هذا الإعلان ضروري لما سيتم كتابته في هذه السطور.
الضجيج الذي رافق الفيلم مباشرة بعد عرضه في مهرجان فينيسيا السينمائي في دورته 74، التي توّجت بطله كامل الباشا بجائزة أفضل ممثل، وما تلاه من مقالات كانت أغلبها تصب جام غضبها على شخص مخرج الفيلم زياد دويري، كانت كفيلة ببناء مشاعر غير مستقرة تجاه الفيلم، بخاصة أن التجربة السابقة لدويري والتي حملت عنوان «الصدمة» ما زال أثرها السلبي عالقاً والنقاشات فيها مختلفة الاتجهات، إلى أن جاءت اللحظة في عرض الفيلم عربياً لأول مرة في الدورة الأولى من مهرجان الجونة السينمائي في مصر، بحضور المخرج، لتكتمل الصورة بالنسبة لمشاهدين فلسطينيين على وجه الخصوص. لم يراع أحد مشاعرهم عندما انتهى الفيلم ووقف غالبية الجمهور لتقديم تحيتهم إلى دويري مع تصفيق طويل كان كفيلًا أن يضع اليد على الحقيقة: أي رأي مخالف لتمجيد الفيلم والثناء عليه لن يؤخذ به.
كان من الجيد تناول الفيلم فنياً، لكن الوقع السياسي فيه كان أقوى من القيمة الفنية السينمائية التي تخبّط فيها دويري، ولا شك أن فيلميه السابقين «ويست بيروت» و«الصدمة» سواء اتفقنا عليهما أم اختلفنا، كانا من الناحية السينمائية أكثر إلماماً وتفوقاً.
في المقابل يكاد يكون «قضية 23» الفيلم الأول الذي يتناول العلاقة الشخصية وليس السياسية بين “القوات اللبنانية” والفلسطينيين لأن الحرب عملياً انتهت، لكن على ما يبدو أن القلوب ما زالت “مليانة” وهذا من شأنه فتح باب جديد في طريقة تناول كافة أشكال الصراع. لكن ثمة سؤال كبير يجب أن يتم طرحه وهو “هل يستوي الضحية مع الجلاد؟” حسناً أدركنا أن “القوات اللبنانية” في الفيلم حزب يحب وطنه، لا خلاف، لكن هذا الحب الملطخ بدماء بشر ومجازر، هل من الممكن وضعه بندّية مع من فقد أرضه ووطنه؟ هذا والحرب قد انتهت، وهذا هو الشيء المضيء في الموضوع، لكن إعادة الحديث عنه بهذا الشكل القريب إلى الاستهتار أكثر من كونه بناء درامياً مرتكزاً على حقيقة وتاريخ، كان لا بد من أن يخلق غضباً لم يعد يجدي معه نهاية للفيلم يبرّئ فيها القضاءُ الفلسطينيَ، فذلك لا ينهي النقاش.
لكن فيلم دويري مليء بالأحداث، وبمشاهد ناقصة وخطابات لم تكتمل. الحقيقة أن الفلسطيني ياسر (بكامل باشا) أظهره الدويري كعزيز النفس وصاحب كرامة، لا يقبل بالرضوخ، ولا يريد لمشكلة بدأت بكلمة “عرص” وجّهها إلى طوني وانتهت بجملة “يا ريت شارون محاكُم من الدنيا” التي قالها طوني، ليتطور المشهد إلى لكمة من ياسر وينتقل العراك إلى أروقة المحاكم.
ومن الإنصاف القول أن الفيلم جاء بطرح مشاكل الفلسطينيين في لبنان مع قوانين العمل، بخاصة مع شخصية ياسر، المهندس الذي غادر الخليج وعاد إلى لبنان ليعمل رئيس عمال بشكل غير قانوني، لكن ثمة ما تم طرحه بين السطور، ثمة صورة لمن لا يعرف حقيقة الصراع ستضع الفلسطيني كناكر للمعروف، والغدر سمته، سيظهره كمسلّح يقتل المدنيين، في مشهد طال أكثر من اللازم في مشاهد لمجزرة “الدامور” واستُخدم فيها اسم “الصاعقة الفلسطينية” التي تسببت بتلك المجزرة والتي كانت السبب وراء حقد طوني على الفلسطينيين، لم يُظهر الدويري أن تنظيم الصاعقة الفلسطيني ما هو إلا تابع تام لنظام حافظ الأسد، الذي ارتكب أيضاً مجزرة “تل الزعتر” التي لم تلق الحضور السينمائي الكافي لاعتبارات سياسية.
ما حدث فعلاً في أروقة المحكمة، هو حديث مطول لخطابات كتائبية على حساب حديث مقتضب للمحامية التي تدافع عن الفلسطيني ياسر، باستثناء مشهد واحد له علاقة بحرب أيلول في الأردن، والمعروفة بأيلول الأسود، عندما جاء دفاع طوني برجل مقعد، ليؤكد على عنف ياسر تاريخياً، وهو يقول بأنه كان طباخاً، يقدم وجبات للفلسطينيين، وجد طفلًا يسرق رغيف خبز فتقدم إليه ينهره فهجم عليه ياسر وتسبب بإعاقته، هنا تقدمت محامية الدفاع عن ياسر لتؤكد أن الطباخ كان جندياً أردنياً ويرتدي البزة العسكرية ويقدم الطعام لمن فقد ذويهم قبل أيام، والمطلوب من ياسر أن لا يدافع عن طفل صغير سرق رغيف خبز في حضرة كل ذلك الموت، لكن هذا الدفاع كان ضعيفاً عندما تم الحديث عن مجزرة “الدامور”.
السياسة هي التي استغلّت وجع كل جهة من الموجودين، لكن طوني وياسر لم يكونا يريدان إيصال الأمور إلى درجة استدعاء رئيس الجمهورية لهما، طوني يريد اعتذاراً من ياسر، حصل عليه عملياً بعد عرض مجزرة الدامور، فيما بدا أشبه بصفحة من الضروري طيها، هذا المشهد كان من الممكن أن يخلق التوازن لولا اقترانه بمجزرة الدامور. مع ضرورة الثناء على تمثيل بطل العمل عادل كرم الذي أدى دور طوني، وكامل باشا الممثل الفلسطيني الذي كان صامتاً أغلب الوقت واكتفى بأن يعبر بلغة وجهه.
«قضية 23» أصبح قضية بسبب الهجوم الشخصي على زياد دويري، وأصبح التعاطف معها جزءاً من دعم المخرج، على حساب تساؤلات ما زالت تنتظر الإجابة، لكن الحقيقة أن الديباجة التي يحملها الدويري معه وهو أنّه رضع فلسطين من صدر أمه، كنوع من التأكيد على موضوعيته، باتت غير صالحة الاستعمال، لأن دويري قدّم رأياً سياسياً على حساب الفن، وهذا نعرفه في بداية الفيلم عندما أشار إلى أن أحداث الفيلم تعبر عن رأيه الشخصي وليس رأي لبنان.