مجرّد تمنّ. يومض عند النهايات. أن تلقى الذكريات جانباً ولا تعاود هوايتها المعتادة بمطاردة الفكر في محاولات عديدة لإخباره بأن ما فات لم يمت وبأن الورقة لن تعود عذراء بل هي ملطّخة بخط الأحداث الأسود وبأحمرٍ متوهجٍ من الانفعالات. كم كان ليكون مريحاً.
– مشهد واحد: طفلة لم يتجاوز عمرها الثلاث سنوات، تأخذ بيده ليُريها غروب الشمس. يعجبها المنظر الآسر، يثير فيها الحماسة للطلب منه بإعادة اللقطة واسترجاع الشمس إلى الأعلى لتغربَ من جديد. تقول له بتلك الثقة التلقائية التي يمتاز بها الصغار: “بعد، بعد”. فهو بالنسبة لها كائن ذو قدرات خارقة. باستطاعته ببساطة التحكّم بمجريات الأحداث دون جهدٍ منه، كأن تكفيه مثلاً حركة الكبس على زرّ الترجيع السحري ليحقّق لها ما تتمنّاه. هكذا يرى الأطفال آباءهم بعينٍ تملؤها الدهشة. ايمانٌ مطلق. فيتعلّقون بهم أكثر فأكثر. يصبح التعلّق فعل حياة من الصعب عليهم العيش خارج نطاقها.
كيف يعيش الطفل دون أهل؟
كيف يعيش لاحقاً إنسان بالغ دون الآخر، هذا الآخر الذي يربطه به شعور محدّد بالعاطفة وهو يمثّل له شفافية العالم الموجودون فيه؟
سيحوّل هذا الآخر نفسه أو يتحوّل في ذهن من يحبّه، في عملية تفاعلية غالباً ما يشترك فيها الطرفان، إلى كرة كريستال ساحرة وبرّاقة، لتختفي، عبر النظر من خلالها، تعقيدات العالم وإشكالياته ويحقّق المحبّ إنجازاً أرقّه وسيؤرقه على الأرجح بعد ذلك طويلاً، تمييز أساس النفس البشرية وبساطتها. من هذه الزاوية، تصبح رؤية الحياة بشفافيةٍ متاحة.
التجارب العاطفية هي الوحيدة ربما التي توهم الإنسان بالعودة إلى المراحل الباكرة من حياته. إلى مرحلة القدرات الفائقة والإحساس بفيضٍ من قوةٍ وثقةٍ بالنفس وبالآخر وبالحياة بمجملها. يقول الحبيب للمحبّ اتخذني مرآة لك، لأصبح عند كل لقاء، عند كل احتكاك، عند أيّ تصادم، صفحة ماء نقية تنعكس ذاتك من خلالي عبر تساوي زاوية السقوط من عندك بزاوية الانعكاس من عندي. حينها ستتجلّى أمامك خلاصة ذاتك وخلاصة الوجود.
يطمئنه كمن يربت بلطف على وجنة الثاني بأن الوقت هو تماماً للحصول على جواب لكل التساؤلات حتى المستعصية منها. هل هذا ما يسمونه بالاستثمار العاطفي؟ عندما يقفل الوجود بما فيه على الحبيبين؟ وتصبح أشياء العالم الملقاة على جوانبه أشياءهما، يصدرون صكّ ملكية فيها دون الاحتكام لأيّ سلطة كانت. آمران ناهيان. يفتحان أذرعتهما المتناهية الطول لاحتواء كل ما يمكن أن يشمله مجال اهتماماتهما ويشكّلان بذلك دائرة محكمة على عزلتهما مع العالم المحيط. ويصير الخوف، كل الخوف، من إمكانية حدوث تلك اللحظة، ينكسر فيها الإيقاع الدائري لحركتهما ويتركان للوقوع المؤلم من علوّ الصفوة تلك. ليعود حينها الوجود إلى استقامته في خط يسير من البداية إلى النهاية.
متصلان منفصلان. متصلان ببعضهما البعض وبالعالم المحيط بهما. منفصلان عن الكون. متصلان أم منفصلان؟
للمفكر جورج باتاي رأي في الجزم في حركة الانفصال-الاتصال تلك، في كتابه L’érotisme والعودة بها إلى البداية. والبداية، بحسب ما جاء في بحثه تشهد على لحظات عبور مستمرّ من المتواصل إلى المنفصل وبالعكس. البشر، كائنات منفصلة، أناس ستموت منعزلة في هذه المغامرة اللامفهومة التي هي الوجود لكنها تحنّ على الدوام إلى حالة الانصهار المفقود المتمثّل بلحظة اتصال كائنَين منفصِلَين، توصلا في انصهارهما إلى نقطة انحلال هُدِمت خلالها بنية الشريك المقفلة فأتى حينذاك وافد جديد إلى الحياة.
– المشهد صفر: يأتي الإنسان إلى العالم غير مكتمل الوظائف البيولوجية وبالتالي غير مؤهل بالكامل للحياة دون الحصول على الرعاية. تأخر ظهور الأسنان وتأخر المشي، تأخر متلازم للعديد من الأجهزة والوظائف، حتّم عند الطفل عجز يطول إلى ما بعد عمر السنتين. هذا الواقع يعطي للتطوّر الجسدي أي غير النفسي خاصيّته الاستثنائية للإنسان مقابل الكائنات الأخرى غير البشرية، خاصيّة متمثلة بطول فترة الطفولة وتأخر سن البلوغ عنده مما أتاح لعالم الأحياء الهولندي لويس بولك أن يبلوِر نظريته القائلة بأن الإنسان حيوان ذو نشأة سابقة لأوانها. تكتسب نظرية بولك أهمية تخطّت البعد الفيزيولوجي إلى البعد النفسي عند اعتمادها من قبل المحلّل النفسي الفرنسي لاكان كمرتكز لأفكاره عن التطور النفسي للفرد.
*المشهد الأخير: التعلّق، فعلٌ ومفعول به. يطلب الإنسان من الغير تبديد القلق الوجودي البنيوي الذي يسكنه، حاجته له متواصلة وحيوية، هي حاجة للاهتمام والرعاية اللذين عرفهما لفترات غير وجيزة في الصغر واللذين لولاهما لما كان وجوده في هذا الحاضر ممكناً. تعلق بالآخر يولّد ارتباطاً به ويبقيه على النحو الذي ابتدأ به حياته، مفعولاً به.