“رمان” حاورته بمناسبة معرضه “نياشين”، الذي يستضيفه غاليري “دار الشرق” بمدينة عمّان، في الفترة ما بين الثالث عشر من الشهر الحالي ويتواصل حتى الحادي والثلاثين منه، فكان هذا الحوار..
ما الذي جاء بك إلى عوالم الفن التشكيلي؟
لا يمكنني تحديد السبب الذي دفعني للمسير في هذا الطريق، بقدر ما دفعتني حاجة الاكتشاف والمغامرة إن صح التعبير للولوج لهذه المساحة التي سمحت لي الحوار مع الذات، والبحث عن أسئلتي وحاجاتي عبر الفن، لهذا الوقت ربما لا زلت أسال نفسي لماذا؟ وكيف لي الهرب من هذا الطريق المعبد بالأشواك والقلق؟ ليس سهلاً ولا نيشاناً ولا هو شرف كبير أن تصبح فناناً، بقدر ما هو لعنة وحالة من السادية التي تعذبك وتدفعك لتعذيب الآخرين عبر التلقي الجمالي أو المعرفي الذي يفتح أيضاً أسئلته اتجاه الواقع، ولأن واقعنا يتألم ويبكي فحتى بالابتعاد عن ازاحة الغبار عن هذا الجرح لن يكون كافياً، ولأنني واحد من المعذبين أجد أن الفن ربما يخفف عني وطأة الوجع ويقلل عدد الموتى والشهداء في رأسي، فلا أحتاج أن أبكي إلا من خلال ألواني.
“نياشين” كيف جاء العنوان؟ وما الذي أردت قوله لنا من خلال منجزك البصري هذا، بمعنى آخر ما هي رسالته من خلال مضامينه الفنية؟
النياشين التي توضع على صدور السياسيين، هي حق من حقوق الشعب، ومن حقوق الفرد المنسي والمظلوم، من حقوق العمال والفلاحين الذي ضحوا بالغالي والنفيس من أجل البقاء، ولأن أحداً لم يعترف بحقوقهم ونضالاتهم، وجدت نفسي ونيابة عن أحرار العالم أمجد هؤلاء المنسيين، وأعيد استحضارهم عبر الفن، لأمنحهم ما أملك من قول بصري احتفاءً بهم.
بالعودة إلى البدايات، حدثنا عن الخطوات الأولى، عن ذكرياتك مع اللوحة الأولى؟ وكيف تستعيد اليوم دهشة الاكتشاف الأول؟
ليس هناك لوحة أولى بهذا المعنى، ولكن هناك تجربة أولى، لأن العمل الفني، ليس كما هو الحال في السينما أو المسرح، هو حالة من التراكم ولا يمكنك تتويج هذا الجهد إلا من خلال العرض ربما، ولكن ما يمكنني قوله إن الإحساس بأولى الإشارات التي دلتني على خطى الأسلوب وتقنيات العمل كانت هي كمن يستقبل أول طفل في حياته، فرحة مرهونة بما بعدها، وما ستصل إليه، وهذه الدهشة دفعتني للعمل أكثر وطرح سؤال: أين يمكنني أن أصل؟ وماذا يمكنني أن أقدم من رؤية معاصرة؟
في هذا الوقت لا زلت أبحث عن الشعور نفسه الذي انتابني مع مراحلي الأولى، واشتاق لتذوق هذا الفرح الطفولي ولا أستطيع. الآن مسؤوليتي أمام العمل نفسه تقتل معاني الفرح، بل هي تزيد وتيرة القلق والعذاب، لأن سقف التحدي أكبر، وسقف التجديد أعلى، وهناك الكثير من الأمور التي تتدخل في مزاجك وأحاسيسك.
هل من فنان تشكيلي فلسطينيّ تأثرت بتجربته ولاحقتك رسوماته ومفرداته البصرية؟
لا لم يكن هناك فنان فلسطيني تأثرت بتجاربه، ولكن هناك بعض التجارب التي أحبها وأعتز بها، وأشعر بالفخر أن هناك فنانين فلسطينيين أصحاب تجارب مبهرة.
هل من طقوس لديك أثناء الرسم؟ متى ترسم، وماذا تحتاج لترسم؟
لا أعتبر نفسي فناناً هاوياً، لذا مسؤولية الرسم بالنسبة لي أكبر من أن أدخل في أجواء الطقوس والرومنسيات الفضفاضة. طقسي الحقيقي هو وقت الرسم، وهي معركة طويلة مع العمل، ومراوغات قاتلة بيني وبين اللوحة، من سيسيطر على من؟ من سيقود هذا الانتصار؟ وفي وقت الراحة تكون أنت تحت سيطرة العمل، ولا يمكنك هزيمته إلا وقت الرسم.
ما مصدر هذه الطاقة الحيويّة التي نلمسها في لوحات معرضك هذا؟ إلى أي حد تحمل لوحاتك من سمات شخصيتك وتجربتك الخاصة؟
هو عدم تقبل العادي، وعدم الانصياع والاعتراف بالنجاح مهما كان كبيراً، بل عليك تقزيم هذا النجاح من أجل العمل أكثر، شعورك بالراحة ولو لوقت قصير سيخفف حركة جناحيك، مما سيؤثر على رؤيتك للأشياء بشكل محدود.
أنت من جيل فني لجأ في أعماله إلى توظيف الفن الأدائي بتقنيات حداثية ووسائط تشكيلية جديدة تهيمن على الفن المعاصر، متمسّكاً في الآن ذاته باللوحة كوسيط فني. حدثنا عن رؤيتك الفنية وخصوصية هذه التجربة؟
بداية البحث في المجال الفني، كان الأقرب لأسئلتي هو ما يمكن تقديمه من أعمال متعددة الوسائط كنوع من المعرفة والتجريب وقدرتها على تحديد محتوى السؤال، وبنظري فإن الوسائط المتعددة تحتمل من الخطورة أكثر من أي شيء آخر لأسباب كثيرة، ولكن ما يقلقني في هذا المكان هو محدودية الرؤية للعمل، إذ تنتهي الرؤية والمعرفة غالباً مع العمل، ولا يُبنى على إنتاجه عمل آخر، بل يبقى عملاً مستقلاً بغض النظر عن قيمته، بينما في اللوحة هناك نوع من الاستمرارية التي تعتمد على ما قبلها، هناك ذاكرة طويلة تؤرخ لرؤية المشروع وكذلك الفنان الذي يتبنى غالباً قضية حول أسئلته الوجودية ومفرداتها الإنسانية.
بعد هذا الإنتاج واستمراريته، إلى أين أنت ماضٍ بمشروعك الفني؟ وما هو الشيء الذي يواصل منحك على المستوى الشخصيّ الشغف لمواصلة الرسم؟
هناك غالباً أسئلة لا يمكن تجاوزها انطلاقاً من المفهوم الوجودي مع الإنسان، ومفرداته البيئية التي تعتبر محركاً أولاً في التعبير عن طريق الفن، ولكن مع حالة الاكتشاف المستمرة تندفع نحو مدلولات العمل نفسه، ويصبح سطح العمل وما يمكن تنفيذه من تكنيك وتقنيات حافزاً مهماً لتقديم شكل فني عادة ما يعبر عن فكرة العمل، ولكن في مشروعي أجد نفسي منحازاً للعائلة، والبيت، وما يمكن أن تسعفني به الذاكرة عن مقارنة التغيرات التي تحصل من فترة لأخرى، نحن نتساءل دوماً لماذا نتغير؟ وكيف نتغير؟ وهنا أحاول أن أعرف كيف ولماذا نشتاق للماضي؟ ولطفولتنا حتى وإن كانت مليئة بالتناقضات والمشكلات، نحن نشتاق لذاكرتنا التي أصبحت جزءاً من الماضي حتى في أحلك الظروف، وربما هذا ما يشعرنا بالدفء وقتها مع المحيط بتنوع أشكاله، الإنسان والحيوان والنبات، هناك يحصل علاقة حميمية نفتقدها في زمن آخر.
تقيم في عمّان منذ خمس سنوات. ما الذي منحتك إياه هذه المدينة على صعيد التفكير والإنتاج؟ وهل للمكان خصوصية ما تجعلك تختار مواضيع بعينها؟
أشعر أن استعادة رسم المكان وتخيله من مسافة الصفر، لا يمكن أن تمنحك الفكرة، بل هي تمتصها وتشعر بحالة من التجانس معها بحيث تصبح حدثاً عادياً، ولكن من أجل فهم علاقتك بالمكان بشكل حقيقي عليك أن تأخذ مسافة بعيدة عنه لتترجم شعورك لحالة مصورة أو مكتوبة، وهي بطبيعة الأمر حالة اغتراب اختيارية إن صح التعبير من أجل رسم هيكلة المكان نفسه، وكذلك علاقته مع البعد النفسي الحسي الذي يتولد من الحنين إليه، ولأن عمّان تضج بالحياة والتنوع والتنقل لفئات كثيرة من الشعوب العربية، فهي مكان جيد لاختبار هذه الأحاسيس مع الناس أنفسهم على كافة اختلافاتهم.
كيف ترى التجريب لدى مجايليك من التشكيليين الفلسطينيين، أهو أكثر انفتاحاً اليوم على ما يسمى بـ”الواقعية الجديدة”؟ وهل من تجارب لفتتك؟
هناك عودة للفن الواقعي في العالم وليس في المنطقة العربية، ولكن لا يمكن تجاهل التجارب الأخرى أيضاً، ويمكن القول إن الظاهر هو العودة للواقع من حيث المفاهيم أكثر من كونها مفاهيم فلسفية، أصبح هناك بساطة في الرسم والتلوين، ومباشرة لحد ما، وهذا نوع من التوازن مع الأحداث والمتغيرات السياسية في المنطقة، ومن الطبيعي أن تبقى التجربة الفنية على مدار الزمن تتسم بالتنوع والاختلاف وهذا واحد من شروط استمرارها وكثرة متذوقيها.
هل توافق الرأي القائل إنه في مرحلة ما بعد الانتفاضة الأولى (1987) بدأ تغيير في الإنتاج الثقافيّ الفلسطينيّ، تغيير نقل هذا الإنتاج عامة، والمنجز البصري خاصة من “ردود فعل” إلى أفعال؟
يمكن ملاحظة التطورات في الهوية الفنية الفلسطينية ما بعد الانتفاضة الأولى، وانتقالها من معالجة أو تصور عام إلى تصور خاص، يتسم بالهم الفردي ويتقاطع مع الهم الإنساني بشكل عام، ولكن بقي الفن في اعتقادي لمرحلة متأخرة لا سيما حتى نهاية الألفية الثانية يراوح مكانه حول القضايا السياسية والوطنية بالدرجة الأولى، إلى أن بدأ يذهب لأبعد من ذلك في التساؤلات وفتح الباب النقدي للثورة في فلسطين ومقارنتها بما يحدث بالعالم، وأصبح الفن يعتمد على وجهة النظر الفردية التي لها مبادئها وقناعاتها أكثر من كونها هوية جمعية يمكن الالتزام بها، وهذا لعب دوراً كبيراً في تطور البنية الفنية في فلسطين، بل وسجلت حضوراً مهماً حول العالم، وبعيداً عن أهمية وقيمة القضية الفلسطينية من بعدها السياسي فإن التغيير الحاصل بالفن هو ليس بفلسطين فقط، وإنما في العالم كله، وأصبح الفن يشكل حالة احتجاج مهمة ضد السلطة السياسية والاقتصادية والدينية.
أيمكنك أن تفصل مشروعك الفني عن الحراك الوطني السياسي والاجتماعي، وشعبك يعيش تحت الاحتلال؟
الموضوع لا صلة له بالقطيعة مع الواقع السياسي، بل هو قطيعة مع حالة الركود السياسي، وقطيعة مع ردة الفعل المعدمة، وقطيعة مع الرضوخ الممنهج من الرقابة السياسية والأمنية، وهو موقف إنساني علينا أن نتبناه، ولا يمكن فصل القيمة الجمالية مثلاً عن السياسة، بل هي مطلب إنساني وغريزي للبحث عن الجمال.
أمام الحروب والدم والقتل لا يمكن أن نعيد صورة هذا المشهد في لوحة، فنحن نحتاج للأمل، ونحتاج لما يمكن مشاهدته فيما وراء ذلك، والعائلة التي تظهر في أعمالي هي نتاج حالة سياسية بالمطلق، لكن من المهم أن نعيد قراءتها من زوايا متعددة لنعيد اكتشاف وفهم علاقة العائلة بالمكان بمعزل عن السياسة كصورة مباشرة، والتي تعد حصيلة حصار سياسي بشكل أو بآخر
برأيك ألا تزال الفنون صالحة وسط كل هذا العنف في المنطقة العربية؟
الفن مطلب إنساني، والدليل أن الأغاني الوطنية التي مجدت الثورات والشهداء والجرحى كانت تخرج من صميم الحدث، وأيضاً السينما والشعر والرواية التي وثقت في شقها الأول، ومن ثم رسمت الأمل والطموح والإصرار والتقدم في شقها الثاني، وقد ساعدت في حالات كثيرة على خلق معادلة التصدي والصمود، ونحن نشاهد الآن بشكل كبير كيف يعمل الاحتلال على محاربة الفن والإبداع الفلسطيني كونه ينتصر على أسلحتهم النارية ويجردهم من إنسانيتهم أمام العالم. أيضاً يمكن ملاحظة الفن السوري الذي أصبح الآن مفتوحاً للعالم وعلى العالم بعد أن كان محاصراً ومراقباً باللاوعي السوري، وكيف هذا الفن لعب دوراً كبيراً في تبني قضايا الجماهير، وكيف وجد الناس أنفسهم مع هذا التصور الذي افتقدوه لزمن طويل، بل أصبح الفن اليوم جماهيرياً بامتياز، ولا زلنا بحاجة هذا الفن أياً كانت الأحداث والمتغيرات.
هل تؤمن بولادة حركة فنية تشكيلية جديدة وُلدت ما بعد موجة احتجاجات الربيع العربي؟
أي ثورة بمعناها المجازي أو الواقعي، لا شك أنها تلعب دوراً في خلق بيئة التغيير، الناس ترغب بالتغيير، ولكنها غالباً تنتظر من يأخذ بيدها، والثورات الشعبية هي حاجة جماهيرية يعتقد أصحابها بتغيير الواقع للأفضل، والفن هو انعكاس لهذه الرؤية، حتى في ظل الخيبات الحاصلة من الثورات العربية فهي لعبت دوراً بارزاً بتطوير الفن ويمكن ملاحظة ذلك فيما قدمته مصر من فن الغرافيتي وفن الشارع والفن المجتمعي، لقد أصبح الفن أداة من أدوات كي الوعي والتغيير، والآن في سوريا بالرغم مما تمر به من حالة إبادة، وسابقاً فلسطين ولبنان وغيرها. فالثورة بفشلها أو نجاحها تعد ذو بعد ديناميكي للإبداع من أجل قول كلمته في دعم الثورة أو نقدها.
أخيراً ما هو مشروعك المستقبلي؟
لو قلت إنني أعرف، لنسفت كل ما تم تقديمه. أنا أنتظر لأكتشف ما يمكنني أن أقدم من أشياء جديدة ومختلفة على صعيد تجربتي الفنية.