اليوم الجمعة، الثلاثون من آذار، تمر الذكرى 42 ليوم الأرض. في الثلاثين من آذار 1976 كنت طالباً في الجامعة الأردنية في السنة الأخيرة. وأذكر أن طلاب الجامعة احتفلوا به.
ماذا كنا نعرف يومها عن الأرض وحضورها في الأدبيات الفلسطينية؟
لم أعد أذكر ما تعلمناه في الصفوف الابتدائية في المناهج التعليمية الأردنية، ولما احتُلت الضفة الغربية وقطاع غزة كنت أنهيت الصف الأول الإعدادي -أي السابع- ولما وقع الاحتلال دخلت إلى الصف الثاني الإعدادي ودرست في الكتب التي وافق على تدريسها ضابط الاحتلال، وهي كتب تم حذف أغلب النصوص التي تزرع في الطالب حب الوطن والانتماء إليه والتركيز فيها على أن فلسطين وطن سليب، وهكذا أنهيت الدراسة الثانوية -التوجيهي- ولا أعرف الكثير عن التاريخ الفلسطيني من وجهة نظر فلسطينية، تماماً كما أنني لم أعرف الكثير من النصوص الأدبية الفلسطينية التي أتى فيها أصحابها على موضوع الأرض.
في الجامعة الأردنية لم أدرس الكثير من نصوص الأدب الفلسطيني.
درست قصيدة محمود درويش «جندي يحلم بالزنابق البيضاء» وفيها يحاور الشاعر الجندي الإسرائيلي عن علاقته بالأرض ويجيب الأخير بأنه لم يحس أنها جلده ونبضه وأنه يرغب أن يحتسي قهوة أمه في المساء.
سيحضر موضوع الأرض منذ الثلاثين من آذار كما لم يحضر في أذهاننا من قبل. سنقرأ ما كتبه سميح القاسم في ديوانه الشعري «وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم»، 1976، وسنقرأ قصيدة محمود درويش «الأرض»، 1976، التي ظهرت في ديوانه «أعراس»، 1977، وستغدو بعض عباراتها أشبه بلازمة نكررها باستمرار “سنطردهم من هواء الجليل”، “وفي شهر آذار قالت لنا الأرض أسرارها الدموية” و… و…
بعد الثلاثين من آذار ستصدر مجموعات قصصية عديدة عن ”دار الأسوار“ في عكا تحمل في عناوينها ما يدل على التمسك بالأرض والدفاع عنها «كوشان» لمحمد نفاع و«الشجرة التي تمتد جذورها إلى صدري« لسلمان ناطور و«ريحة الوطن» لحنا ابراهيم و… و… وسيعالج هؤلاء موضوع دفاع الناس عن أرضهم وتجسّد هذا واضحاً في قصة محمد علي طه «وصار اسمه فارس أبو عرب» من مجموعة «عائد الميعاري يبيع المناقيش في تل الزعتر»، 1978.
هل كانت الكتابات السابقة هي الأولى في الأدبيات الفلسطينية التي قاربت موضوع الأرض؟ يقيناً أن الإجابة هي بالنفي، فلقد قورب هذا الموضوع في الشعر الفلسطيني في فترة مبكرة جداً.
في العام 1913 كتب الشاعر سليمان التاجي الفاروقي قصيدة إلى الخليفة العثماني ينبهه فيها إلى خطر الاستيطان اليهودي في فلسطين، ويشير إلى أن اليهود ينوون شراء الأرض بالذهب. ولكن الالتفات الحقيقي للصراع العربي الإسرائيلي على الأرض تجسّد أكثر ما تجسد في أشعار إبراهيم طوقان. إن قصائد طوقان الوطنية تحفل بموضوع الأرض، وقد لاحظتُ هذا فأنجزت بحثاً مطولاً تحت عنوان «صورة الوطن في شعر إبراهيم طوقان» عام 1995.
كان طوقان يحذر من بيع الأرض لليهود، فمن يبع أرضه قد لا يجد شبراً من الأرض يدفن فيه:
”يا بائع الأرض لم تحفل بعاقبة
أما علمت بأن الخصم خداع
فكر بموتك في أرض نشأت بها
واحفظ لقبرك أرضاً طولها باع“
و:
”باعوا البلاد إلى أعدائهم طمعاً
بالمال لكنما أوطانهم باعوا
قد يعذرون لو أن الجوع أرغمهم
والله ما عطشوا يوما ولا جاعوا“
و:
”وأما سماسرة البلاد فعصبة
عار على أهل البلاد بقاؤها“
و:
”وطن يباع ويشترى
ونصيح فليحي الوطن“
و… و… وأبيات كثيرة ظهر فيها هذا الدال أو إحدى مترادفاته. ستحضر الأرض في أدبيات خمسينيات القرن العشرين في القصص القصيرة. ستحضر في قصص نجوى قعوار فرح وغيرها.
لنجوى قعوار فرح قصة عنوانها «أمر الخيارين» وهي قصة تعالج نكبة العام 1948 وذيولها.
يبقى الرجل الطاعن في السن في قريته قرب شجرة الزيتون ولا يهاجر، فيم هاجر أبناؤه خوفاً على حياتهم، وتعاني الزوجة الكثير. تريد البقاء مع زوجها ولكنها تريد أن ترى أبناءها والزوج يصر على البقاء في الأرض، وحين تتغلب عاطفة الأمومة ويغادر الزوج البلاد مع زوجته ينفجر ويموت. البعد عن الأرض للفلسطيني يعني الموت.
في ستينيات القرن الماضي تغنى محمود درويش بالأرض كما لم يتغن شاعر من قبل. اتكأ الشاعر على موروث الشعر الفلسطيني فقرأ أبا سلمى -عبد الكريم الكرمي- وطوقان وكتب:
”وأبي قال مرة:
الذي ما له وطن
ما له في الثرى
ضريح
ونهاني عن السفر“
ووحد الشاعر بين المرأة والأرض:
”أنت عندي أم الوطن
أم أنتما توأمان؟“
و
”يا صخرة صلى عليها والدي
لتصون ثائر
أنا لن أبيعك باللاليء.“
ولقد شغل موضوع الأرض الدارسين أيضاً فأنجزت عنه رسائل علمية عديدة.
اليوم تمر الذكرى الـ 42 ليوم الأرض، فماذا بقي لنا منها؟
هل نكرر قول محمود درويش: ”سنطردهم من هواء الجليل“ أم نردد، ولو لفترة، سطر تميم البرغوثي: ”في القدس من في القدس إلا أنت“ و”في القدس كل فتى سواك“؟
مكث الصليبيون هنا 200 عام وغادروا. ربما لهذا أنهى تميم قصيدته بالسطر: ”ولكني لا أرى في القدس إلا أنت“.