لقد أثار إعلان حركة حماس عن حل اللجنة الإدارية لقطاع غزة أجواء من التفاؤل والفرح في الإعلام العربي على اعتبار الإعلان خطوة أولى بالغة الأهمية لإنجاز المصالحة الوطنية بين فتح وحماس، أي عودة غزة لحضن السلطة الوطنية، وهو ما يجب أن يؤدي إلى إنهاء مظاهر حصار قطاع غزة وإنهاء جميع الإجراءات والممارسات اللا إنسانية تجاه القطاع وسكانه المفروضة من قوى الاحتلال وسلطة رام الله ومصر، لتداعب هذه الخطوة تطلعات وآمال غالبية الفلسطينية في إنهاء أو الحد من الظروف المعيشية السيئة داخل القطاع والتي تشكل هدفاً رئيسياً بحد ذاتها، إلا أن هذا الهدف على أهميته لن يمنعنا عن الحديث عن تأثير الاتفاق المتوقع على القضية الفلسطينية عموماً، من خلال قراءة مواقف وتوجهات كل من الفصيلين أو الحركتين المعنيتين، فتح وحماس.
ولتكن البداية مع فتح التي باتت سياستها وتوجهاتها على درجة كبيرة من الوضوح والشفافية، استناداً لطبيعة وشكل إدارتها لمناطق سيطرتها في الضفة الغربية ولتصريحات وخطابات قائدها أبو مازن وخصوصاً خطابه في مؤتمر الحركة السابع وخطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الذين يؤكدان على النهج السلمي والتفاوضي لحل القضية الفلسطينية بإقامة دولتين لشعبين استناداً للقرارات الدولية، مع تلويح أو تحذير -كما يحلو لأبو مازن- من إجراء حركة فتح مراجعة لكامل مسار العملية السلمية بسبب جميع إجراءات الأمر الواقع المنفذة من قبل الاحتلال، مما قد يؤدي إلى تبني الحركة للنضال السلمي والمطالبة بحقوق جميع سكان فلسطين التاريخية كاملة بالطرق السلمية، وهو ما يفرض علينا التدقيق في رؤية أبو مازن أو فتح للنضال السلمي أيضاً، والذي ينطلق أولاً من النضال القانوني والدبلوماسي من أجل استصدار قرارات وقوانين دولية جديدة تعترف أو تثبت الحق الفلسطيني، أو من أجل زيادة الاعتراف الدولي بدولة فلسطين وبمؤسساتها القائمة، على الرغم من كونها سلطة بلا سلطة وفقاً لاعتراف أبو مازن.
كما تندرج المظاهرات والاحتجاجات الشعبية الفلسطينية المحلية منها والمشتركة مع بعض الناشطين والمناضلين الأمميين ضمن رؤية أبو مازن للنضال السلمي بشرط تقيدها بمبدأ نبذ العنف مهما كان، أي دون أي اعتبار لممارسات الاحتلال القمعية والاستبدادية والإجرامية تجاه هذه الحركات وتجاه حاضنتها الشعبية والجغرافية، و بالتالي تناسي مقومات العمل السلمي الحقيقية وفقاً لرؤى ولتعريفات كبار المناضلين السلميين العالميين وعلى رأسهم مانديلا، الذي يؤكد على أن طبيعة النضال الشعبي السلمي محكومة بممارسات وسلوكيات الطرف الأقوى -أي الطرف المحتل أو السالب للحقوق- ففي ظل الغياب الكامل لحقوق المناضلين السلميين وانعدام احتمالات المحاكمات العادلة والعلنية للمناضلين -ولو بحدها الأدنى- واستحالة المطالبة بمحاكمة قوات الاحتلال المنتهكة لحقوق المتظاهرين، تتحول المظاهرات والاحتجاجات السلمية الخالية من أي شكل من أشكال الدفاع عن النفس كرَمي الحجارة وقنابل الملوتوف وحرق الإطارات والتصدي لاقتحامات جيش الاحتلال أو أذرعه المحلية، إلى مناسبات وطنية للتضحية بقادة وشباب العمل الوطني السلمي كشهداء أومعتقلين، لاسيما في ظل الصمت الدولي على إجرام وانتهاكات الاحتلال التي خبرناها طويلاً، مما يؤدي إلى فقدان النضال الفلسطيني لأبرز قادته الميدانيين بشكل دائم ومتكرر ويدخل المسيرة النضالية في دوامة من التخبط والتجريب.
هنا، يتحول تلويح أبو مازن بالنضال السلمي إلى مجرد نشاط إعلامي يأمل منه تغير السياسة الدولية. كما لا بد من الإشارة إلى تغيب سلطة رام الله وحركة فتح عن دعم أي شكل من أشكال النضال السلمي في السنوات والأشهر الأخيرة، بما فيها تلك المنطلقة من داخل الأراضي المحسوبة على السلطة كالمظاهرات والاحتجاجات الرافضة والمنددة بجدار الفصل العنصري شبه الأسبوعية، وعليه يمكننا القول أن النضال السلمي الذي يدعو له أبو مازن هو أي حراك شعبي أو دبلوماسي يدعم المسار الاستسلامي ويرضخ للشروط الدولية المعروفة.
من جهة أخرى فإن توجهات حركة حماس قد حرصت حتى الآن على انتهاج خطاب سياسي وإعلامي متمسك بشرعية النضال الفلسطيني بما فيها العمل المقاوم والمسلح وهو ما يحسب لها، كما أعلنت الحركة مراراً وتكراراً عن رفضها للعملية السلمية أو الاستسلامية مع قبولها بمبدأ الهدنة على اعتبار أن الهدنة لا تنطوي على أي اعتراف بالاحتلال ومؤسساته ولا تنطوي على أي تنازل في الحقوق، إلا أن خطابها يناقض مشاركتها في الانتخابات التشريعية عام 2006 التي تمثل سعي حماس للسيطرة السياسية على سلطة العملية الاستسلامية أو السلمية، أوسلو، ووفقاً لجميع الشروط والظروف المحيطة بهذه السلطة انطلاقاً من وهم الحركة بقدرتها على مزاوجة الخطاب المقاوم بممارسة غير مباشرة تطبيعية أو مهادنة للاحتلال عبر وساطة فتحاوية أو عربية وإسلامية، لتصبح النتيجة النهائية تطبيق وممارسة شروط الاحتلال كاملة والرضوخ الكامل أو شبه الكامل لإرادته سواء عبر اللقاء المباشر كما تفعل فتح أو عبر الوسطاء العرب والفلسطينيين والدوليين كما تفعل هي، مجسدين بذلك سلطة حكم ذاتي تمثل مصالح وغايات الاحتلال وتضيع المصالح والحقوق الفلسطينية عموماً.
وقد أكدت حماس على ذلك في وثيقتها الأخيرة للمبادئ والسياسات العامة المعلنة في أيار الماضي، والتي تعبّر بشكل أكثر وضوحاً عن عمل الحركة على التلاعب اللفظي والسياسي في تحديد موقفها من القرارات والشرعية الدولية ومن تحديد غايات النضال الفلسطيني في استعادة كافة الحقوق المستلبة منذ النكبة، فقبلت بإقامة دولة على حدود 67 وبذات الوقت تعلن عن تمسكها بالحقوق الفلسطينية وبشرعية المقاومة بصورة تعيد للذاكرة طريقة صياغة البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير في حينه، مما يشير إلى عزم الحركة على القبول بحل مشابه -إن لم يكن مطابقاً- لاتفاق أوسلو يعترف بها كممثل سياسي للشعب الفلسطيني مع محاولة تمويه التخلي عن كامل الحقوق الفلسطينية من حق العودة إلى الحق في استعادة السيطرة على كامل التراب المحتل منذ النكبة وحتى الآن، والذي لا بد من أن يمر عبر بوابة الاعتراف والتطبيع والرضوخ شبه الكامل للاحتلال.
لذا واستناداً للظرف الموضوعي ولغايات وتطلعات كل من الحركتين العلنية منها والسرية يمكننا بسهولة القول أن المكسب الحقيقي لأي اتفاق مصالحة اليوم يتمثل فقط في تخفيف معاناة الفلسطينيين المقيمين داخل قطاع غزة بصورة تضع حداً لجميع الإجراءات والممارسات التي حولت القطاع إلى سجن صغير، لتعود معناة القطاع وسكانه مشابهة لمعاناة جميع الفلسطينيين المقيمين داخل أراضي السلطة الفلسطينية، والتي لا تعتبر نقلة نوعية من حيث شدتها، بل للأسف يتم التقليل منها إعلامياً وسياسياً بذريعة تحولها لمناطق سلطة وطنية بحيث لا تمس بمسار العملية السلمية على الرغم من توقفها العملي، بينما لا نجد أي أثر إيجابي للاتفاق على صعيد القضية الوطنية الفلسطينية، بل للأسف يشكل الاتفاق تكريساً عملياً لمسار المهادنة والاستسلام والتخلي العلني والسري عن النضال لاستعادة كافة الحقوق الفلسطينية والعربية المستلبة، مما يفرض علينا البحث عن مخارج وطنية حقيقية بعيداً عن الانحطاط السياسي الفلسطيني والعربي الرسمي.