يصحبنا الفنان محمد خياطة في جولة تقارب الأربع ساعات لمشاهدة كامل أعمال معرضه الأخير، بعنوان ”تخلي – 2018“، الذي يقدمه كمشروع فني مفاهيمي، مؤلف من خمسة عشر عملاً فنياً تتوزع بين فن التجهيز بثمانية أعمال، وست صور فوتوغرافية، ولوحة واحدة.
هذا المعرض ليس محصوراً في مكان واحد، فقد وزع الفنان خياطة أعماله التي تشكل مجموعة المعرض على عدد من الأماكن متنوعة الاختصاصات، فبعض الأعمال قدمت في فضاءات خاصة بالفن التشكيلي مثل المعارض والغاليري (غاليري الرميل، غاليري آرت سين)، لكن أعمالاً أخرى على المتلقي، كي يراها، التوجه إلى مؤسسات ثقافية مثل مكتب مؤسسة اتجاهات، ومكتب مؤسسة آفاق، وأعمال أخرى وضعها في مقاهي مناطق متفرقة من بيروت مثل مارمخايل والحمرا، وحتى وُضعت أعمال فنية أخرى في منازل خاصة لفنانين ومراسمهم الشخصية كمرسم عزة أبو ربيعة، ومرسم ناجين فلاح.
فالمشروع يوظف رغبة تلقي العمل الفني كذريعة لخلق مساحات للحوار في أماكن حميمة وغير رسمية مثل المؤسسات الثقافية والمقاهي والمنازل الخاصة بالفنانين، حيث يتم تشجيع الناس بعيداً عن بروتوكولات صالات العرض الرئيسية وتحفيزهم على خلق علاقات متشابكة مع بعضهم البعض. هذا ما يوضحه الفنان من أهداف مشروعه الذي يأتي عنوانه ”تخلي“ كدعوة لتشجيع محبي الفن التشكيلي للتخلي عن الحواجز المتبادلة بين كل منهم والآخر، ويدفعهم لكسر حاجز الخوف لأجل مشاهدة العمل الفني، ويضعهم في ضرورة التواصل فيما بينهم حين يجمعهم فضاء الأعمال الفنية التي يقدمها المعرض.
بالإضافة إلى هذا الشرط المتعلق بالتلقي والذي هو أحد غايات المشروع الفني للفنان، تتناول الأعمال الفنية موضوعات من مثل: البيئة، الحرب، الموت. فاللوحة الوحيدة من أعمال المعرض التي تصوّر بالأبيض وتدرّجات الرمادي هي مقبرة، وهي موضوعة بدأت تراود الفنان خياطة بعد مشاركته في محاولات العثور على قبر للراقص السوري الذي فارق الحياة في بيروت حسن رابح. ومن تلك الحادثة، راحت موضوعة المقبرة تلح على الفنان ليخرج بلوحة من قياس 110/210 سم، لا يتكرر فيها سوى عنصر واحد هو شواهد القبور لتحتل كامل مساحة اللوحة.
يقول الفنان عن هذه اللوحة: ”إنها مقبرة وادي السلام، والتي هي أكبر مقبرة في العالم، تقع المقبرة الهائلة بالقرب من مدينة النجف في العراق، وتغطي مساحة ستة كيلومترات مربعة، وتضم رفات أكثر من خمسة ملايين شخص“، وكذلك جسدت اللوحة موضوعتها، حيث تبدو المقبرة كما لو أنها مدينة تمتد وتتكاثف مع ظلال مختلفة من اللون الرملي، تمتد شواهد التوابيت على كامل مجال الرؤية، في إشارة إلى تكاثر الحروب وضحاياها في المنطقة العربية.
الصور الفوتوغرافية السبع التي يقدمها المعرض تركز على موضوعة “البيئة”، عن تراجع الطبيعة لصالح حضور السيارات في المدينة، يتجسد في عمل تجهيز يضع فيه الفنان سيارات بلاستيكية مصغرة على كامل ساق الشجرة، ثم قام الفنان بتصويره ليصبح أيضاً عملاً فوتوغرافياً. هذا التداخل بين أعمال التجهيز والصور الفوتوغرافية يحضر مرة أخرى في عمل يتعلق بالكتل الإسمنتية المصمتة المستخدمة لمقاومة الأمواج عند شاطئ البحر، تضعها الشركات العقارية على المواقع الساحلية لبناء مشاريع سياحية، يعتبر الفنان هذا العنصر رمزاً للبناء الوحشي والاستيلاء على الأماكن العامة. هذه الصخور الإسمنتية النجمية الشكل نفّذ منها الفنان أقنعة مصغرة من مادة الأكروبود، لُبست هذه الأقنعة من قبل أشخاص لتغطي وجوههم وتم إلتقاط صور المعرض الفوتوغرافية لهم، بإشارة من الفنان إلى تصاعد الإسمنت على الجسد الإنساني وحلوله مكان وجوه البشر في الصور الفوتوغرافية.
يقول الموسيقي نذير سلامة الذي تطوع لارتداء القناع وتصويره فوتوغرافياً: ”إن تجربة ارتداء القناع مؤثرة للغاية، هي مزعجة ومرعبة في الوقت عينه، وكانت هذه أيضاً إرداة الفنان محمد خياطة، أن يجبرنا على عيش تجربة أن يحتل جسدنا من قبل الإسمنت“.
هنا نصل للحديث عن أعمال التجهيز التي تشكل الجزء الأكبر من أعمال المعرض. عن موضوعة “البيئة” يطالعنا عملي تجهيز الأول ”سيارات على ساق الشجرة“، والثاني عمل بعنوان ”أرض الصبارة“، يروي الفنان أن مزارع الصبار التي يصل عمرها إلى مائة عام قد اقتلعت من أحياء منطقة المزة في دمشق، لتظهر مكانها مولات تجارية ضخمة، أفقدت المدينة كافة مزارع الصبار العملاقة التي كانت تشكل إطاراً أخضر لكامل المنطفة، وانطلاقاً من هذه الموضوعة حقق الفنان عمل تجهيز، يشكل كتلة إسمنية كروية تخرج منها نباتات الصبار وكأنها تشق الصخر لتخرج إلى الهواء والضوء. هذه الكتلة التشكيلية ترفع معها عبر الحبال جرافات بلاستيكية مصغرة. ليبدو العمل وكأنه انتصار لنبات الصبار على الجرافات التي قامت بإزالته، وعلى الكتل الإسمنتية التي تحل مكانه. هنا يحلم الفنان بانتصار النبة فيحقق عملاً متخيلاً لهذا البقاء والاستمرار للنبتة رغم الأذى التي يحيقه الإنسان بها.
عن “الحرب”، يجمع الفنان مجموعة كبيرة من الدبابات البلاستيكية المصغرة في كتلة دائرية ضخمة معلقة بالهواء عبر الحبال، يبديها وكأنها تحلّق في الهواء، كذلك الأمر مع مجموعة من الجنود العسكريين من ألعاب الأطفال يجمعهم الفنان في كتلة دائرية ضخمة يرفعها في الهواء لتبدو كأنها كابوس يقظة يحلق بعيداً عن المشاهد.
يكرر الفنان فكرة التجهيز ذاتها في التعامل مع موضوعة “الموت”، يقف المشاهد أمام مجموعة من شواهد القبور، مُشكلة ككتلة واحدة مرفوعة في الهواء، وتحمل في أسفلها عبر الحبال قبراً مفرداً وحيداً. هذه الفكرة في التكوين التشكيلي تُنفذ في تجهيز فني آخر يجسد موضوعة “الهجرة”، السفر عبر البحر، قوارب رمادية تتموضع فوق بعضها البعض مربوطة بخيطان ترفعها في الهواء وترفع معها قارباً مفرداً وحيداً، يقول الفنان عنه: ”قارب فردي في وحدته أمام قوارب الجماعة“.
كان الفنان سابقاً، في العام 2013، قد تناول موضوعة “الهجرة” عبر البحر في لوحتين بعنوان ”بحر إيجه“، تعرضان حالياً في Beirut Art Fair، ترك فيها الرسام القسم الأعلى من اللوحة باللون الأبيض، وجعل من ثلثي اللوحة السفليين مساحة زرقاء تمثل البحر، لكن الناظر المدقق إلى ضربات الفرشاة وتوزيع الكتل اللونية ينتبه إلى أن البحر مسكون بوجه، بوتريه لبشري، وهكذا تشكل المساحة الزرقاء بحراً من وجه، أو وجهاً من بحر، في إشارة إلى الغرقى الذين قضوا في موجات الهجرة الأخيرة في مياه البحر المتوسط، وبحر إيجه.
بالعودة إلى المعرض الحالي للفنان “تخلي”، نتبن بوضوح تعدداً في الوسائط الفنية التي يستعملها الفنان في تحقيق مشروعه، وحين سؤاله عن تعدد الوسائط الفنية، أجاب: ”لا رغبة لي في التخصص كمصور فوتوغراف أو رسام لوحة أو فنان تجهيز، لأن هذا يتناقض مع التجريب. أرغب باستعمال كافة هذه الوسائط لتحقيق الفكرة التي تراودني. لا مشكلة في تعدد الوسائط والأشكال الفنية لصالح التعبير عن الفكرة الفنية“.
في معرض “تخلي” استلهم الفنان خياطة همومه الذاتية، الأفكار الشخصية التي تؤرقه، فظهرت كأعمال فنية تعالج موضوعات الحال العام في سورية ولبنان. فها هي جدلية الإسمنت والطبيعة تتكرر مؤخراً في عدد من الأعمال الفنية التي تتناول بيروت كموضوعة مثل مسرحية evolve للبنانية يارا بستاني، وفيلم ”طعم الإسمنت“ عن بيروت لزياد كلثوم، والآن معرض نجد الموضوعة في معرض ”تخلي“ لمحمد خياطة.
كذلك فإن موضوعة “الحرب” بلا شك تحلينا إلى الحرب الدائرة في سورية منذ سبعة سنوات، أما موضوعة “الموت” فهي أيضاً تنطلق من القلق الشخصي لتلامس الهم العام، فاللجوء الذي يعيشه الفنان في لبنان أثار قلقه عن مكان دفنه ومقبرته في حال موته، هذا سؤال مطروح في ذهن كل لاجئ في العالم.
لا يقدم معرض ”تخلي“ الموضوعات التي يعالجها بأحكام قيمة، فالحرب والموت في أعمال المعرض لا يُقترحان على المتلقي من منظور سلبي أو إيجابي، بل فقط كاقتراح بصري فني للتأمل تاركاً للمتلقي تأويل مشاعره حياله، ومستثيراً أفكاره حيال البيئة والهجرة والحرب والموت.