لم ألتق يوماً مصطفى النوبي، الذي أزمع الحديث عنه دون معرفة مسبقة. لم أحادثه أو أستمع إليه، حتّى أنني لم ألمحه يوماً عن بُعد. فلم أكن، للأسف، من مجموعة الأطفال الذين كانوا يتحلّقون حوله، يصغون بانبهارٍ إلى الحكايات البديعة الآتية من شاشات ناصعة البياض سخيّة العطاء، لتتوالى بلسانه المفطور على سلاسة السّرد وسحر الحكاية، إذ تتحوّل الرؤى البصريّة التي شاهدها عبر حزم الضوء السّاقط على المساحات البيضاء، إلى كلام يقطر شهداً على لسانه النوبي الذي لم تحرفه سنوات البعاد في مدينة عرفت السينما باكراً، فيهيمن على آذان الأطفال المصغين إليه، الذين يتصببون صمتاً رهيباً وترقّب.
بضعة سطور، وبالتحديد أحد عشر سطراً لا تزيد كلمة ولا تنقص، كتبها عنه يوماً على صفحته في ”الفيس بوك“ صديقنا المسرحي الراحل، يوسف يوسف، الذي كان ضمن المجموعة التي التقيتها أثناء عامي الدراسي في الاسكندريّة عام 67 ولفتني أنه كان من الشبّان الطامحين الذين يخبئون وعوداً إبداعيّة كثيرة، وخضنا معاً نقاشات ثقافيّة كنّا نعتقد أننا من خلالها سنمتلك القدرة، ليس فحسب على فهم العالم، وإنما على تغييره!
قبل سرد حكاية النوبي، تجدر الإشارة إلى أن صديقنا يوسف كان يقيم بشكلٍ شبه دائم، في حيّ “كوم الدّكة”. عاش هناك طفولته ومعظم سنوات عمره.. وربما ظلّ فيها حتّى سنته الأخيرة.
***
نعود إلى الأحد عشر سطراً التي رواها يوسف يوسف عن مصطفى النوبي، نستثمر ما جاء فيها لنقول:
كان مصطفى النوبي يجمع من أطفال كوم الدّكة القروش القليلة التي يحصّلونها من أهاليهم كمصروف يوميّ ضئيل. ولم يكن ما يحصلون عليه يسمح للواحد منهم بدخول صالة السينما لمشاهدة أحد الأفلام المعروضة فيها. يجمعون المبلغ المطلوب قرشاً قرشاً ويضعونها في يد مصطفى النوبي، مؤكدين على ثقتهم به. فإن حال ضيق ذات اليد أمام إمكانيّة توفير تذكرة سينما لكل فرد فيهم، إلاّ أن ذلك لا ينفي قدرتهم مجتمعين على توفير ثمن تذكرة واحدة لمصطفى، المتعلّم، الحكّاء، السّارد بامتياز.
يهبط مصطفى من كوم الدكّة متشبثاً بالقروش القليلة التي جمعها من العيال المساهمين في ثمن التذكرة، الذين يلازمونه في العادة حتّى باب الصّالة التي يقع الخيار عليها. يمرّون من جانب صالات السينما المبثوثة قريباً من حيّهم، في شارعيّ فؤاد وصفيّة زغلول.. يراقبون الصور المعلّقة خلف الواجهات الزجاجيّة في سينما أمير، ثمّ مترو، وريو، وريالتو، ليتجاوزوها بسرعة. فالمبلغ الذي جمعوه لا يكفي لتذكرة في هذه الصالات الفخمة، والتي تكتفي غالباً بتقديم فيلم واحد لا فيلمين.
تتوجّه القافلة مشياً على الأقدام إلى صالات الدرجة الثالثة التي يمكن أن يعثروا عليها في مناطق محرّم بيه، محطّة مصر، المنشيّة، الحقانيّة، العطارين أو السّبع بنات. فيلمان بتذكرة واحدة. لم يكن مصطفى النوبي يفرض رأيه في اختيار الفيلم (أو الفيلمين) وفي أحايين كثيرة كان يعقد اجتماعات ديمقراطيّة في الشارع لهذه الغاية مع العيال المساهمين الذين يرافقونه. ليدخل مصطفى النوبي بعد ذلك إلى الصالة المعتمة ويتركهم جالسين على الأرصفة القريبة. يشاهد الفيلمين ويختزن مشاهدهما، مشهداً مشهد، ولقطة لقطة. يسجلها في ذاكرة من ذهب، لا تسمح بتسريب أيّ تفصيل، مهما بدا ضئيلاً وعديم القيمة.
يخرج من الصّالة المعتمة منتشياً، فيتحلّق حوله الأطفال المتربّصين بحكاياته. يشرع في رواية الفيلم الأوّل وقوفاً، أو جلوساً على سور قريب، أو رصيف. يروي ببراعة سرديّة آسرة، فيعيش الأطفال زمن الفيلم وأحداثه، وكأن عيونهم هي التي ترى وليست آذانهم التي تسمع. وفي كوم الدّكة، يواصل مصطفى النوبي سرد الفيلم الثاني. الأطفال يجلسون على أرصفة الحارات أو عتبات المنازل، يتابعون الفيلم سماعياً، يشاهدونه على شاشات خيالاتهم. يسألون، يصغون، يطلبون الاستزادة. ألم يشتروا الحكاية بقروشهم العزيزة!؟
***
تحاورتْ سناء (زوجتي الاسكندرانيّة) مع يوسف على صفحات ”الفيس بوك“. حرّضته على أن يستثمر حكاية مصطفى النوبي في عمل روائي، أو في أحد مشاريعه المسرحيّة الطموحة. كتبتْ إليه: “عندما حكيت لفاروق عن مصطفى النوبي، الذي أراه كشخصية روائية رائعة، رأيت تلك اللمعة في عينيه، لمعة الدهشة التي بتنا نمسك بتلابيبها، لشدة ندرتها.. وجلسنا نتخيل معاً: كيف أن مصطفى، أحياناً، يغيّر النهايات كما يحلو له، أو يميت أبطالاً ويحيي آخرين، حسب مزاجه. وفي أحيان أخرى قد ينام في صالة السينما، فيخرج ليؤلف حكاية أخرى مختلفة تماماً. لقد أهديتنا، دون أن تدري، متعة حكاية جميلة”.
لكن يوسف فاجأني عندما أحال إليّ مهمّة كتابة هذه الحكاية في قصّة أو رواية. لكنني ترددت، أولاً لأن معرفته بالشّخص وبالأمكنة والأجواء العامّة ستكون بالتأكيد أفضل من معرفتي، وأكثر اقتراباً من روح الحكاية. وثانياً، لأن عثوري على رواية من أميركا اللاتينيّة وقراءتها باستمتاع (حملت عنوان «راوية الأفلام» للكاتب التشيلي إيرنان ريبيرا ليتيلير)، وتدور حول فتاة تمتهن رواية الأفلام بطريقتها الحاذقة، أشعرني بأن الحياة تتقاطع في وقائعها رغم تباعد الأمكنة واختلاف الألسنة. وتبقى ريادة الكتابة لمن ارتاد أولاً.
قلت ليوسف: نواصل حديثنا عندما نلتقي في الاسكندريّة.
غير أننا لم نلتق، إذ سرعان ما أسدل يوسف الستارة على مسرح الحياة، ليمضى بعيداً عن الاسكندريّة وعنّا، ضارباً في الطريق الموحش.. الذي يذهب ولا يعود.