أليسار صواف
كان لدينا من الحب نافذة، ومن الوقت طفولة متأخرة ومراهقة لاحقة.
كنتُ بجديلتين أركب الميكروباص في الطريق إلى مدرستي البعيدة. وكان يقف هناك كل صباح مُمسكاً “قرنفلة” وانا لم أحب هذا الورد يوماً، كنتُ أريد جورية حمراء بساقها الطويلة، منزوعة الأشواك.
يقول: هي إلِك..
آخذها وأزرعها في مقعدي الخشبي في المدرسة، وأكتب بطرفها المبلول قصائد عذرية، وأرحل معها بعيداً عن صف كئيب ومدرسة قاتمة.
في طريق العودة كنت أنتظره كي يصل بعدي بنصف ساعة إلى موقف الميكرو، لأتمكن من الجلوس إلى جانبه، فإن جلس رجل آخر بجانبي، سيحاول على الأغلب أن يلتصق بي ويتحرش بجسدي الصغير علناً دون أن يراه أحد.
كنت أضع حقيبة المدرسة حاجزاً عازلاً بيني وبين الغرباء، وكنت أرميها بين قدمي عندما يكون هو بجانبي.
بدأت أمارس أنوثتي الأولى، فأطلي رموشي بماسكارا “شفافة” وأضع مُلمع الشفاه الذي لا لون له. وأُحنّي شعري بلون أحمر داكن. أطلي أظافري بعناية بلون شفاف، وأفتح أزرار السترة المدرسية العسكرية، التي تكشف لوناً وردياً تحتها، ينم عن أنوثة رافضة لبدلة الفتوة.
كنت أزيد الشارات فوق كتفي الزي العسكري كي يظن أنني في الصف العاشر، وقد كنت حينها في الصف الثامن، أرتدي نظارة سميكة وتقويماً فضياً للأسنان.
في السادسة عشر، قررتُ أن أضع العدسات اللاصقة، ورأيتُ عَيني أوسع من أي وقت مضى، ووضعتُ لهما خطين أسودين من الكُحل، تَسببا لي بصفعة من مُدربة الفتوة، وبسمعة بالية بين بنات الصف:
“عم تتمكيج رايحة تشوف رفيقا بعد الدوام”
كُنا نلتقي سراً في شوارع دمشق، وكنا نظن أسرارنا مخفية، لكن الجميع كان يعرف.
هدّدتني أمي ذات يوم وهي تقف على “السيبة” لتنظف الستائر العالية، بأنها سوف ترمي بنفسها من أعلى السلم إذا سمعت أني سألتقي به مرة أخرى.
وكان حديثها يعني بالنسبة لي أمراً واحداً فقط، عليّ أن أُتقِن الكذب أكثر.
في يوم صيفي بعد عيد ميلاده الثامن عشر، أراد أن يصحبني “مشوار” بسيارة أمه السلحفاة (فولكس فاكن) وكانت تلك المرة الأولى التي نركب فيها معاً سيارة يقودها هو.
كان ينعطف خارجاً من الشارع الضيق عندما جاءت سيارة مرسيدس شبح سوداء مسرعة من الجهة المقابلة. ارتطمَت بنا وترجل منها السائق بنظارات سوداء قاتمة.
عرفنا أن الأمر لن يكون بسيطاً مع ابن المسؤول أو سائقه. قال لي: إنتِ لا تنزلي من السيارة..
ما إن اقترب حتى صفعه السائق “كفاً “مدوياً. فقد عقله وانهال على السائق بالضرب، وخلال دقيقتين كان هناك ستة من الرجال بنظارات قاتمة، يَجرونه على الأرض ويدفعونه داخل سيارتهم.
وبينما أخذتُ أصرخ وأحاول جره منهم، “خلعني” أحدهم كفاً عنيفاً وقعت إثره على الأرض.
قاموا بتحطيم السيارة في تلك الليلة.
وبينما أقام أهله الدنيا ولم يقعدوها، كانت أمي تطلب مني أن أختفي عن العالم الخارجي.
بقيتُ ذلك الصيف في غرفتي الحارّة في دمشق كحجز انفرادي عائلي.
شهران من النحول والضمور والتعاسة..
عرفنا أنه في مكان يُسمى بالطاحونة، وأنهم سيُطلقون سراحه بعد أن يُعيدوا تربيته!
عندما خرج بعد شهرين حمله شباب الحارة على أكتفاهم وغنوا له عراضة شامية، وأطلقت النساء الزغاريد، ورشوا الورد وزينوه بالحب ولم يخَف أحد.
عاد هو بأذن صماء، ووجه مشوه تقريباً، وشفاه متفجرة من كثرة الضرب.
لم يحكِ لي أبداً عمّا رأى هناك أو سمع أو عمّا جرى له.
قال لي فقط: كانت الجدران مليئة بعبارات فظّة، وأخذ يُردد
يا فقير خليك حقير
يا فقير خليك حقير
يا فقير خليك حقير
يا فقير خليك حقير