أفينيون: «خمس حقائق» لكاتي ميتشل.. مشهد انتحار يلخص قرناً من المسرح

من العرض

ياسر أبو شقرة

كاتب مسرحي فلسطيني سوري

خمس حقائق، هكذا عنونت كاتي ميتشل دقائقها العشر، لا خمس وجهات نظر، لتعلن أن كل وجهة نظر حقيقة، وبالتالي لا حقيقة مطلقة، خمس أوفيليات تؤديهن نفس الممثلة، ترتدين الثياب ذاتها، تحملن الزهور ذاتها، يقلن الكلام ذاته، وجميعهن ينتحرن غرقاً، وعلى الرغم من ذلك بقين خمس أوفيليات لا يوحين بأنهن شخصية واحدة إطلاقاً، لكل واحدة شخصيتها وسياقها وتفاصيلها النفسية.

للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

23/07/2017

تصوير: اسماء الغول

ياسر أبو شقرة

كاتب مسرحي فلسطيني سوري

ياسر أبو شقرة

في إحدى قاعات بيت جان فيلار (MAISON JEAN-VILAR) في أفينيون، يُقدّم على مدار النهار وخلال أيام مهرجان أفينيون المسرحي (٦-٢٦ تموز/يوليو) عرض تجهيز (installation)، بعنوان «خمس حقائق – Five Truths» للمخرجة البريطانية كاتي ميتشل.

تحاول ميتشل تكثيف تاريخ المسرح الغربي على امتداد قرن من الزمن، وتقديمه في عشر دقائق فقط، من خلال مشهد جنون وانتحار أوفيليا، المشهد المأخوذ عن النص الشكسبيري الشهير «هاملت»، حيث تقوم بعرضه بطرق مختلفة عبر عشر شاشات كل شاشتين منها تقدم المشهد وفقاً لأسلوب أو نظرية واحد من كبار المسرحيين في القرن العشرين كونستانتين ستانسلافسكي، أنتونان أرتو، برتولد بريشت، ييجي غروتوفسكي، بيتر بروك.

الشمس تبلغ ذروتها في الخارج، سطوعها يزعج العينين، درجة الحرارة مرتفعة جداً، مازلنا في البهو، أما في الداخل وحيث عرض كاتي ميتشل، فهو النقيض، قاعة سوداء مظلمة، باردة جداً، أنت وحيد وتتوسط شاشاتٍ عشر تحيط بك من كل جانب، تطل منها الممثلة البريطانية ميشيل تيري، بفستان منزلٍ أبيض، مرسومٌ عليه ورود ملونة. شاشتان لستانسلافسكي، وحداة تهتم أكثر باللقطة العامة، وأخرى أكثر تركيزاً على التفاصيل من خلال لقطاتٍ مقربة، وكذلك شاشتان لكلٍ من بريشت، وأرتو، وغروتوفسكي، وبروك. وما إن يبدأ العرض حتى تشعر بسطوة أوفيليا أو الأوفليات من حولك إن صح التعبير، إحدى أرق الشخصيات المسرحية وأكثرها شاعريةً عبر التاريخ.

ستانسلافسكي المخرج وأستاذ التمثيل الروسي، صاحب نظرية الأداء الواقعي الذي نشاهده اليوم في معظم الأداءات السينمائية التي نراها، تغرق أوفيلياه في الصمت، تشعل سيجارة، وتبدأ بتوضيب أغراضها الخفيفة في كيسٍ بلاستيكي، لون اللقطات وسطوعها يوحيان بأن المزاج مأخوذ عن أفلام الثمانينات الأمريكية، تركيز على العيون التي امتلأت بالدمع والكلام، وفي الشاشة الأخرى تركز اللقطة على الأيدي المتعبة التي توضب الأغراض ببطء، امرأة في العشرينات تحزن على أبيها بنضج، وتعيش ألماً من غير المجدي الحديث عنه.

أما بريشت، الكاتب والمخرج الألماني الذي هرب من النازية إلى أمريكا أثناء الحرب العالمية الثانية، وعاد ليؤسس نهجه المسرحي (المسرح الملحمي) حيث لا اكتفاء بتكثيف الحكاية وضغط زمنها على المسرح، إنما على الحكاية أن تروى بالكامل، وعلى الممثل ألا يتقمص دوره فيها كي يدفع المتلقي للتفكير لا للتعاطف.  تبدو أوفيليا لديه أكثر حيوية، وأكثر عزماً، الشاشة أكثر نصوعاً واللون يميل إلى الأبيض، توضب أغراضها بتأنٍ لكن بثقة أكبر، تزيّن وجهها ببعض المساحيق، الصوت في المكان يبدو أنه آت من طرف الشاشتين اللتين تظهر بهما.

وعند البريطاني بيتر بروك، أكبر المخرجين الأحياء، الكثير من النظريات، وهو يسعى لأن يصل الممثل إلى دوره من ذاته بعد أن يتخلى عن ذاته شيئاً فشيئاً على عكس آليات العمل ضمن منهج ستلانسلافسكي، أوفيلياه في عرض ميتشل أكثر دهشة وبطأً من أن تستوعب الألم، شاردة كطفلة صغيرة لم تعد تفهم شيئاً من حولها، تبكي بهدوء، اللون البني هو الأبرز في اللقطات التي تصور ذهنية بروك، لكن في وجه أوفيليا لديه ما يدعوك للتعاطف دون أن تفهم ما هو ذلك الشيء تحديداً. يحدث ذلك فيما تبقى شاشات غروتوفسكي وأرتو مطفئةً لثوانٍ.
تضاء شاشات أرتو وغروتوفسكي، المسرحيين الأكثر تطرفاً من سابقيهما، فنرى أوفيليا لدى أرتو المسرحي الفرنسي صاحب “مسرح القسوة” مشوهة بفعل المونتاج، وجهها يموج على الشاشة، تهذر بكلام غير مفهوم، لكن يبدو أنها بحالة صدمة، أما لدى غروتوفسكي المسرحي البولوني صاحب “المسرح الفقير” فحالة كاملة من الهستيريا، أوفيليا تنتفض كحمل مذبوح، وتصرخ، كأنما اجتمعت عليها أوجاع الدنيا، وما أن تضاء شاشاتهما حتى يبدأ المزاج الصوتي للعرض بالتغير، تتداخل أصوات الشاشات مهيئة للحدث “الخطاب” الذي جاء من عدة كلمات متشابهة أبرز ما قيل فيه وتكرّرَ كلاماً وغناءً الجملة التالية “إنه ميت.. لن يعود مرة أخرى” وهي جملة من كلام أوفيليا عن أبيها في النص الشكسبيري. 

الأوفيليات الخمس من الشاشات العشر تردّدن هذه العبارة كلٌّ حسب مزاجها ونفسيتها. ليكون لشخصية أوفيليا الخفيفة على النص الشكسبيري هذه السطوة وهذا التحكم بمزاج المتلقي وعواطفه.

خمس حقائق، هكذا عنونت كاتي ميتشل دقائقها العشر، لا خمس وجهات نظر، لتعلن أن كل وجهة نظر حقيقة، وبالتالي لا حقيقة مطلقة، خمس أوفيليات تؤديهن نفس الممثلة، ترتدين الثياب ذاتها، تحملن الزهور ذاتها، يقلن الكلام ذاته، وجميعهن ينتحرن غرقاً، وعلى الرغم من ذلك بقين خمس أوفيليات لا يوحين بأنهن شخصية واحدة إطلاقاً، لكل واحدة شخصيتها وسياقها وتفاصيلها النفسية.

ربما من المجحف أن نحمّل العرض مقولات لا يمكن له طرحها بعشر دقائق بحال من الأحوال، لكن هذه الدقائق العشر كانت كافية لتسديد إصابة نفسية على منهج بعض المخرجين الذين استُمدت أشكال الفيديوهات من نظرياتهم، وإصابة ذهنية على مبدأ البعض الآخر، فمن نافل القول أن اجتماع بريشت وستانسلافسكي وآرتو وغروتوفسكي وبروك بعرض واحد هو أمر شبه مستحيل، لكن ميتشل أحالته واقعاً جميلًا وبعشر دقائق فقط. فصنعت بذلك حقيقة سادسة تثير الاهتمام للمسرحيين، وتعرض للمتلقي غير المختصّ انتحار خمس شابات بعد موت أبيهن غرقاً، كخمسة أفلام قصيرة مختلفة، لكل معناه، ولاجتماعهم معنى مضاف.

تكمن براعة التحكم بظلام القاعة، وبرودتها، والفضاء الصوتي بداخلها الذي يصنعه تداخل أصوات الشاشات مع بعضها أحياناً، وتمييز أحدها أحياناً أخرى، عندما تهدأ الأصوات فجأة وتنتحر كل الأوفيليات غرقاً، لينتهي العرض مع عشر لقطات مختلفة لغرق أوفيليا، تحيط بالمتلقي من كل جانب فتشعره بالغرق، وتدب الرعب في قلبه، خاصة إن كان للغرق في تراثه الراهن معنى أشد وطأة من مجرد عرض تجهيز.



https://www.youtube.com/watch?v=fWmdN-JN0Bk&list=RDfWmdN-JN0Bk

الكاتب: ياسر أبو شقرة

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع