بغلة الحلاج
عند استرجاعه الحلولية في «رسالة الغفران»، يذكر المعري بضعة أمثلة، أحدها الجمل الأعور الذي يتقمصه الأب حين يزور ابنه في المنام، فيطلب منه أن يبحث عنه لأنه يشتهي بطّيخة، “أخذها [الجمل الأعور] أخذَ مريدٍ مشتهٍ”؛ ومثالٌ آخر عن الرجل الثور، وهو ثور حراثة يستجيب بالخوار حين يُنادى باسم الميت، وقد يذكرنا بالمينوتور الذي لم يرسمه دانتي بدقّة في “الكوميديا الإلهية”، فوصفه برأس رجل وجسم ثور. يضيف المعري إن “هذه المذاهب قديمة، تنتقل في عصرٍ بعد عصر، ويقال إن فرعون كان على مذهب الحلولية، فلذلك ادّعى أنه ربُّ العزّة”.
يسخر المعري مما نُسِب إلى الحلاج ومسبّحيه، واصفاً حلوليته في «سبحانك سبحاني» بالشعوذة: “وبنو آدم بلا عقول، وهذا أمرٌ ينقلهُ صغيرٌ عن كبير”. “ومما يُلفَّق على الحلاج إنه قال للذين قتلوه: “أتظنون أنكم إياي تقتلون؟ إنما تقتلون بغلة المادراني”، وإن البغلة وُجدت في إصطبلها مقتولة”. لا أستبعد أن تكون عبارة مثل “أنا الله” أو “أنا من أهوى ومن أهوى أنا” سبباً إضافياً للنفور.
على أية حال، ثمة نبوءة واحدة من نبوءات المتنبي قد تحققت بعد قوله: “أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي”، إذ ألّف عنه المعرّي “معجز أحمد” وسمّاه “الشاعر”، بألف لام التعريف، ولكنهما في الاستخدام الشعري لضمير المتكلّم متباينان أشدّ التباين. كانت الأنا لدى المعرّي مدخلاً من المداخل المتعددة إلى حيرته وشكوكه، ولا تتصل في حالات تخفيها وعبورها بأي شيء من الفحولة والنرجسية. لا ننسى قوله عن ديوان شبابه «سقط الزند»: “مدحتُ نفسي فيه فلا أشتهي أن أسمعه”، ولا ننسى أفكاره حول مصير الإنسان بعد الموت. ولكن كيف لمن لا يؤمن بالله الإيمانُ بالخلود وبقاء النفس؟ قيل إن التقمص يعتق الروح من سجن الجسد، وهو بالأحرى تبديل للزنازين، على ما جاء في «اللزوميات»: “أراني في الثّلاثة من سجوني، فلا تسأل عن الخبرِ النّبيثِ/ لفقدي ناظري، ولزومِ بيتي، وكونِ النّفس في الجسد الخبيثِ”. نعلم أن الشعراء قد تقمّصوا عبر تشابيهم البليغة ما لا يحصى من المصائر والمخلوقات، وقد رفض رهين المحبسين هذه الطريقة، كما رفض خلود الروح ومذهب التقمّص والإنجاب، وهذه جميعاً أفكار مترابطة بشكل من الأشكال. رغبات الإنسان وآماله لا تتناسب مع المدة المتاحة له في هذه الحياة، وقد لا يطيق إن النسيان سيطوي أثره وذكراه ومآثره، ولا سيما اسمه، ليتلاشى إلى الأبد، من دون أن يتغير شيء في هذا العالم بعد رحيله، ولهذا يعمد إلى الإنجاب أو اعتناق التقمص. للأسف، هذه التأويلات غير مقنعة، على الأقل بالنسبة للتقمص كفكرة شعرية، ولا أعني بهذا الكلامِ الطموحَ إلى خلود شخصي، وإنما الرغبة في استمرار الحياة من بعدنا، وبقائها مصانة من دوننا.
وفي رحلته الخيالية عبر الجنة والجحيم، ينتقل المعري من نحلة الحلولية إلى التناسخ، وهذا الأخير “مذهبٌ عتيق يقولُ به أهل الهند، وقد كثر في جماعةٍ من الشيعة”. نعلم بالطبع الأثر الأفلاطوني في المعتقدات الدرزية والعلوية المتعلقة بتناسخ الأرواح، وانمساخها في حيوانات أو نباتات مكروهة. كل إنسان قد عاش عدداً لانهائياً من الحيوات، متنقلاً من جسد لجسد، حيوان أو إنسان، وصولاً إلى هذه اللحظة، وماضيه يحدّد حاضره الذي ليس إلا عقاباً أو ثواباً على حياته السابقة. هذه واحدة من اليقينيات الكبرى في الهندوسية والبوذية، فالماضي يمسخ الحاضر أو يكرّمه.
في «رسالة الغفران» بيتان لرجلٍ من النصيرية تقمّصتْ أختُه فأرةً فيناشد أمّهما راجياً: “فازجري هذه السنانيرَ عنها”، كما تُذكَر حالاتٌ من تناسخ الأرواح في الهند، وإحداها ملك من ملوك الهند، كان شاباً حسناً فأصابه الجدري، ولما نظر إلى وجهه في المرآة وقد تغيّر، أحرق نفسه وقال: “أريد أن ينقلني الله إلى صورةٍ أحسن من هذه”.
حوّاء العقيم
يعيدنا معنى كلمة “التقمُّص”، في المعاجم، إلى بيتٍ للمعري: “جسدي خرقة تخاط إلى الأرض/ فيا خائط العوالم خطني”. هذه الخياطة التي سترقّع الترابَ بالجسد حتى يهترئ اللحم وتختلط عناصره بأديم الأرض، تتم مرة واحدة فقط، فالروح لا تبدّل الأجساد كالقمصان. أزعم إن رهين المحبسين قد رفض مبدأ تناسخ الأرواح لسبب شخصي بحت، ألا وهو رفضه للإنجاب واستهجانه مبدأ الأبوّة والبنوّة. لنتذكر قوله: (فليت حواء عقيمٌ غدت/لا تلد الناس ولا تحبل)، وكذلك ما ورد في «الفصول والغايات» التي قيل إنه حاول فيها معارضةَ القرآن أو مضاهاته فباء بالفشل: “أبصر آدم القمر، وطلعت عليه الشمس، ففني وبنوه، وبقيا على مرّ الأحقاب”.
على النقيض من وولت ويتمان الذي احتفى بنفسه احتفاءً حسّياً في «أغنية نفسي»، غنّى الشاعر الميتافيزيقي الإنكليزي جون دُون “الروح التي لا تموت” في قصيدته «تقدُّم الروح»، واستهلّها بالروح التي تسكن التفاحة، ثمرة الخطيئة الأولى، كبذرةٍ للشرّ منذ البدء، ثم تدخل بطن حواء لتنجب قابيل، وتواصل ارتحالها من جسد إلى جسد، مقطعاً شعرياً تلو مقطع في القصيدة التي ظلت غير منتهية. كان جون دون قد ظنّ إن هذا العمل سيتجاوز كل الكتب الأخرى ما عدا الكتاب المقدس.
البغل المعصوب العينين
سأجازف بقولٍ لا أعلم نصيبه من المغالطة، ألا وهو إن المعرّي، في كتابه «القائف» المفقود معظمه، قد تقمّص عدداً من الحيوانات وكتب على لسانها، مستفظعاً بني البشر ومبدياً نفورَه منهم، وهو النباتيّ الذي أعماه الجدريّ ولازم منزله طوال حياته. فالنملة المحتضَرة تقول للنمال المجتمعة حولها على فراش موتها: “لا تجزعن، فقد دخرتُ عند الله دخيرة مَن دخر مثلها جديرٌ بالرحمة، وذلك أني لم أسفكْ دماً قطّ”؛ وفي حكاية ثانية حيّةٌ رقشاء باتت ضريرة في آخر عمرها، وما عادت تسري في الظلام لأكل فراخ الطير، “فلزمت الوجار لا تُذْعِر النائي ولا الجار”؛ وفي حكاية ثالثة أسدٌ كفَّ بصره، فقال: “أجتزئ بنبتِ السحاب ولا أفتقر إلى الملك والأصحاب”.
تصور المعري في «رسالة الصاهل والشاحج» حواراً بين فرسٍ وابن أخته، البغل الموبّخ (الشحيج في لسان العرب هو صوت البغل). تساهم في هذا الحوار الممتع فاختة وجمل وضبّ وثعلب. اتخذ المعري موضع البغل معصوب العينين لا يبارح مطرحه، تحدّثه الحيوانات الأخرى قليلاً ثم تمضي في حال سبيلها، ويبقى هو مرابطاً لصق البئر يرفع الماء منها طوال النهار.
البغل نباتيّ وعقيم. ينسجم عزوف المعري عن اللحوم والإنجاب مع شجبه لمبدأ التقمص، إذ استنكر فكرة الولادة، لأنها جناية، ولأنها أسّ المصيبة وبداية الشرّ. لا مناص هنا من بيته المعروف المنقوش على شاهدة قبره في معرة النعمان: “هذا جناه أبي عليّ/وما جنيتُ على أحد”.