القادم إلى معرض الفنان عايد عرفة يستقبله تنوع الألوان فيكاد يذهل بكم مزج الألوان التي تتراوح ما بين الأخضر والأصفر والبنفسجي والأزرق ودرجات البني. الحيز ليس بكبير ولكن بمجرد أن تخطو قدمك داخل الباب الزجاجي للمعرض حتى تدخل إلى عوالم مختلفة. تتحدث الفتاه التي تدير المكان عن الفنان عايد ونشأته في مخيم الدهيشة للاجئين وأعماله فيختفي صوتها لأشرد بمخيلتي داخل لوحة ”السر”. أسمع صوت الألوان فهي ليست صامتة كما يظنها البعض، ملاقط الغسيل تحدد المباني وتربط الأحياء السكنية معاً، حبٌ للبحث في المساحات وهندستها يبدو واضحاً في هذه الرسمة، أنماط شكلية وهندسية متضادة ومتداخلة، أدراج كأدراج المدن الفلسطينية القديمة كبيت لحم والقدس القديمة، القباب أينما وليت وجهك، وفي قلب المدينة مصباح مضيء وفي أسفله هنالك السر في الكلام المتشابك بالخط العربي الساحر.
يعود صوت الفتاه متصاعداً، قائلة: على اللوح المقابل هنالك لقطة قريبة zoom in من لوحة ”السر“ وهي حماية للشباك.
استدرت لأرى الرسمة، لماذا قرر عايد أن يقدم لقطة قريبة لحماية النافذة -وهو الجزء الحديدي الذي يكون داخل إطار النافذةـ وليس للنافذة بأكملها! هل لأن شكلها، أي الحماية، ملفت ومليء بالزخارف أم لأنه قد يكون لها بعد نفسي واجتماعي له علاقة بالخصوصية حيث أن بيوت المخيم متراصة وكأن الجيران يعيشون معاً، وليس ذلك وحسب فالحماية مرتبطة بحماية ذاتي ومشاعري من الآخرين، والمعنى قد يذهب إلى ما هو أوسع وله علاقة بحمايتنا من الاحتلال، بالتالي له ارتباط وثيق بالشعور بالأمان، أو أن عايد يحمي سره ولا يريد الآخرين أن يدخلو إليه، فحتى شكل الحماية قريب من الحرف X مزخرف وبألوان متداخلة ليست قوية ولا محددة.
نقترب من لوحة “untitled”، قارب يبحر في بحر اسمنتي! ليؤكد على عنوان المعرض “مكانك سر“، حيث يبدو وكأن القارب يسير لأن خطوطاً من خلفه تظهر حركة ما، في حين أن اللون الرمادي للماء يعطي انطباعاً بالسوداوية، هل سبق وأن رأيتم مياه رمادية؟ أما في الأعلى فالسماء خضراء، فلقد انتظرت أن أرى لوناً أزرق، كالسماء أو البحر، لأن تفاجئنا اللوحة بأفكار عميقة وألوان غير متوقعة، ففي عملي في مجال السينما يعتبر إبداعا تقديم أفكار ولقطات غير متوقعة وذات معنى عميق ومبتكر في نفس الوقت.
أنا لا أعرف عن مدارس الرسم والفن التشكيلي ولكني أرى في معرضه إبداعاً يفوق مساحة اللوحات بكثير. فأن تظهر قارباً يسير ولكن في الاسمنت، يا لروعة العقل! فيعبّر الفنان هنا عن كم الجهد المبذول في طريق ما، قد تكون الفكرة نابعة من صعوبة شقه لطريقه ليحقق ذاته. في حين أن اللون الأخضر بخبرتي السينمائية يدل على الخضرة والراحة النفسية، أما درجات الأخضر الداكنة قد لا تعطي رسائل إيجابية بل على العكس، ويتجه القارب نحو الألوان الداكنة في حين أن السابق أو الماضي، أي من حيث أتى القارب، كان أكثر إضاءة.
تستوقفني لوحتان على نفس الواجهة، (Studio1, Studio2)، فاللوحة الأولى، أي استوتديو ١، وهي المعمل الأول للفنان في حين أن استديو ٢، المعمل الثاني. اللوحة الأولى تتميز بالبساطة وكثرة استخدام اللون الأخضر الداكن الذي قد ينم هنا عن الفقر وبساطة الحال، حيث أن اللوحة هذه تجذب الأنظار لجمال استخدام الضوء والظلال وبساطة الفكرة، والصندوق الذي على الطاولة وكأن الفنان صنع الصندوق ليفكر خارج الصندوق. أما اللوحة الثانية فحاول الفنان تغيير أسلوب الرسم ليبدو أكثر تجدداً وكأن المكان تطور وأصبح أكثر ميلاً للأثاث الفاخر، ولكن ما زلت أشعر وكأن هذه اللوحة تحمل نوعاً من التهكم، وكأن القديم ببساطته وألوانه الداكنة أجمل.
يبحث عايد كثيراً، في هذا المعرض، في الأماكن باختلاف مساحتها سواء في المدينة أو المخيم أو داخل معمله وبيته، ويخلط الماضي بالحاضر محاولاً البحث في ذاته عن ذاته، فهو كل هذه الأماكن باختلاف هويتها وأنماطها.
تبدع يده مرة أخرى في لوحة Scene2 حيث أرى فيها مشهداً للمخيم في الليل. شبابيك المنازل وكأنها عيون شريرة، فالمخيم مكان جميل وقبيح ويتميز بكلاهما معاً، فليل المخيم مظلم مخيف، والدوريات الإسرائيلية هناك باستمرار تطلق النار وتخيف الناس. ينظر سكان المخيم من شبابيك منازلهم وكأنهم حيوانات مفترسة تريد أن تحمي نفسها وأسرها. فأنا أيضاً أكره الليل… قد يكون رأي عايد مختلفاً عني ولكن هذا ما أراده عقلي وأسقطه على اللوحة.
الثور المعلق هو أحد الإبداعات في المعرض، لا يبدو لي ثوراً هائجاً بل هادئ، يحاول البحث عن وجهته وطريقه، في حين أنه مربوط، حتى وإن وجد بوصلته فلن يستطع المضي والسير. هذه الفكرة تذكرني بالتفكر بالوجود إن كنا نحن كبشر مسيّرين أم مخيّرين، وقد يكون رأي الفنان أنك وإن كنت مخيراً في بعض الحركات البسيطة ولكنك مسير في الغالب مثل دمى الماريونيت. هل كان عايد يبحث عن فكرة روحانية؟ لرمبا هي تجليات صوفية.
وتقول منسقة المعرض: “الفنان عايد عرفة يحب العمل مع الخشب فمعمله أشبه بمنجرة وهنا يصور الثور هذا كذبيحة العيد معلقة“.
لم اشعر بأن هذا الثور هو ذبيحة عيد الأضحى، فأسلوب التعليق مختلف ومناطق ارتكاز الوزن مختلفة، كما وأن أرجل الثور على الأرض جعلتني أحلق في خيالي كما يحلّق هذا الثور في جسده وعقله في حين أن أرجله على الأرض ثابتة، كم هذا جميل.
وفي لوحة ظهرت لي وكأنها مختلفة عن أخواتها يصور الفنان شخصاً نائماً، ما يلفت النظر هو تنوع ألوان البطانيات فهي لوحة مبهجة والجميل في الخلفية أنه كلما اقتربنا إلى رأس الشخص النائم تزداد الألوان بهجة، فالعقل ليس نائماً بل حالم وهذا يذكرني مرة أخرى بعنوان المعرض “مكانك سر“، الشخص نائم ولكنه يبدو وكأنه يتجول في أحلامه ليعود فيرى نفسه في المكان نفسه. أما طبقات البطانيات، فالحيز الضيق في بيوت المخيم يجعل الناس تنام مفترشة الأرض والأخوة بجانب بعضهم البعض والأغطية في كل مكان في الغرفة، ويصور الرسام النوم كجزء أساسي منه ويجعله جميلاً.
وبالعودة إلى الخشب فقد استخدم عايد قطع الخشب الصغيرة جداً التي قد نجدها في الشارع ولا نكترث بها ونرميها، فيصنع منها مدناً وناطحات سحاب في مجسم خشبي بعنوان “urban sight”، فالأشياء الصغيرة هي في الواقع كبيرة. فقد زار عايد وعاش في مدن أوروبية متعددة ولكنه عاد ليبحث في تفاصيل هذا الجزء من العالم، فيبحر في الماضي والحاضر معاً ولكنه يكتشف أنه لا يزال مكانه أي ”مكانك سر“.
إن المعرض يحمل تنوعاً جميلاً، أفكاراً يضعها لنا الفنان ويكونها من زوايا مختلفة ليخلد مشهداً أو فكرة ويطرح أسئلة أو يلملم قطعاً من هنا وهناك ويجعلها قطعاً فنية، ويجعلنا نتفكر من هو ومن نحن؟ فهذا المعرض الشخصي الأول لعايد عرفة، يقدم فيه سنوات تجربته فيجعل عقلك يكتظ بالأفكار وتنتقل العدوى إلينا نحن الناظرين، وكم هي جميلة عدوى الإبداع والفكر والفن.