يُعدّ الفنان تيسير بركات أحد أهم التشكيليين الفلسطينيين، الذين أنجبتهم مخيمات اللجوء في غزّة، ومن الذين اجتهدوا طوال سنوات حياتهم لكي يجدوا هويتهم الإبداعية والفكرية، وهو من المؤسّسين لمرحلة مهمة من الفن التشكيلي ببلادنا.
لم يغادر ضيفنا مدرسته أو مذهبه في الشكل والمضمون منذ بدايات مشواره الذي يمتد على مدار أكثر من ثلاثين عاماً، وبحسب النقاد، فإن لوحاته تتشابك بواقعه المتمثل في كونه ابن لاجئ وخاضع للاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية. ولكن برغم هذا الواقع المتجهم، إلا أنه لا يمكن اعتبار لوحاته خالية من الأمل أو اعتبارها مليئة باليأس؛ بل إن ما يهمه هو السرد، أن يخبرنا من خلال منجزه البصري عن حكايته التي هي جزء من حكاية شعبه الفلسطيني.
تيسير بركات، الذي تطلع إلى المساهمة في بناء فن فلسطيني وعربي معاصر، على أن يكون الأساس لهذا الفن هو تاريخنا نحن وليس الاعتماد على المصادر الغربية، كان لـ”رمان” معه هذا الحوار:
كيف ترسم لنا بداياتك الفنية؟
البداية كانت منذ الطفولة بمخيم جباليا في غزّة. كنت أرسم أثناء منع التجوال، كنت طفلاً صغيراً عندما عرفت الاحتلال، وكانت الشرارة الأولى هي التواصل مع الطبيعة، حيث كان أبي يصطحبني إلى البيارات والحواكير، وكنت أتنفس الروائح من الصباح وحتى غروب الشمس. هذا جعل بيني وبين الطبيعة كيمياء من نوع خاص. أضف إلى ذلك طول فترات منع التجوال في المخيم، والتي كانت تمتد إلى أسابيع، فكنت أستفيد من هذا الوقت بالرسم.
ومن أسباب انغماسي في الرسم صورة فتاة بالحطة الفلسطينية وهي تحمل بندقية، حيث كنت طوال الوقت أعيد رسمها.
ما جديدك، وما هي مشاريعك الفنية في المستقبل القريب؟ وماذا عن معارضك الفردية والجماعية؟
أحضّر حالياً لمعرض من المقرر أن يكون موعد افتتاحه أواخر هذا العام، في مدينة رام الله، والأغلب أن يكون عنوانه “رحلة في الزمن”. أما مشاريعي المستقبلية، فحقيقة أنا لست من الفنانين الذين يخططون لمشاريعهم الفنية، فغالباً المشاريع هي التي تفرض نفسها علي. ما أعنيه ليس على الفنان اختلاق مشاريع بل عليه أن ينصاع إلى ما تفرضه عليه الحياة. أما إذا كنت تقصد الفاعليات الفنية المستقبلية، فسأكون هذه الأيام في لبنان، للمشاركة في “سمبوزيوم للفن الدولي” بمشاركة عربية ودولية. وفي أوائل شهر تشرين الأول/ أكتوبر المقبل سأكون في تونس للغرض نفسه.
كنت قد شاركت في العديد من المعارض الجماعية في معهد العالم العربي في باريس، وبينالي سان باولو في البرازيل، وبينالي الإسكندرية، وبعدد كبير من المعارض الجماعية حول العالم. كما أقمت إثنا عشر معرضاً فردياً في رام الله ودول عربية وأوروبية.
من تريد أن تذكر من التشكيليين الفلسطينيين والعرب ممن أثّرت فيك تجاربهم، وأثرَتْكَ أيضاً؟
أذكر من التشكيليين الفلسطينيين الفنان المرحوم مصطفى الحلاج، هذا الفنان الحلاج المبدع الذي غاص عميقاً في تاريخ الحضارات القديمة. وكان أقدمها حضارة بلاد الرافدين، فعناصره الفنية غنية بالمفردات، وبروحها الشرقية، رغم استخدامه للون الأسود بكثرة، فتلك الحيوانات المجنحة والشخوص المرصوصة والطيور الخرافية كلها عناصر مستمدة من روح الشرق.
لكل فنان أسلوب يمتاز به وأسلوب يمثله، ما هي خاصيات أسلوبك الفني؟
لا أعتمد أي أسلوب محدد، ولكن أعمالي الفنية تصل إلى الحداثة. كما لا أعتمد خامة واحدة. أنا في رحلة بحث واكتشاف دائم مع الخامات؛ استخدمت الخشب والنار والأصباغ والطباعة وبرادة الحديد والزجاج، واستخدمت أيضاً الأثاث القديم. أشعر بأن كل موضوع بحاجة إلى حاضنة حتى تحمل الفكرة وتوصلها للمتلقي.
ما هي مصادرك الفنية، ومن أين تستمد لغتك البصرية؟ وما هي مفرداتك للتعبير عن ورؤاك وأفكارك واتجاهاتك الفنية؟
بالنسبة للعناصر الفنية التي استخدمها فإنها تأتي من رؤية شرقية للكون والحياة. نحن في الشرق لم نرسم أو ننحت ما تراه العين دائماً، بل اعتمدنا على فهمنا الخاص للطبيعة وعناصرها المتنوعة، بحيث لم نرسم الشخوص أو الطيور أو الحيوانات كما تراها العين، إنما رسمنا فهمنا لها. من هنا جاءت الحضارات الشرقية بمفهوم مختلف وهذا هو الفرق بين حضارتنا والحضارة الأوروبية، التي منذ فجر التاريخ كانت تحاكي الواقع كما هو، وكان الجمال هو تقليد الواقع. من حضارتنا الشرقية جاءت مفرداتي، فأنا أرسم ما وراء ما تراه العين. وأكثر هذه المفردات هي؛ الإنسان والبحر والحيوانات والطيور وأشكال حديثة من هذا الزمن.
كيف تطورت علاقتك مع المواد الخام، التي هي بالضرورة وسيط لحمل فكرة العمل/ اللوحة؟
درست في كلية الفنون بالاسكندرية ألوان زيتية، وبعد التخرج مباشرة بدأت رحلة البحث عن الخامات وكانت تستهويني، وشعرت بأن لكل خامة طاقة خاصة بها وتحتاج إلى فهم، فمثلاً برادة الحديد، أراها كائناً حياً، ينبض ويتنفس ويقيم معك حواراً.. إنها خامة تعطيك أسرارها الدفينة إذا فهمت، وتعطيك أكثر إذا عشقت، تحاور، تنطوي أحياناً، وأحياناً أخرى تنعزل؛ تتفتق؛ تتملق؛ تستتر؛ تتوارى؛ تفاجئ؛ تتسلل؛ تعانق؛ تتصادم؛ وبالعشق تتجلى؛ وبالفهم تشرق وتنير؛ أمضيت عاماً أتلمس قسماتها، تصورت أني العارف، وأني أعرف أنها تحمل بذرة النطق وأسرار هذا الكون…
أعرف أنها من المكونات الأولى لعجلة حمورابي، والقاطع في السيوف الدمشقية، واللبنة الأولى لحاملات الطائرات الأمريكية، وللفرن الذي لا يجد الغاز في غزّة، ولوتد يبحث عن خيمة في الربع الخالي.. لا زلت أشم حديد الإناء الذي طبخت فيه أمي لأخوتي لعقدين من الزمان. أصحو صباحاً قبل بزوغ الفجر لأرى ما حل بجزء مني، هل انطوى؟ هل أشرق؟ هل تقاعس؟ ما الذي يستنطق هذه المادة، أهو البرد؟ أم الرطوبة؟ أم عصير الرمان؟ تتبعتها ألف ليلة وأكثر من شمس، وثلاثة أرباع رطوبة الليل، وخمس السنة صقيع…
كانت تتكشف لي أكثر من ينابيع الماء أحياناً وتنغلق على كنوزها عند احتباسي أحياناً أخرى. تعطي عندما أشرق بأسراري، وتنحبس عند إسدال ستائري على روحي، أدفئ جزءاً منها ليلاً وأعرض أجزاء للشمس، وأخبئ أطرافاً منها للبرد، وأتساءل هل الصقيع يلفح وجهك أكثر من تمّوز؟
هل غمام الليل مع رذاذ الماء يجعلك أكثر تعقلاً؟ هل أنا على مشارف المعرفة البكر؟ هل اقتربت من الملامسة؟ هل بت على أعتاب الهالة؟ أم أخطو لأكتشف أني بعيد.
اللوحة بالنسبة لك هل هي ميلادٌ روحي أم بناء عقلاني؟ بالتالي من أين تستوحي أعمالك الفنية؟
العمل الفني هو بناء روحي في الأغلب، وعندما أبدأ لا يكون عندي أي فكرة عن ماذا سأرسم، أترك نفسي على سجيتها، والأغلب أن آخذ من المادة التي أعمل عليها وأعطيها. هي علاقة حب فيها أخذ وعطاء. أحول أحياناً مادتين متناقضتين إلى علاقة من الحب كالنار والخشب. أجعل النار تلامس الخشب ويبنيان مع بعضهما حياة جديدة، فأخلق حالة جديدة من هذين المتناقضين، وأبدل حالة الإفناء التي يمارسها أحدهما على الآخر، ومنهما حاولت إطلاق رسالة حول قضية شعب ومعاناة يومية نعيشها في الأراضي المحتلة.
الخشب عدو للنار، عدوه اللدود، وهاتين المادتين من المواد الأولية للحياة إذا لامست النار أكثر مما يجب تحرق، لذا هذه الملامسة بين النار والخشب هي كالحب. إن درجة الملامسة ونوعها هي التي تكفل عملية الإحياء والتألق واستنطاق الطاقة الكامنة من المادتين.
أيٌ هي اللوحة الأقرب إليك من بين كل أعمالك، وما قصتها؟
ليس لوحة. هو عمل فني، صندوق من الخشب أرى فيه حكايتنا الفلسطينية. إنه صندوق خشبي فيه سبعة جوارير، اشتريته من شخص كان يبيع المهملات، وكان يحضرها من “إسرائيل”، وعلى ما يبدو كان يُحضر أغراض كان يستخدمها عناصر جيش الاحتلال، ومنها هذا الصندوق. كانت عليه كتابات بالعبرية وبقايا أوراق كتب فيها “يهود قادمون إلى المجدل.. يهود قادمون إلى عكا.. إلى حيفا”. كان والدي قد توفي حديثاً.
الصندوق، مثال جيد على أعمالي لأنه يروي حكاية الوالد التي هي حكاية فلسطين، وكان أن صادرت سلطات الاحتلال الصندوق مني ذات مرة، وأزالت عنه كل الملصقات، يومها كنت سأموت لو أنهم لم يعيدوه لي. فاستعنت بالمحامي مازن قبطي لكي أسترجعه، كان صديقي وطلبت منه أن يتدخل بالموضوع. أحب هذا الصندوق كثيراً، وكأنه جزء مني كان يجب أن يخرج إلى العالم.
برأيك ما أهمية أن يكون لدى الفنان مشروع يعمل على تحقيقه؟
ليس مهماً أن يخلق الفنان مشروعاً. بل يجب أن يفرض المشروع نفسه بنفسه على الفنان. أرى من خلال تجربتي أنه ليس المهم إنتاج أعمال فنية بقدر أن يكون هناك ما يقوله الفنان. وكذلك أن يجد نفسه منطلقاً لمشروع أو عمل فني مرغماً على تحقيقه بدافع داخلي.
ألا ترى أن الواقع اليومي في فلسطين المحتلة يشكل مادة مفتوحة للإنتاج الفني والإبداع في ظلّ الأحداث المتلاحقة التي تشهدها البلاد؟ وهل من خصوصية متعلقة بالإنتاج في ظلّ دولة الاحتلال والواقع السياسي المزدحم بالصراعات؟
تمنيت لو لم يكن هناك احتلال، وأن لا تكون مرجعية أعمالي الفنية من موضوعات هذا الجرح الفلسطيني المفتوح. كنت أتمنى أن أرسم عن الطبيعة والجمال والحب. أما الخصوصية، فنحن جُبرنا كفنانين تشكيليين وسينمائيين وكتّاب ومبدعين فلسطينيين في كل المجالات أن نكون اللون الثامن من ألوان قوس قزح.
أنت مع الفن الذي ينقل الواقع كما هو أم الفن الذي يعيد صياغة الواقع برؤى مختلفة مبتكراً ومضيفاً؟
أكيد أنا مع الفن الذي يعيد صياغة الواقع. الفن هو تكثيف الواقع والحدث والإمساك باللحظة وتثبيتها في عمل فني.
هل توافق بيكاسو في قوله: “الرسم طريقة أخرى لكتابة المذكرات”؟
أوافق بيكاسو وأختلف معه كذلك. أختلف معه بأن الرسم هو كتابة مذكراتك عن الحياة والمحيط، وليس كتابة مذكراتك فقط.
كيف تقرأ الممارسة التشكيلية الراهنة في الضفة الغربية وقطاع غزّة، وإلى أي حد نجح الفنانون الفلسطينيون في الانخراط في الحداثة الفنية وما بعدها؟
الفن التشكيلي الفلسطيني يميل اليوم إلى الحداثة، ولقد أستطاع عدد هام من الفنانين التشكيليين الفلسطينيين إيصال الرسالة الإنسانية للشعب الفلسطيني إلى بقاع مختلفة من العالم، بأسلوب أقرب إلى الحداثة الفنية بأساليب متنوعة من اللوحة إلى الإنستيليشن إلى فن الفيديو، واستخدمنا وسائط مختلفة.
أخيراً، برأيك هل نجحت اللوحة الفلسطينية في طرق أبواب العالمية؟
نعم، نجحت اللوحة والعمل الفني الفلسطيني في الوصول إلى العالمية بالكثير من بقاع العالم، ولقد نجح الفنان الفلسطيني في انتزاع العديد من الجوائز الفنية العالمية. كما نجحت في نقل رسالة الإنسان الفلسطيني وهويته لأصقاع المعمورة.
يُشار إلى أن التشكيلي الفلسطيني تيسير بركات من مواليد عام 1959 في مخيم جباليا بقطاع عزّة. حصل على بكالوريوس الفنون الجميلة من الإسكندرية عام 1983 تخصص: تصوير. بعد تخرجه وعودته إلى فلسطين المحتلة انتقل مباشرة إلى قرية دير غسانة (25 كم من مدينة رام الله)، هناك قضى قرابة الشهر لينجز 15 لوحة وليقيم معرضه الفردي الأول في ساحة القرية.
يعمل ويعيش حالياً في مدينة رام الله المحتلة. وهو عضو في رابطة الفنانين الفلسطينيين منذ عام 1984، وعضو فاعل في “جماعة التجريب والإبداع”، ومن مؤسسي مركز الواسطي للفنون بمدينة القدس.
من الصعب أن نحصر قائمة معارضه الفنية خارج فلسطين، لذا نكتفي هنا بذكر بعضها: معرض النمسا في 2006، روما في 1989 و 1996، متحف الفن الحديث في ستوكهولم في 1996، معرض بمقر الأمم المتحدة في نيويورك في 1997، معهد العالم العربي في باريس في 2000، بينالي الشارقة في 2003، وفي “غاليري رفيا” بدمشق أقام معرضاً مشتركاً مع التشكيلي الرائد سليمان منصور في 2010. وكان أن شارك في عدة معارض فنية جماعية في الضفة الغربية وعمان والقاهرة والإسكندرية ودبي والدوحة وأصيلة ونيويورك ولندن وطوكيو وواشنطن وغيرها من مدن وعواصم العالم.