عندما سقطت أليس في بئرٍ سحيق محاولةً اللحاق بالأرنب، لم تكن تدري أنها في طريقها إلى بلاد العجائب، وأن البئر الآخذ في عمقه سيكون مسلياً لها بألوان حفافه الممتلئة كتباً. نزلت أليس على مهلٍ يخالفُ نظرية نيوتن عن الجاذبية. من قالَ لكَ أن هناك مكاناً للنظريات العلمية في الحكايات وقصص الخيال؟ فأنا في اللحظة التي أفلتّ يدك، تحولّتُ بومضةِ فكرةٍ إلى أليس التي تهوي تهوي ولا تقع.
…
أتكوّر على ذاتي ثم أفردها رقيقةً برقةِ ورقة حرير. لأحطّ هناك، عليك كجنيّة بيتربان، في هذا الانحناء المستقيم الآيل من نقطة بداية العنق إلى نهايته. أحطّ هناك كفعل مقاومة. كمحاولة تحدّ تأتي على شكل توهمّ يائس. جنيّة مختبئة فيك إلى ما شاءت من الوقت.
…
أقرأ رواية من نهايتها. أعيشها بالمقلوب. لأنني ببساطة أخاف النهايات. رعبٌ ملطفٌ بكلمة الخوف تلك، يدفع بي عند كل قصة مرشحة للاستمرار إلى تكرار الآلية نفسها التي تقيني ألم النهاية المتخيّل مسبقاً. كمِثل الضغط بإصرار على خيط القصة حتى ينقطع. حينها أرتاح إلى الفرضية التي تقول بأنني أنتمي إلى أولئك الذين لا يملكون قدرة على السعادة. تلك هي منطقة الأمان لديّ، أركن إليها باطمئنان مزعج وسلبيّ. والخسارات تتوالى.
…
تعبرُ من أمامي، فأتذكر أن الحياة عادت إلى خانة المتاح. ما زالت احتمالاً.
وأن بعداً آخراً أضيف لي.
…
كنت في منامي وكان المطرُ أيضاً. في وسط الصورة أنت، هكذا مكشوفٌ على السماء وعلى عينيّ تراك. كل ما في المشهد جامدٌ لا يتحرّك، أنت، ضحكتك، الطريق الممتدّة إلى أقصى ما باستطاعتي الرؤية، كلّه ثابت إلا المياه المنهمرة تنزل على جسدك خيوطاً.
وانت مبتلٌ وباسمٌ وجميلٌ كلحظة صفاء. تحبّ المطر حين ينهمر عليك تقول، لا تفتعل الهروب منه، على العكسِ من ذلك تطلبه. كأنما تحسّ بأن السماء تقبّلك عندما تلمسك بمياه شتائها.
بدوري أسأل السماء، متى سيحين وقتي وتقبّلينني؟
…
يمتلك الصغار هذا الشيء الخاص، الحميميّ الذي يلازمهم كيفما تحرّكوا. من الصعب عليهم الانفصال عنه لا ليلاً ولا نهاراً. غطاء، قطعة قماش، دمية ملوّنة أو دبدوب لطيف، يجرّونه وراءهم، متحديّاً الأوساخ والروائح، ومكتسباً تدريجياً بقعاً لا يُعرف مصدرها. فيزيد تعلّقهم به وحاجتهم إليه مع تغيّر لونه وبهتانه. ولا يعود بمرور الوقت يشبه بشيء ما كان عليه في البداية. أما أنا، فلا أظن أني احتجت إلى مثل هذا الشيء اللطيف. كفتني نفسي. أجرّها ورائي وأمرّغها في التراب، ولا أزال.
…
في الصباح التالي، أفاقت على مثل قرصةٍ خفيفةٍ يضجّ بها القلب كلّما منيَ بإحدى خساراته. عرفته، هو المنبّه، آتياً لينبئها، بعد مرةٍ بألم الغياب.
…
رآها تنسحب من حياته. رفض عقله الاعتراف باستحقاق الغياب. فعاجله الجسم بـأعراضه، متطوعاً، مفرداً له مساحاته لترجمة معاناته النفسية. فاحترق الجسم. احتراق على جهة واحدة. اليسار على الأرجح. لا، متأكد هو، لا مجال للشك بعد الآن. إنه اليسار المشتعل بالألم. رمز القلب الذي يدمى والأم التي رحلت.