من الواضح أن الجدل الفلسطيني اللبناني العربي، بشأن المخرج اللبناني-الفرنسي زياد دويري (54 عاماً)، وفيلمه الأخير «قضية رقم ٢٣» لن ينتهي قريباً، خصوصاً بعد حادثة منع عرض فيلمه الروائي الرابع الذي كتبه مع جويل توما، في مهرجان “أيام سينمائية” في رام الله.
فلسطينياً، لم يكن ممكناً فصل إطلاق حملة منع عرض الفيلم عمّا احتوته أفلامه، خاصة فيلميه «الصدمة» و«قضية رقم 23»، في ما يخص القضية الفلسطينية من نقاش على كل الصعد الوطنية والقومية. فصاحب «بيروت الغربية»، يعدّ أول فنان لبناني يشرّع الباب واسعاً أمام هذا النوع من التطبيع الفني والثقافي مع العدو الإسرائيلي، فقد أمضى بين عامي 2010 و2011 أشهراً طويلة في “تل أبيب” لتصوير فيلم «الصدمة»، مستعيناً بممثلين وتقنيين إسرائيليين و”منتج منفّذ” إسرائيلي لإنجاز فيلمه المستوحى من رواية الكاتب الجزائري-الفرانكوفوني ياسمينة خضرا. وعند إنجازه (2012)، كان يُفترض أن يُعرض في لبنان ودول عربية أخرى. إلا أن الدولة اللبنانية امتنعت عن ترشيحه لجوائز “الأوسكار”، وسحبت رخصة العرض منه في لبنان وكافة الدول العربية، كما حذفه المهرجان القطري للأفلام من جدوله (علماً أن “مؤسسة الدوحة للأفلام” شاركت بتمويله)، وقررت “لجنة المقاطعة” في الجامعة العربية منع الفيلم بتهمة “التطبيع الثقافي مع العدو الإسرائيلي”. غير أن زياد حمل فيلمه إلى العديد من المهرجانات العالمية ونال تكريماً واسعاً، كان من ضمنه تكريم “مهرجان القدس السينمائي” الإسرائيلي!
«الصدمة».. تزوير لطبيعة الصراع
قبل الحديث عن فيلمه الأخير «قضية رقم ٢٣»، وجب الإشارة إلى أن دويري في فيلمه «الصدمة»، اجتهد بمواهبه الفنية العالية المستوى وبتقنيات فنية ساحرة ومؤثرة لأنسنة القاتل، وإظهار “العربي النظيف” الذي يقبل بإسرائيل، و”الفلسطيني الآدمي” المندمج بالمجتمع الإسرائيلي، والذي يحظى بتكريمه، مقابل الفلسطيني الذي يفجر الأطفال، فيختزل منطق الصراع بين خير وشر.
أمّا في «قضية رقم 23» فقد عمل دويري على تسخيف القضية الفلسطينية، وعزل الأحداث التاريخية الدامية عن سياقها (مجزرة الدامور)، مدعياً أن الفلسطينيين هم من ذبحوا ”المسيحيين“ الآمنين في الدامور! كيف لا والبطل الفعلي للفيلم، هو بشير الجميّل، الذي لعب دوراً قذراً في الحرب الأهلية اللبنانية، والذي كان يخطط ﻻرتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا، هو الذي يراه معظم اللبنانيين والفلسطينيين مجرد “مجرم حرب صغير، وسليل عائلة سياسية اشتهرت بالعنصرية والتعصّب الديني والاجتماعي، وتسبّب حزبها بويلات على المسيحيين ثم على جميع اللبنانيين وعلى المنطقة أيضاً“.
ورقم (23) المضمن بعنوان الفيلم بالعربية -اختار له دويري عنواناً مغايراً باللغات الأجنبيّة هو «الإهانة»- ليس إلا دلالة على عدد الأيام التي تفصل بين انتخاب بشير الجميّل في ظلّ دبابات الاجتياح الصهيوني واغتياله.
وبالعودة إلى فيلم «الصدمة» ومنع عرضه رسمياً في لبنان، صرح دويري لوسائل الإعلام قائلاً: “أنا عشت في تل أبيب سنة. تنقلت فيها وتكلمت مع الناس، واكتشفت أن تصرفهم الشاذ والعنف لا يأتيان بفعل الكراهية أو العنصرية فحسب بل أيضاً بداعي الخوف”، مبرراً بذلك إجرام وإرهاب الصهاينة.
وكان دويري قد أعلن في برنامج “ستوديو بيروت” الذي بثته فضائية “العربية” في أيّار/مايو 2013. أنه أبلغ مخابرات الجيش اللبناني بذهابه إلى فلسطين المحتلة، كما أن جهاز “الأمن العام” اللبناني لم يجد في الفيلم عندما حضره ما يسيء إلى القضية الفلسطينية.
وكان ناشطون وصحافيون في لبنان قد طالبوا دويري في أكثر من مناسبة بـ”الاعتذار” عن تصويره في إسرائيل فيلم «الصدمة» الذي منع عرضه في لبنان، معتبرين أن ذلك يصب في خانة التطبيع مع العدو الصهيوني، غير أنه لم يفعل، لا بل استمر في دفاعه المستميت عن ارتمائه في حضن الدولة العبرية.
يقول زياد الدويري في حوار صحفي لصحيفة “لوس أنجلس تايمز” الأمريكية: “بالنسبة إلى الكثير من العرب، يبدو إظهار الطرف الآخر غير مقبول، فهم ينتظرون فيلماً يصوّر إسرائيل كقوة شيطانية للغاية. وهذا ما لم أفعله في الفيلم“.
كل هذا كان دافعاً رئيسياً لمعظم الفلسطينيين في الجغرافية الفلسطينية الممزقة في الداخل المحتل (48) والضفة الغربية وقطاع غزة وفي الشتات، وراء حملة منع عرض أفلام زياد دويري في فلسطين المحتلة، باعتبارها مسيئة، في الخطاب والرؤيا، للقضية الفلسطينية.
والتطبيع من منظور وطني فلسطيني في بلد تحت الاحتلال، وبعيداً عن لغة التخوين، هو القبول والاعتراف بالسرديات الصهيونية عن الفلسطينيين أرضاً وشعباً. الرواية السياسية أو الثقافية أو الأخلاقية عنا وعن طبيعة وأسباب الصراع معنا، وما ينتج عن هذا الاعتراف من سلوك يؤدي أو حتى يوحي بعلاقة “طبيعية” بيننا وبين عدونا، دون النظر إلى المنافع الشخصية أياً كانت.
وقد لخصت حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) موقفها في بيان أصدرته السبت الماضي، بالتأكيد أنه “بينما لا تعتبر الحملة أن فيلم المخرج زياد دويري الجديد «قضية رقم 23»، خاضع للمقاطعة وفقاً للمعايير الحالية لحركة المقاطعة، فإنها تدين دون تحفظ التطبيع الصارخ في إنتاج فيلم دويري السابق «الصدمة» (2013)”، كما استهجنت الحركة استمرار دفاعه عن هذا التطبيع.
وكانت مجموعات شبابية في الضفة الغربية، أطلقت على نفسها اسم «شباب ضد التطبيع» قد أنشأت في الأيام القليلة الماضية، صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي بعنوان “التصدي لعرض فيلم المخرج المطبّع زياد دويري”، مروجة لوسم (#لن_يعرض)، وطالبت الجهات الشريكة لـ”فيلم لاب” المنظمة للمهرجان بإتخاذ موقف لمنع عرض الفيلم.
تطبيع ناعم يؤنسن العدو..
محاولات زياد دويري غسل يديه من التطبيع مع العدو، جاء للأسف الشديد على قاعدة اختيار استراتيجيّة دفاع عدائيّة، بأطروحات انعزالية، متهماً منتقديه بـ”التخلّف والفاشيّة”، ونعتهم بـ”أعداء الفكر والثقافة” و”راجمي الحريّة” و”طواغيت الظلام” وغير ذلك من الاتهامات الرخيصة.
وفي الكثير من مقابلاته التلفزيونية وتسجيلات الفيديو الخاصة به، والمنشورة على صفحته الرسمية “زياد دويري” في موقع (الفيسبوك)، يصر المخرج اللبناني على صوابيّة خياراته والتمسّك بها، وعدم نكرانها أو الاعتذار عنها، معتبراً تارةً أنه سينمائي و”لا علاقة له بالسياسة”، هو الذي يقود تطبيعاً ناعماً عمد إلى أنسنة العدو، وطوراً أن “من واجب الفنان أن يكسر المحظورات ويتجاوز الحدود ويكتشف الآخر“.
المضحك المبكي في جولة دويري الأخيرة، هو رمي الكرة مؤخرًا -بعد حادثة المنع في رام الله-، في ملعب الفلسطينيين وتبرير ذلك بالعمل على الدفاع عن بطل فيلمه الفلسطيني الممثل كامل الباشا، الذي فاز بجائزة أحسن ممثل عن دوره في «قضية رقم 23» في مهرجان “البندقية” السينمائي، والقول إن ما اعتبره هجوماً عليه إنما هو هجوم على “ممثل وطني سجن في سجون الاحتلال لعامين”، وكأن في هذا ما يبرئ ساحته وساحة الفنان المقدسي كامل الباشا، الذي أكد بدوره أن ما يجري هو “تصفية حساب مع زياد“.
ويثقل علينا دويري بدفاعه عن مواقفه تلك بإصرار وغطرسة وازدراء للقيم والمبادئ الوطنية، مبدياً احتقاراً للرأي العام اللبناني والفلسطيني خاصة، والعربي عامة. وهو يردّد اللازمة التي نسمعها بين الحين والآخر، من أنّه “ترعرع في بيت وطني ومناضل من أجل فلسطين”، وأنه “رضع حب فلسطين في بيته” من والدته المحامية التي ساندته في مواقفه المعلنة، موثّقين ذلك بالصوت والصورة، كما بدا لنا في التصريح المتلفز لوسائل الإعلام اللبنانية، بعد اخلاء سبيله إثر توقيفه من قبل الأمن العام اللبناني وهو عائد من مهرجان ”البندقية”، معتبراً أن كل ما يواجهه هو أعمال مفبركة من أناس حقودين وغيورين من نجاحاته، هو الذي يحقق، “فخر الصناعة اللبنانية” على المستوى العالمي، طبعاً وفق تعبيره. مؤكداً أن موقفه من القضية الفلسطينية مشرف وأن هناك من عائلته من قدم روحه فداء لفلسطين وغير ذلك من المزايدات التي ساقها دويري.
رغم كل ما تقدّم وما شاهدناه من تصريحات لدويري، فإن أسئلة عديدة تبقى بلا أجوبة، لعل أهمها الآن هو سؤال: ألا يرتكب البعض منا ممن يدافع اليوم عن زياد دويري ومنجزه البصري، جرماً لجهة تشجيع التطبيع والتعامل مع العدو الإسرائيلي، وتزوير الرواية الفلسطينية اللبنانية لصالح الرواية الإسرائيلية؟ ومن ثم، وبعيداً عن سياسات المنع والإقصاء، كيف هو السبيل للتصدي ثقافياً وبشكل حضاري لزياد دويري وأمثاله من المطبعين؟