«فهرس الخوف» لرنا التونسي.. روح معطوبة

إيهاب محمود الحضري

صحفي مصري

تؤكد رنا على تفاقم الإحساس بالوحدة، عندما تعطب الروح، وتصبح غير قابلة للاستخدام: "روحي معطوبة/ حتى إن إنارة العالم بأكمله/ لا تكفي لتداري وحدتي/ داخل ذراعي رفوف صغيرة/ عليها أوراق كثيرة متأخرة/ وأطفال ينظرون من بعيد إلى البيت".

للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

24/12/2018

تصوير: اسماء الغول

إيهاب محمود الحضري

صحفي مصري

إيهاب محمود الحضري

في مجلة الهلال، وصحفي سابق بجريدة أخبار الأدب وكاتب بموقع المدن ومراسل لجريدة الحياة اللندنية

“ولدت في منتصف العام/ في وقت لا يهم أحد/ ولم تقع فيه أحداث كثيرة”. هكذا تفتتح الشاعرة المصرية رنا التونسي ديوانها الأحدث «فهرس الخوف» (دار العين للنشر – ٢٠١٨) لتتفق مع القارئ منذ البداية أنه أمام كتابة لا مبالية، وسطور شعرية لا تحتفي بغير الوحدة، إذ تتابع رنا: ” لكنني رأيت نفسي الآن/ في صورة خائفة أحضرها ابني/ وهو يسألني: أين كنتِ؟ ماذا كنت تفعلين/ أخبرته: كنت في طريقي إلى والدك/ لنلقاك”.

لن يفلت القارئ من الإحساس بالوحدة، والشعور بمحاصرتها له، وتضييق الخناق عليه، لن يفهم أيضًا إذا ما كانت رنا ترحب بهذه الوحدة أم تخافها، وتريد إبعادها عن طريقها، كل ما سيتأكد منه هو أن رنا كانت موفقة إلى حد بعيد حينما اختارت لديوانها هذا الاسم: “فهرس الخوف” وهو خوف لا محدود، خوف من ماذا؟ لن تعرف. خوف على ماذا؟ لن تعرف أيضًا، ولكنك ستعرف أن الخوف موجود، وقاسٍ، وصاخب، وأثره مدوٍ، وأن الوحدة ملازمة له، كلاهما مؤثر في حياة الآخر، يجتمعان ولا يفترقان: “لا يمكنني أن أمنع الخوف من العمل/ لكني أقابل كل شبح بالعناق”.

ثمة شعور بالخواء أيضًا، إحساس بالفراغ يتعاظم، وربما تبدو لي هذه الوحدة، وذلك الفراغ فراغ نفسي، أو غربة روحية، بمعنى أنها ليست غربة في المكان، وإنما هي غربة عن الروح، أن تشعر أنك تائه في نفسك، أو من نفسك، وأن ملايين البشر من حولك لا يساوون شيئًا، هم غير موجودين أصلًا: “كنت أنظر إليك/ أحدثك من فراغ يملأ روحي/ كمن يبحث عن مجرة، أو طعنة نافذة”، “أنا لا أتكلم معك/ أنا أكلم غيمة تمشي بالجوار”.

ثمة عبارة بديعة، يمكنني، بضمير مرتاح، أن أنظر إليها كتلخيص للديوان، حال وحالة: “جلست على شرفة الماضي/ أحضر حالي للجحيم”. رنا لا تعيش في اللحظة الحالية، لا تعترف بها، لا تغرق فيها، لا تسلم نفسها إليها، ولا تستسلم لها أيضًا، إن الشعور بالفراغ وعدم الجدوى أوصلها لأن تعيش في الماضي، تنظر منه على مستقبل، هو حاضر بالضرورة، لا يمثل لها سوى الجحيم، وهي حتى مع العودة للماضي، لم تحاول أن تلتقط منه ذكرى جميلة: يوم لا يُنسى، وردة تركها لها شاب يحبها في كتاب، أو قصيدة كتبها لها حبيب مجهول، أي ذكرى تصبرها على احتمال الحاضر الأليم، وربما المستقبل القاسي، غير أنها ترفض الأمر برمته، إن رنا ترفض الذكرى أصلًا، لا تريد أن تصطحبها من الماضي، لا تريد لها أن تبقى عالقة في ذاكرتها: “أريد أن أنتقل إلى بيت جديد/ تكون الذكريات فيه أصغر من أن تدخل إلى الباب/ نتركها للبائعين/ من يحملون بفرح/ القلوب الكسيرة”!

تؤكد رنا على تفاقم الإحساس بالوحدة، عندما تعطب الروح، وتصبح غير قابلة للاستخدام: “روحي معطوبة/ حتى إن إنارة العالم بأكمله/ لا تكفي لتداري وحدتي/ داخل ذراعي رفوف صغيرة/ عليها أوراق كثيرة متأخرة/ وأطفال ينظرون من بعيد إلى البيت”.

رنا تريد أن تتوه، تغيب، تذهب إلى هناك، حيث لا أحد، تريد أن يلتهمها النسيان، أن يعدها ضمن غنائمه، أن يضمها إلى كنفه، لتصبح غير موجودة. في الحقيقة، تريد أن تصبح موجودة وغير موجودة، تراقب نفسها من بعيد، تتفرج عليها، تختبر انفعالاتها، وردود أفعالها: “أركب الحافلة/ ألوح للنسيان/ أن ينتظرني”، وتقول أيضًا في تأكيد واضح على الرغبة في أن تصبح روحًا شبحية، موجودة وغير موجودة: “دائمًا ما أريد أن أرمي نفسي من الحافة/ ثم أعود لأجلس على السور/ أراقبها/ ما الذي تفعله عند الجيران/ تمشي قرب ضحكاتهم/ كأنها لم تفقد روحًا”!

تقول رنا أيضًا، في تأكيد على المعنى ذاته، حيث المراوحة بين الغياب والحضور، الوجود ونفيه، الحياة والعدم: “في مكان ما من العالم/ كنت أحلم أن يكون لدي قوارب ورقية زرقاء/ لا أريد قوارب حقيقية/ فقط قوارب ورقية زرقاء/ يمكنها أن توصلني إلى البيت”، وأيضًا: “أتكلم عن الطفولة/ وأنا ألمس الطعنات/ عن البيت/ وأنا أشبه الرحلة/ الموت يشبه شاطئًا جميلًا/ أود أن أسبح بقربه”.

تحاول رنا تشييد عالمها الخاص، الذي لا يشبه آخر، ولا وجود له إلا في رأسها فقط. هذا العالم الموحش، الذي يعج بالصحراء، ويعمل بجهد ودأب على تربية الوحدة، والاعتناء بها. تقول رنا: “يريدون أن أحدثهم عن الحديقة/ أن ألعب هناك/ أفضل أن أجمع أعواد الثقاب/ أرصها بجانب بعضها البعض/ وأترك قلبي يحترق”.. “أريد أن أحمل معي صورًا لعائلتي/ وأنا أغرق من سفينة إلى أخرى/ من السطح يبدو أن العالم كله/ يركض ويضحك في دمي/ وأن الحياة بلا أسرار”.. “هناك عالم أفضل يسكن في رأسي/ أريد أن آخذك إليه”.. “الخرائط لا تشير في أي اتجاه إلى الضائعين”.

ثمة ملاحظة على حالة الديوان بشكل عام، وهي العجز عن القيام بالأفعال، دائمًا ما تردد رنا الفعل “أريد” أو “يريدون”. يحدث هذا كثيرًا بامتداد صفحات الديوان، وطوال الوقت هناك رغبة مكبوتة، قدرة مبتورة، إنها تريد وتريد وتريد، تريد أن تقرأ في الظلام، تريد أن تشاهد نفسها بينما تموت، وأن تغيب تمامًا بين الوجود والعدم، ولكنها لا تفعل شيئًا، لا هي تحضر، ولا تقدر على الغياب، إنها عالقة هناك، بين بين، وهو يتماشى تمامًا مع فهرسها للخوف، هذا الخوف الذي لا تعرف من ماذا، أو على ماذا، ولكنه خوف في المطلق.

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع