«لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» عنوان إحدى روايات الروائي السوري خالد خليفة صاحب «مديح الكراهية». كلتا الروايتين وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة الرواية العربية (بوكر).
روايتا خليفة تصلحان لأن تُدرسا وفق المنهج الاجتماعي، فهما تأتيان على الواقع السوري منذ سبعينات القرن الماضي وتصورانه وتبيّنان ما ألم به من تطورات وصلت حد الصدام المسلح وآلت سورية إلى ما آلت إليه الآن من دمار وخراب وتمزيق وتدخل دول خارجية كثيرة في الشأن السوري.
ما إن يفرغ المرء من قراءة الرواية حتى يتساءل “لماذا لم يختر الكاتب عنوان “العار” لروايته، فهو أنسب؟
يتكرر دال العار في الرواية تكراراً لافتاً وعلى لسان السارد وبعض الشخوص. يمكن متابعة ورود تكرار العار في الرواية لملاحظة الأمر. في الصفحة 12 يقول السارد: “كنت أدخل في عامي العاشر ولا نعرف شيئاً عن الموت والعار”. بعد صفحات ليست كثيرة يبدأ السارد بالتكلم عن بداية معرفته بالعار. في الصفحة 39 يتحدث عن أمه ويرد ذكر دال العار الذي بدأت الأم تشعر به:
“تنتبه لأول مرة إلى شعور العار الذي يحيط بها من كل جانب، تشعر بالرضا حين تكتشف أن الكثيرين مثلها يشعرون بالعار، زميلاتها وصديقاتها والناس في الشوارع، التي تتجاهل صور الرئيس رغم ادعاء أبديته.“
يتحول الشعور بالعار إلى ما هو أكثر، فيبدأ الناس يفكّرون في مدلولاته لأنه يتدخل إلى منازلهم ومن الذين يفكرون والدة السارد الذي لا يعلن هويته إلا في صفحات متأخرة (الصفحة 41) وتقدم اقتراحات لمعانيه ترد في الصفحة 42 والصفحة 49 ويأخذ جزء كبير من شخصيات الرواية حصته من العار.
جان يفكر في الهجرة من حلب فقد كره المدينة التي أجبر فيها على المشاركة مع حزبيين في مسيرات تمدح الحزب والرئيس (الصفحة 48) و”يشعر بأنه لن يكمل طريقه إلى الرصيف الآخر قبل إصابته بسكتة قلبية… ويشعر بالعار أيضاً“.
يكتب جان رسائل لابنه في باريس يصف فيها أحواله وزملاءه الذين يدبكون في مسيراته الحزبية الإجبارية وقد تحدث جان في رسائله باسهاب عن “عاره الشخصي لأنه كان شاهداً على لحظة سيتناساها الجميع ليستطيع النظر في عيون بعض بعد خمسين سنة“ ويحس جان بلا جدوى أي شيء وفكّر بالانتحار، “يتحدث بصوت هادئ أنه يريد العيش هنا حتى لو تفكك جسده، يريد أخذ حصته من العار“.
يتوالى تكرار دال العار تكراراً لافتا وكلما مر حدث ما لا يقتنع به شعر بالعار. فحين أعطاه رئيس فرع الحزب محاضرة عن الوطن والمواطن يخرج جان من المبنى الكئيب ويصف تلك اللحظة “بقمة العار الذي بقي من أجله في هذه للمدينة العتيقة ” (الصفحة 56).
ليس الحزب وحده ما يُشعر بالعار في الرواية. يصبح نزار المثليّ عار أبيه (الصفحة 96/ 97) وهبة التي رفضت ما طلبه عضو الحزب منها فاغتصبوها، هبة هذه تبقى عشر سنوات لم تكفّ فيها عن نسيان ذلك العار، وتبقى المدينة سنوات طويلة “تحت وطأة الموت والعار“ (الصفحة 120).
وحين يأتي السارد على حلب وما حل بها تحت حكم الحزب والمسؤولين الفاسدين الذين لا يعرفون إلا الولاء للرئيس والدبكة له، لننظر في الفقرات التالية:
“استفتاءات الرئيس التي جعلت جان حين يكتب لابنه بأنه شعر لأول مره في حياته بعار لا حدود له” (الصفحة 153).
سوسن حين تخرج من عيادة طبيب رتق لها غشاء البكارة أحست بالعار (الصفحات 158 و159 و161 و1969).
في الصفحة 232 يفوز الدكتاتور في الانتخابات، يشعرون بـ”عار شعب بأكمله ينمو ببطء كقطار البضائع الذي مات جده تحت عجلاته. ونفاق الناس للرئيس يولّد أيضاً الشعور بالعار.
زميل السارد في مكتب المحاسبة يخبره عن زميل آخر “اكتشف أن زوجته عاهرة والولدين ليسا من صلبه” ولهذا قتل زوجته وابنه، وإن اعتقد السارد غير ذلك: “إنه لم يعد يحتمل حياته وصمته وعاره، التي اكتملت صورتها لدى جان فألف كتاباً صغيراً عن “العار” ومشتقاته في الحياة السورية“.
طبعاً الكتابة عن العار ليس كتابة بكراً فهناك روائيون كتبوا عن العار في الأدبين العربي والعالمي (سلمان رشدي ونسرين تسليمه وكويتزي، وإبراهيم نصر الله في “شرفة العار“).