يُعَدّ الناقد الأكاديمي المغربي الدكتور عبد الرحمن التمارة، أستاذ السرديات والنقد الأدبي الحديث، بجامعة مولاي إسماعيل، بالرشيدية، في طليعة النقاد في المشهد الأدبي المغربي، بعد أن راكم عدداً من البحوث والدراسات والكتب، والتي توّجها بكتابين نقديين هما: «الممكن المتخيّل: المرجعية السياسية في الرواية»، الصادر حديثاً عن “دار كنوز المعرفة للنشر” في عمّان؛ و«السرد والدلالة»، الصادر عن “دار فضاءات” الأردنية.
“رمان” أثارت في هذا الحوار مع صاحب «نقد النقد: بين التصور المنهجي والإنتاج النّصي» نقاط عدّة رئيسة يكثر فيها الحديث حول راهن النقد الأدبي الحديث وقضاياه وإشكالاته، وليوضح لنا المزيد من رؤيته وأفكاره فيما يتعلق بمشروعه النقدي العلمي الذي ينتصر للكشف والتنوير، وأثر إسهاماته في نقد السرد الحديث ونقد النقد الأدبي.
كتابك «الممكن المتخيّل: المرجعية السياسية في الرواية»، يطرح جملة من التساؤلات التي تتطلب الجواب عنها، ما هي أبرز هذه التساؤلات ومن قبل كيف تقدم هذا المنجز النقدي؟
هذا الكتاب هو جزء من مشروع نقدي علمي حكمته سياقات معرفية، وأطرته رهانات البحث في قضايا سردية تكشف العلاقة القائمة بين الإبداع الروائي، والمرجعية التي ينطلق منها المبدع، أو يبنيها في روايته. لهذا، فقد تحقّق هذا العمل جرّاء التفكير النقدي والعلمي في عدّة أسئلة؛ يبقى من أهمها: هل بإمكان النصّ الروائي أن “ينقل” الواقع السياسي التجريبي بـ”أمانة”، دون أن يلوثه الفعل التخييلي؟ ومنه، هل بإمكان الكاتب أن يكون تلميذاً نجيباً ويعيد تشكيل الواقع، كما هو، في نصه الروائي، دون زيادة أو نقصان؟ ألا يعني الحديث، في الزمن الراهن، عن الانعكاس ابتعاداً عن جوهر الفن السردي الروائي؟ لكن هل يمكن للروائي أن يبتعد عن العالم المرعب الذي يتجلى أمامه، بوصفه عالماً مليئاً بأحداث ووقائع وكائنات سياسية مثيرة؟ لكن قبل ذلك، لماذا ظهر الاهتمام بالسياسة في زمن العولمة الذي حاول الحسم مع السياسة والسياسي، وجعلهما في خدمة الاقتصاد؟ هل يمكن القول إنّ الاهتمام الروائي بالسياسة، في جوهره الفنّي والفكري، ظل مقترناً بقضية “التزام” المبدع المثقف بأمور السياسة؟ وهل السياسة البانية مرجعية الرواية في الألفية الثالثة مفارقة للعالم السياسي الذي شكّل إطاراً عاماً للرواية العربية في مرحلة الانكسارات والهزائم في القرن العشرين؟ لكن السؤال المثير هو، كيف يتمّ بناء المرجعية السياسية في الرواية بعيداً عن النزوع الإيديولوجي الأطروحي؟
إنّ الإجابة عن هذه الأسئلة، أو البعض منها، دفعَتْ للتفكير في صلب أطروحة كتاب «الممكن المتخيّل: المرجعية السياسية في الرواية». إنها أطروحة مؤسّسة على قناعة فكرية ونقدية مفادها: إنّ للعوالم المتخيّلة البانية لمرجعيات الرواية علاقات بالوجود الإنساني؛ سواء في كينونته الفردية الدالة، أم في صيرورته الحياتية، أم في نظام علاقاته المختلفة. بيدَ أنّ صِلةَ المرجعية النّصية بـ”الواقع الإنساني”، تبقى صلةُ ترميز وتمثّل، وليس صلةَ تحقّق ووجود فعليّ. لهذا، فالانشغال النقدي بقضية “المرجعية السياسية” البانية للرواية، بمتخيّلها وبمنطقها السردي وأدواته الجمالية، يُعَدّ انشغالاً بعالم الحياة السياسية للفرد والمجتمع، لكن باعتباره عالماً مبنياً بلغة تجعل مطابقته لما هو محقّق فعلياً أمراً صعب الإدراك. من هنا، فالصيغة المبسطة للأطروحة التي تدافع عنها الدراسة هي: السياسة التي تخضع دائماً للتحوّل، في مختلف مكوناتها وامتداداتها، تبني مرجعية الرواية، بما يوافق سياستها الإبداعية والسردية والتخييلية. من منطلق أنّ “المرجعية السياسية” مرجعية نصية يبنيها الروائي عبْر نسق فني وجمالي، فتتجلى المرجعية النّصية للرواية مماثلة للمرجع الخارجي وليست مطابقة له، انطلاقاً من الدلالات التي يحددها المتلقي لها، والأبعاد التي يقترحها عليها.
ماهي النصوص الروائية التي استندت عليها في دراستك هذه، وكيف وقع اختيارك عليها؟
لقد شكّلت الرواية العربية (إحدى عشرة رواية)، ورواية غربية واحدة هي «حفلة التيس» لماريو فارغاس يوسا (البيرو)، متن الدراسة الأساسي. وقد تأسس اختيارها على مبدأ “الإحاطة الجغرافية”، التي هدفها الاشتغال على روايات تحقّقُ انتماءها إلى جغرافيات عربية مختلفة.
من هنا، تمّ توزيع الروايات وفقَ المرجعية السياسية التي تشكّلها انطلاقاً من مفهوم الدائرة، بالنظر إلى رمزيتها الدالة على الدينامية التي تؤكد الترابط العلائقي بين عناصر السياسة (أفراد، ومؤسسات، وعلاقات..)، وِفْق نظام تفاعلي يَجعلُ كلّ عنصر سياسي منفتحاً، ضمنَ إطار دينامي فعّال وخلاّق، يستدعي عناصر سياسية أخرى. لهذا، اختصّت “دائرة التدبير السياسي” بالاشتغال على روايات «يد الوزير» لمحمد صوف (المغرب)، و«سعادته.. السيد الوزير» لحسين الواد (تونس)، و«يوم خذلتني الفراشات» لزياد أحمد محافظة (الأردن). واهتمت “دائرة المحيط السياسي” بروايات «الحارس» لعزت القمحاوي (مصر)، و«قط أبيض جميل يسير معي» ليوسف فاضل (المغرب)، و«رقصة في الهواء الطلق» لمرزاق بقطاش (الجزائر). واتصلت “دائرة الصراع السياسي” بروايات «الناجون» للزهرة رميج (المغرب)، و«حوافر مهشمة في هايدراهوداهوس» لسليم بركات (سوريا)، بالإضافة إلى رواية «حفلة التيس».
وارتبطت “دائرة الحِراك السياسي” بروايات «الحركة» لعبد الإله بلقزيز (المغرب)، و«فرسان الأحلام القتيلة» لإبراهيم الكوني (ليبيا)، و«الموت عمل شاق» لخالد خليفة (سوريا).
صدر لك في العام المنصرم، كتاب «السرد والدلالة»، الذي تبحث فيه إشكاليات إبستمولوجية ومنهجية ترتبط بتأويل النصّ الروائي، والتي ترى أنه “يمكن إرجاعها إلى إشكال مركزي يتعلّق بمعضلة التناهي: هل التأويل مطالَبٌ بالوقوف عند حدود معيّنة للدلالة؟ أم أنّ التأويل سيرورة لا متناهية؟ أسئلة حاولت رسم حدودها وإضاءة إشكالاتها بالبحث في المرجعيات اللسانية والأدبية والنظرية لمفاهيم الدلالة والنصّ والتأويل”. فما هي أبرز النتائج التي توصلت إليها في سياق هذا الطرح؟
أكيد أنّ كتاب «السرد والدلالة»، يبحث في بعض الإشكالات الإبستمولوجية والمنهجية التي ترتبط بتأويل النصّ الروائي، والتي يمكن تبئيرها في إشكال مركزي يتعلق بمعضلة التناهي. بناء على هذا ماذا نستنتج؟ الجواب كشف أنّ الفعل التأويلي ضروري لبناء دلالات الرواية، ليصير التأويل عملية إنتاجية وتشييدية، لأنّه يبني مدلولات الرواية الداخلية حيناً، ويفتح دوالها على مدلولات خارج نصيّة حيناً آخر. من هنا، تزداد أهمية تأويل النصّ الروائي وضرورته لمّا ننظر إلى الرواية من زاوية تشكل مرجعيتها، فنجدها مرجعية منفصلة عن العالم الكائن والمحقّق، ومتصلة بفعل تمثيلها بعالم الإمكان والاحتمال. وهذا يعني أنّ غاية الرواية، باعتبارها جنساً أدبياً، تشييد العوالم المضمرة من زاوية الإمكان (الممكن)، وليس بناء عوالم محقّقة من زاوية التحقُّق (الكائن). أمام هذا الهدف يصير التأويل ضرورياً؛ أولاً لبناء عالم “ما وراء المحقّق” كما توحي به العلامات النّصية، وثانياً لإبراز الكيفية الجمالية والفنية التي ابتعدت بموجبها المرجعية النّصية عن “العالم الكائن”. وبذلك يكون التأويل ضرورة للنصّ الروائي، لأنّه يُشيّد ما انفلت من النصّ وغاب عنه، ويمكّن من ملء فجواته وفراغاته.
كما أنّ التأويل قد يكون ضرورةً أساساً لكثير من النصوص الروائية، لأنّ بفضله يصير النصّ الروائي دالاً ومعبِّراً، ويغدو حاملاً لعالم مُمكِن ومُحتمل تحتملُ علاماته النّصية مدلولات متنوعة، وتُسعف في بناء المعاني المختلفة؛ بالنظر إلى سياق التلقّي وشروطه، وطبيعة المتلقي ونوعيته.
بأي معنى ترى أنّ “غياب الوعي بفضاء بلورة خطاب نقدي يُعَدّ في حدّ ذاته إساءة للنقد والإبداع”؟
تحمل القولة تصوّراً وانتقاداً في الآن نفسه. في تقديري الأساس هو الاشتغال ضمن رؤية إبستمولوجية تقيم الحدود بين الإبداع والنقد، وتقترب منهما ضمن سياق الفهم والتشييد، وليس وِفق التمييز والتفضيل. لهذا، فإنّ الوعي بالسياق الثقافي للخطاب النقدي والإنجاز الإبداعي يحقّق أهدافاً معرفية ويقيم الفواصل الإبستمولوجية؛ بين الإبداع الأدبي الذي تؤطره منطلقات فكرية وجمالية في بناء عوالمه، والنقد الأدبي الذي تحكمه قواعد منهجية وضوابط معرفية وجهاز مفاهيمي في تشييد خطابه. من هنا، فالأساس، في تقديري، هو إدراك النقد الأدبي، في سيرورته وصيرورته، باعتباره مجالاً معرفياً واسعاً منفتحاً في تحقّقه على تخصّصات نوعية: الخطاب النقدي النظري، الدراسة النقدية الأدبية، تاريخ النقد.
ما هي عدّة الناقد ووظيفته، ومن ثمّ كيف ترى العلاقة بينه وبين الكاتب/ة؟
يتأطّرُ النقد بالتّوجيهِ المعرفي للناقد، مما يفضي لبناء هويّة للنقد بناء على اشتراطات التفكير النقدي الفعّال. يَظهرُ النقدُ مؤطراً بوعي منهجي ومعرفي. لهذا، فإنّ وظيفة الناقد ذات أساس إبستمولوجي. إنها وظيفة تَكْمُنُ في بناءِ المعرفة المؤطرة بمبدأ الاختلاف، وإدراك للكائن وبحث عن الممكن، وِفْقَ رؤية استراتيجية غايتها تشييد المعرفة؛ لأجل تأسيس منهجية نوعية للتفكير النقدي، وبناء النقد الخلاّق الذي ينتصر للكشف والتّنوير. بهذا المعنى، فإنّ التفكير النقدي يقودُ لكشفِ موقع الذات الناقدة، وبناء “صورة نوعية” لها. لذا، فالحديث عن النقد تستدعي التفكير في الناقد ووظيفته. إنها الوظيفة التي تتحدّد ضمن سياق الكشف؛ بما هو قراءة تأويلية، ودراسة إبستمولوجية تُبيّن أنّ النقد تؤطرهُ وظيفة ثقافية تتجاوز البعد التقني للتحليل، فيصير الناقد مطالباً بتجاوز المستويات الظاهرة للخطاب الذي يشتغل عليه، إلى البحث، عبر القراءة التأويلية المنتجة والتحليل الفعّال، عن المخفي والمسكوت عنه في ثنايا الخطاب. لهذا، فإن وظيفة الناقد تفضي لترسيخ أفق إبستمولوجي مزدوج للنقد؛ حيث وجب خضوعه، أوّلاً، لـ”مبدأ الملاءمة”، وخضوعه، ثانياً، لـ”مبدأ المغايرة”، الذي يجعل الفكر النقدي قائماً على تجاوز المألوف. وهذا يبرز قدرة الناقد على ربط الفعل الإبداعي بعوالم ثقافية ورمزية واجتماعية مختلفة، فيصيرُ العمل الإبداعي ممتلكاً لصلة متينة بالمرجع الثقافي في امتداداته المختلفة.
يمكننا القول إنّنا نعيش منذ سنوات “في زمن الرواية”، فما هو تقييمكم للمنجز الروائي المغربي في العقد الأخير؟
الشق الأول من السؤال يستدعي التحقّق فعلياً، لأنّه قد يكون زمناً مشحوناً بعاطفة غير مبررة تبيّن أنّ ثمّة إبداعات أخرى لها حضور فعلي في المشهد الثقافي، ولكن سياق التداول دفع لبلورة حكم نقدي ينتصر للرواية.
أما الشق الثاني من السؤال فأقول عنه باختصار شديد إنّ المنجز الروائي المغربي، في العقد الأخير، عرف تراكما نوعياً، وتميّزاً ملحوظاً في تشكيل عوالم الرواية بما تقتضيه اشتراطاتها الجمالية والفنية، بغض النظر عن القيمة الفنية والفكرية لبعض الأعمال الروائية.
سؤالي الأخير عن مشروعك النقدي المُقبل، ما الذي يشغلك حالياً؟
إنّ المشروع النقدي المُقبل مرتبط بأعمال نقدية لم تكتمل، أرجو أن أوفّق في إنجازها. وهي أعمال نقدية لها علاقة وطيدة بمشروعي النقدي المنصب على نقد السرد الحديث ونقد النقد الأدبي؛ منها عمل نقدي حول «جمالية بناء القصة القصيرة»، وعمل نقدي ثانٍ حول «تأويل الرواية»، وعمل نقدي ثالث حول «نقد النقد الأدبي: الدينامية والإنتاجية والفاعلية».
عبد الرحمن التمارة، ناقد وأستاذ “السرديات والنقد الأدبي الحديث”، بجامعة مولاي إسماعيل، الكلية المتعددة التخصصات، بالرشيدية، وباحث منشغل بالنقد الأدبي الحديث؛ من نقد السرد القصصي والروائي إلى نقد النقد الأدبي، أغنى حقل الدراسات النقدية بالعديد من المؤلفات (7 كتب نقدية)، والكثير من الأبحاث الرصينة والنوعية. إضافة إلى مساهمته في عدّة كتب جماعية. وهو عضو اتحاد كُتّاب المغرب.