تعرض الروائية السورية عبير إسبر في روايتها “سقوط حُرّ” الصادرة حديثاً عن دار “نوفل/ هاشيت أنطوان” ببيروت، شهادة سردية خاصة عن الحدث السوري، حال العديد من الإصدارات السورية، إذ ما يزال حشد الكتاب السوريين يلهثون وراء حدث مزّق وعيهم، ورماهم خلفه.
تشيّد إسبر روايتها على نسيج متهتّك، سماته من سمات الواقع السوري، بين ثورة أو حرب، بين اغتراب طوعي أو تهجير قسري، تلتقط الكاتبة تلك اللحظة السورية عبر “الجريمة” وهو حدث يجيء من صلب الحكاية السورية الراهنة. تعيد الكاتبة تشكيل الحكاية ترميماً لحياة عابثة، تبدأ الرواية بقتل ياسمينا لوالدها، تُدخِل الكاتبة بطلتها في دائرة (الجريمة والعقاب). إن كان بطل دوستويفسكي قد قتل بدافع الحاجة للمال، فإنّ بطلة عبير إسبر، مع فارق المعالجة بطبيعة الحال، قد قتلت كي تنال حريتها، الأمر الذي يشي سياق الحكاية بعكسهِ، إذ ما إن تسحب ياسمينا يدها، وتترك والدها الدكتور خليل داغر يسقط عن الدرجات ويفارق الحياة. حتى تبدأ بمقابلة لحظة الجريمة، بلحظات حب جمعتها إلى والدها بعدما تخلت عنهم والدتها مارلا. لماذا يقتل امرئ أحداً أحبه سوى ليتحرر منهُ!
يدفع الطنين في شوارع دمشق ياسمينا إلى ارتكاب الجريمة، لتسير الرواية بعد ذلك، إما تقدماً حتى وصولها إلى كندا، قبل أن تعود إلى ساحة جريمتها، أو تداعياً منذ مجيء خليل إلى دمشق وحبه لمارلا التي هجرته، حيث غادرت إلى باريس، تزوجت وأنجبت مجدداً، وعادت كي تموت في الشام.
يجمع رباط الموت الخيوط السردية كافةً. فالسقوط الحر الذي شهده خليل عن الدرجات، يبني مقابلاً لهُ، سقوطاً حراً لابنتهِ بين بلدان عدة، تخرج من دمشق إلى بيروت ثمّ تغادرها إلى دبي، تستقر لسنوات في كندا. تستعرض الكاتبة تصورها حيال هذه البلدان، ما اختبرته بطلتها، فشل عملها في الإنتاج التلفزيوني، وفشلها في بناء علاقات جديدة مع الأماكن والبشر مختلفة عن تلك العلاقات التي لطالما ملأت حياتها وهربت منها، وقد أورثتها شعوراً مريراً بأنّها تغدر بمن تألفه.
تذكر ياسمينا كيف وشت بحبيبها أسامة عام 2000 بأنّه لا يحب السيد الرئيس، المتوفى تواً، وقد خرجت معه لإعداد فيلم وثائقي عن التماثيل في ساحات دمشق قبل أن يمسك بهما الأمن السوري وهما يصوران العلم الأمريكي عند السفارة الأمريكية. تعود إليها هذه الذكرى بعد سنوات طويلة في بدايات عام 2011 حيث ترغب مجدداً في أن تكون جزءاً من الشارع.
تعيد التواصل مع أسامة الذي وصفته بأنّه “أمضى وقته محاطاً بعشيرة رعاع”. تساعده في مسألة معونات لنازحين من محيط العاصمة. يلجأ إليها بعد انهيار منزله، يسكن معها في منزل تستأجره في الطلياني، لأنّ أقارب لها من جهة خليل داغر استولوا على منزلها في حي الزيتون، حيث مقبرة العائلة. مجدداً تغدر ياسمينا بأسامة، تغادر دمشق من دون أن تخبره، يحتضنها بعد انفجار الطلياني، وتغادر فيما يُساق هو إلى الخدمة العسكرية بعد فرار شاق وخطير.
تبني الكاتبة مصائر أبطالها بما يساهم في رسم مشهد متوازن للانهيار، انهيار البلد الذي حمل معه انهيار ناسه. في كندا يحاول نبيل إقناعها بجمال كندا وبضرورة العيش والتأقلم قبل أن يحزّ شرايينه. لتعود ياسمينا إلى دمشق من أجل التآلف مع موتها الخاص، إذ منذ البداية قد نشأت على هيئة “اختبار حياة لشابين أحمقين”. رُبّيت كي تكون حرة، الأمر الذي جعلها تكره الثورة التي جاءت بالحرية. إلا أنّ كرهها الآني لتلك الحرية يجيء ضمن انكشاف الوعي الذي تحدثه الثورة، أحبت ياسمينا الفوضى، أرادت بإصرار “قاتلاً مأجوراً” خرب عقول وأجساد من تقابلهم، إنّها تحب الرضوض التي تتركها في قلوبهم وذاكرتهم. إلا أنّ هذا العبث بحياة الآخرين، كان نتيجة نشأتها من والدين مرفهين عابثين.
على الرغم من هذه المعطيات، لا تجعل الكاتبة من روايتها ميداناً لعلم النفس. وإنّما تبني الشخوص وتصرفاتهم كأنّما يريدون ردّ الاعتبار لحيوات مهدورة في بلدان قاسية. من بين الشخصيات التي وضعتها الكاتبة كي تسند حياة ياسمينا تهتم بشخصية الأب، القتيل، وبالمثل “العاشق”. إذ تاه عن شؤون كثيرة ما إن حضرت زوجته مارلا إلى حياته، وقد سكنت ذاكرته خلال سنوات هجرانها له. تتخذ إسبر من طبيب التجميل الشهير في دمشق انعكاساً لتغير حال المدينة بين سنوات الحصار الطويلة في الثمانينات وسنوات الفساد الكبير في التسعينات. لترتدّ الأعمار بعد أربعين عاماً، على حصار مشابه وسلوك جمع الرئيسين الأب والإبن.
تأخذ شهادة عبير إسبر التي بدأت وانتهت في دمشق، شكلَ نشيد للحسرات، عرفت بطلتها ياسمينا خسارة الأحبة والبيوت، حتى صارت تنادي تلك الخسارة ما إن تلمح طمأنينة ما. وبينما تنادي للخسارة بأسماء أولئك الذين عرفتهم وأحبتهم، ترمي الكاتبة إليها فكرة ملتبسة تنفي قصدية القتل عنها، لربما كان خليل العاشق هو من أراد الموت. لتتضح الرواية في مجال ملتبس بعد أن أوصلت القارئ إلى يقين القتل، تجعله ينوس تحت وطأة الاحتمال.