرر أن يناضل ويرفع قضية لطرد السفارة من العقار. غير أن مقتل صديقه إياد -طفل فلسطيني أنقذه من الموت في الإمارات- بث روح الوطنية فيه فجأة. فصُناع الفيلم لم يروا في فلسطين غير طفل بشال، وفي اليسارية غير أسرة منحلة ومعقدة، وفي النضال غير كهل متصابي يعيش لمتعه الخاصة!
إنه التناول، وطريقة العرض التي جعلت من قضية واحدة -القضية الفلسطينية- أشكالاً متعددة الأوجه لتتسم مرة بالنمطية وأخري بالسطحية وتارة بالعمق والمُعاشة وتارة بالإبتذال والمتاجرة. وتبقى القضية الأصلية كما هي، في انتظار حل فعلي وواقعي.