مرزوق الحلبي شاعر وكاتب فلسطيني ذو ثقافة موسوعية، ولد في دالية الكرمل العام 1959، ويعيش فيها. يعمل متنقلاً بين حيفا والناصرة والقدس المحتلة. يعمل حالياً على رواية، وعلى أطروحتيْن أكاديميتيْن في “مسألة اللغة ووظائفها السياسية ـ الاجتماعية” و”التوتّر بين الدولة القومية والعولمة”. كان لنا معه هذا الحوار حول مؤلّفه الشعري «في مديح الوقت»، وعن مهمة الشعر وأدواره في الزمن الفلسطيني الجديد، زمن “المقاومة الناعمة”..
ما الذي جاء بك إلى أرض الكتابة؟ ومَن هُم الشعراء الذين كانوا مصدر إلهامك في مرحلة البدايات؟
في يفاعتي حفظت نزار قبّاني غيباً وتساجلت بشعره مع زملائي في المدرسة. وأذكر أنني حاولتُ وإياهم أن أقلّده وكان معلّم اللغة العربية ناقدنا الأول. وهو الذي رافقني خمس سنوات كاملة سلّمني فيها أسرار اللغة وقواعدها وأمرها وقال أنت حرّ. هذا الأستاذ هو بروفيسور سليمان جبران الذي أحمل أمانته بإخلاص وأحفظ وصاياه وأعتمد توجيهاته القائمة على فهم اللغة كأنها كيان حي أو مياه جارية.
كان يقرأ ما نكتب فيبتسم أو يحكي كلمة أو اثنتين. نفهم أنّ علينا متابعة القراءة كي نقترب من ضالتنا ـ الشعر. أشار علينا أن نهتمّ بالشعر العراقي فقرأنا البيّاتي والسيّاب. وكم كانت فرحتي كبيرة عندما فُزت بمسابقة للمعلومات العامة فحصلت على هدية عبارة عن مجموعة “أباريق مهشّمة” للبيّاتي. ومنهما عرفنا نازك الملائكة ومن بعدها سعدي يوسف.
في مرحلة الشباب الأولى، وكنتُ مُلاحَقاً لرفضي الخدمة العسكرية وفي السجن العسكري، تعرّفت بشكل معمّق على سميح القاسم وتوقّفت طويلاً عند محمود درويش وأحببته من أول قراءة. وعبرهما على لوركا وبابلو نيرودا وريتسوس ورامبو وإيليوت. وعندما خرجت من السجن اقتنيت كل ديوان شعر وقعت عليه عيناي ولا تزال مزدحمة على رفوف مكتبتي. أما إجادتي للغة العبرية ففتحت لي الباب لشعراء يهود أمثال نتان زاخ وألترمان ورابكوبيتش ولؤور.
كان والدي رحمه الله يزورني كل يوم جمعة في السجن وأهم ما نفعله أن أسلّمه عشرين كتاباً قرأتها لأتسلّم منه عشرين كتاباً للقراءة. وكنتُ التهمت كل كتب مكتبة السجن في كل حقل وموضوع. لقد اكتسبت كثيراً في هذه السنوات. ومع هذا ظلّت الرهبة تسكنني وواصلت التعلّم كي أصير يوماً ما أريد.
نقف وإياك عند كتابك الشعري الأول «في مديح الوقت»، حدثنا عنه، وفي أي أجواء كتبته؟
المؤلّف ثمرة تجارب شعرية متراكمة في العقود الثلاثة الأخيرة. انتقيت منها ما اعتبرته يمثّل تجربتي. لا أعرف لماذا اعتبرتُ قصيدتي “بوابات فاس” (ص 119 في المؤلّف) هي الخط الفاصل بين التجريب الشعري وبين الشعر ناضجاً. المؤلّف تطوّر عن فكرة “مجموعة” كسائر خلق الله لكني عدّلتها وحوّلتها إلى مشروع شعري ألخّص فيه تجربتي إلى الآن. أعرض فيها نتاجي وتوجهاتي وأفكاري ومواقفي من الأسئلة الوجودية. ومن هنا ستجد المؤلّف في أبواب.
لكل باب عنوانه الدالّ على وِجهة النصوص. ولأني صاحب دار نشر “جدل” التي أصدرت المؤلّف فرأيتني مشغولاً بالشكل والإخراج، من “الفونت” ولوحة الغلاف حتى صيغة الكلام في الصفحة. كنتُ شريكاً في التصميم، أيضاً. أنا في هذه التجربة لم أكن شاعراً فحسب. المؤلّف في صيغته النهائية مقولة تتعدّى الشعر إلى الجمال والدهشة وردّ الاعتبار للشعر من خلال استحضاره أنيقاً وباهياً.
«في مديح الوقت»، لماذا اخترت هذا العنوان، وماهي دلالاته؟
العنوان هو لقصيدة في المؤلّف كتبتها مع تجاوزي سن الخمسين. وهي وقوف متأمّل عند الوقت كهاجس وجودي. الوقتُ يُنضجنا ويجعلنا أكثر تصويباً وقُرباً من الحقيقة إذا ما تأمّلنا ما يحمله لنا من تجارب وإذا استثمرناه في المعرفة وتحصيلها. أنا في سلام مع الوقت لأني بلغت درجة معقولة من السلام مع نفسي لِجِهة خياراتي وبلوغي أطراف الحقائق والإمساك بها أحياناً حدّ الاكتواء.
من ناحية ثانية، لقد تعلّمت منذ كنتُ في السجن أمارس اليوغا والـتأمّل أنني أهمّ من الوقت وأنا مُسمّيه والذي يُحدّد مضامينه في كل لحظة مُعطاة. السجن وقت لاختبار نفسك واختباره ـ والعلاقة مع الوقت هي لُعبة حبل أشده وأرخيه ـ أمدحه لأنني أعتقد بسيطرتي عليه. والزمان في وجداني أهمّ من الأمكنة. فالسيّد هو مَن أمسك بزمام الوقت. واحدنا يستطيع أن يكون في الكثير الكثير من الأمكنة لكنه لا يستطيع أن يكون إلا في زمن واحد.
كيف تختار عناوين قصائدك؟ وهل يُشكّلُ العنوان مدخلاً للقصيدة عندك؟
لا أكشف سرّا إذا قلت إنني أكتب القصيدة ومن ثمّ أبحث لها عن عنوان. وقد أغيّر العنوان أكثر من مرة حتى أرسو على برّ. العنوان عتبة النصّ وعليّ أن أبذل جهداً كي ينسجم مع مفهومي للشعر أو مع الشعري في النصّ. أقدم على اختيار العنوان بعناية وشغف وأسعى لأن يكون عتبة لا تقلّ إدهاشاً عن عمارة النصّ ومضامينه.
كيف تفسر لنا سبب تأخرك في إصدار نتاجك الشعري في مؤلّف، فأنت تجاوزت الخمسين وهذا أول عمل منشور لك؟
لا زلت أذكر كلمات معلّمي الثاني، الراحل إميل حبيبي، وكنتُ تتلمذت على يده سبع سنوات في جريدة “الاتحاد” وهو يوصينا ألا ننشر كتاباً قبل الخمسين كي لا نندم، ولأننا في الخمسين نبلغ نضجاً يؤهّلنا لإنتاج ما اكتسبناه.
هذه الوصية ظلّت عالقة في رأسي تدور وتدور مُحذّرة. لكن في الواقع ذهبت في مسارات عديدة في موازاة الكتابة الشعرية. كتبت كتابات أكاديمية وصحفية وفلسفية جارية باللغات الثلاث، العربية والعبرية والإنجليزية وانخرطت في مهن وأعمال أخذت مني عقلي وجُلّ اهتمامي. لكن ما أخّرني هو ذاك الاعتقاد بأنه ليس لدي ما أضيفه وما أقدّمه مختلفاً أو مُغايراً عما هو موجود، أو ليس لدي ما يوازي شعر الذين أعتبرهم ذرى شعرية وأسير في هديهم. إلى أن وثقتُ بأنّ ما أكتبه يصلح ويستحقّ أن أضمّنه ضفتي كتاب. ربّما تأخّرت. وأسأل إذا ما كنتُ راضياً فأجيب بنعم قوية.
لماذا تكتب؟ ولمن؟ وهل تفكر في القارئ عندما تكتب؟ ثم هل لديك جمهور حقيقي ومنظور يتأثر ويؤثر بك؟
أنا قبل كلّ شيء، أكتب لنفسي كي أتحضّر وأصير أفضل. وقد لمست هذا في كتابتي الصحفية والفكرية والأكاديمية. الكتابة الفِكرية التأمّلية الصادقة ـ خلاف الشعبوية والسجالية ـ تقرّبك من “الحقائق” التي تكويك فتعمّدك عارفاً.
أكتب ضدّ القُبح. القُبح الذي يملأ الحياة والكون. أكتب في تفكيك السلطة ابتداءً من سلطة العادة والنصّ والموروث والإله والحاكم حتى آخر السلطات. مهمتي أن أتحرّر وأحرّر غيري من الامتثال الطوعي والانصياع الأعمى للسلطات. أفترض وجود جمهور ما ينتظر ما أكتب وهذا بناء على تجربة الكتابة الصحفية منذ بداية الثمانينيات من القرن الفائت عندما انخرطتُ شاباً متحمّساً في تحرير جريدة “الاتحاد” الصادرة في حيفا. ردود القرّاء وتعاملهم مع مقالاتي الأسبوعية ومواضيعها وأسلوبها أكّد لي أنّ لكل مقال “عفريت” ينتظره ليقرأ.
وفي الشعر كما في المقالة. يتأكّد هذا بشكل يومي من خلال صفحتي في “الفيسبوك”. هناك تستطيع أن تختبر نفسك يومياً. مع الوقت وجدت مجموعة لا بأس بها من المتابعات والمتابعين يعقّبون ويدلون بدلائهم. وينقدون ويتذوّقون. ويسرني أن أكتشف أنهم يزيدون ويعتادون على ما أقدّمه. أعرف أنّ هناك أناساً تنتظر مادتي الشعرية أو التأملية أو الأدبية أو غيرها. وهكذا تكتمل الدائرة ويحصل الحوار بيني وبين جمهوري.
ما هي علاقتك باللغة كما تتجلى في صنيعك الشعري؟
لُغتي، أمارس معها حرّيتي في الخلق والإبداع وإن كان هناك مَن يُريدها نهائية جامدة عند النصّ القرآني. أنا مع اللغة كما أنا مع نفسي أسعى إلى أن أكون حرّاً بقدر ما أستطيع. أقنع نفسي أنني الأفضل في تعاملي معها وفي الحرص على نموّها وحيويتها وانفتاحها. خُلقت إلى داخلها لكني أؤثّر فيها كما تأثّرت بها وبمنطقها وقواعدها ومضامين مُضمرة تحتويها. أحاول أن أقيم على مفرداتها شُرُفات وأفتح في معمارها فضاءات وواحات وجداول ماء. هي هذا العالم الذي أريده أفضل ألف مرة. أنا أتعب على لُغتي وأنتقي مفرداتي وأقيم زفافاً مُدهشاً بينها كي أصحّح ما انكسر في هذا الكون. أنا بحاجة إلى لُغة في ذروة بهائها لمقاومة القُبح الشديد، في السياسة والاجتماع والثقافة والكتابة. أنا بحاجة إلى لُغة قوية ومتينة لتصمد معي في امتحان المقاومة اليومي.
كيف يرى مرزوق الحلبي نفسه داخل التجربة الــ”الدرويشية”، إن جاز التعبير؟
عشية وصول درويش إلى أمسيته في حيفا في العام 2007 كتبتُ نصّاً عن مجموعاته الأخيرة. حاولتُ يومها الوقوف على ما تغيّر في درويش وما تحوّل في شعره وفكره وجوانيته. أحبّ محمود النصّ كثيراً فخيّرني ـ ولم أكن التقيته وجهاً لوجه من قبل ـ بين لقاء على فطور أو لقاء على غداء. التقينا وطالت القعدة وعدنا والتقينا على العشاء، أيضاً. ملخّص حديثه كان أنني من القلائل الذين فهموه والتقطوا إشاراته. طبيعي أن أشعر بفرح لهذا القول.
ما أريد قوله من هذه الحادثة أنني درست التجربة “الدرويشية” وأعتقدني قريباً جداً منها. لكني أحرص، أيضاً، على ألا أكون غيري كما يفعل البعض فيسيرون على طريق شاعر كمحمود جملة جملة وتيمة تيمة. أنا من هذه المدرسة لكن لي، في نظر نفسي على الأقلّ، شخصيتي الشعرية ولُغتي وفكرتي وتجربتي وصوتي.
أنت شغوف بالتصوير، كيف توظف هذا الشغف في أشعارك؟
لن أفاجئك إذا قلت إنني أرسم، أيضاً. كان لي بالشراكة مع صديق طفولة محترف فنّي لبضع سنوات. أرسم من حين لحين. هنا أيضاً، أنا في رهبة أمام الكشف والانكشاف فأبقي اللوحات لجدار بيتي أو مرسمي المتواضع. أومن أنه سيأتي يوم وقد يكون متأخّراً يُضاف فيه إلى جانب اسمي لقب الفنان التشكيلي أو المصوّر الفني.
عندما قرأت شعري أمام رسّامين جاء إليّ بعضهم ليقول كم هي لوحاتي جميلة ورهيبة كأنها مرسومة بالريشة. كثيراً ما أجدني أرسم بالكلمات، وإحدى ركائز الشعرية هو رسم الصور الشعرية المادية والحسّية والخيالية. في شعري اعتماد كبير على هذه التقنية لأنها تتماشى مع ثقافة الصورة ولاعتقادي بأنّ صورة واحدة تكفي القارئ الذكي، وفرضيتي هي إنّ القارئ ذكي كالشاعر إذا لم يكن متفوّقاً عليه. في قصيدتي “دليل الأمكنة” تجسيد لهذه التقنية، وكذلك في قصيدة “صور فورية من لُندن”.
برأيك هل من متطلبات أساسية يحتاجها الشاعر ليحتفظ بدهشة القارئ أطول وقت ممكن؟
عليه ألا يشتغل على الجمهور بل على نفسه، على موهبته وعلى تطوير قُدراته الشعرية ولُغته وأدواته. عليه أن يعرف ماذا في حقل الشعر في الثقافات الأخرى ـ المتيسّره له على الأقل. رأيت أناساً يغطون على ضعف الموهبة بالاستعراض الشعري كجزء من ثقافة الاستعراض والمرئيات. أنا لا أعارض المزج بين الفنون شرط ألا يكون في ذلك حيلة على المتلقّي.
أن يتجاوز الشاعر ذاته ونصوصه إلى ذُرى جديدة، هذا هو التحدي الأكبر. القصيدة بحاجة إلى صدق كأي كتابة إبداعية ـ الصدق يُبقي الشاعر حيوياً. ولا أقصد شاعر التسلية أو المزاج ذاك الذي يقضي العمر يكتب عن شَعر الحبيبة المنسدل كشلال أو الذي يعتقد أنّ بيتين من الغزل يُعيدان أيام عمر بن أبي ربيعة! إذا أتى الشعر من الفكرة المُشرقة، من مناهضة السلطة -أي سلطةـ من مقاربة الحقيقة، من الاستنارة، سيظلّ مثار اهتمام الجمهور. ضالتي في الكتابة الشعرية أن أكون مُستنيراً لا محابياً ومسايراً، حقيقياً لا مبتذلاً، ساعتها يسرّني أن أتّفق مع الجمهور لكن لا يضرّني أن أختلف معه.
هل تابع النقاد في الداخل الفلسطيني تجربتك الشعرية بشكل يرضيك؟ وهل لاقى «في مديح الوقت» الحفاوة المرجوة؟
وإن كنتُ لا أرى حركة نقدية أرى بعض النقاد، مُعظمهم يستعرضون ما يُكتب وقلّما ينقدوه. من ناحيتي، أعوّل أكثر على الكتابة الأكاديمية واهتمام المؤسسة الأكاديمية. وهذا حصل بشكل يُطري على مؤلّفي. كَتبَ عن المؤلّف أربعة باحثين أكاديميين. عُقدت حول المؤلّف ست ندوات حتى الآن. أنا على عتبة موجة أخرى من الأمسيات. هناك مَن يُتابع مسيرتي الشعرية عن كثب، أنجزت بعض الوظائف الجامعية عن شعري، بعض اللقاءات مع طلبة الأدب العربي في بعض الجامعات -هذا يحدث منذ صدور المؤلّف- لكني أنتظر تلك الدراسة الشاملة التي لا تتعامل مع مؤلّفي فقط بل مع كوني شاعراً هو امتداد للمثقف المستنير والمفكّر والناشط الثقافي والكاتب والصحفي.
كيف تنظر إلى شعر المقاومة الآن؟ وهل ما زال الشعر الفلسطيني شعراً مُقاوماً فعلاً؟
مفهوم المقاومة تغيّر ومعه مفهوم الشعر المقاوم. لقد أسّس لنا المقاومون الأوائل بالشعر والسياسة والنضالات واقعاً أفضل لا نحتاج فيه إلى تضحيات كالتي قدّموها. فهناك فارق ملموس بين واقعنا اليوم وواقع الحكم العسكري أو واقع ما بعد النكسة في حزيران/ يونيو 67.
المقاومة لدى الجيل الأول بعد النكبة تحوّلت بعض الشيء عند الجيل الثالث بعدها. الشرط السياسي تغيّر وهامش الحريات اتسع والملاحقات خفّت تماماً والاعتقالات كذلك، ليس لأن السلطة الإسرائيلية تغيّرت في جوهرها بل غيّرت من أدوات تحكّمها أو نقلت القوة الخشنة إلى مناطق فلسطين شرقي الخط الأخضر واعتمدت القوة الناعمة معنا. وعليه علينا أن نطوّر مقاومة ناعمة بما يتناسب مع أساليبها. التناقض الوجودي بيننا وبين سيادة اليهودي موجود وحاضر يومياً في حياتنا وله تجليات لا حصر لها. ومن هنا أشعر بالحاجة إلى الردّ بالشعر وغيره من فنون الكتابة. وأهم ردّ هي أن تقول حقيقتك كاملة وتقص روايتك حتى عندما تنتقل للكتابة بالعبرية أو عند حضورك بها في الجامعة أو الحلقة الأكاديمية.
الشعرُ بما فيه من حريّات يُمكنني من تعزيز الرواية التاريخية والسياسية بتوكيد الرفض أو بتكريس الامتناع أو بتأكيد الهوية والمعرفة بالتاريخ والانتماء. أشعر بأني ملزم أن آتي بشعر يتحدّى الآخر وقوته الناعمة بمضمونه وجماليته وإشراقه. الشعر وسيلتي للتحرّر من قبضة اليومي وطريقي إلى الاشتباك بأسئلة وجودية ومنها حضور الآخر وحلوله في مكاني وزماني. أصرّ أن أمسك بالزمن مقابل سيطرته هو على المكان. أفعل ذلك في كل ما أكتب وأشير إلى قصيدة في مؤلّفي بعنوان “كلام يُقال للغرباء” وهي تجسّد المقاومة بشكلها الجديد. ربما إنّ المقاومة الآن في أساسها هي على الجبهة الثقافيّة والفنية وعليّ أن أسهم بقسطي المتواضع فيها.
هل من خصوصيات ما في المشهديّة الثقافيّة في الداخل المحتل (مناطق 48)، خصوصيات متعلقة بالأسئلة الفردية/ الجماعية، والإنتاج؛ إنتاج الفعل لا ردة الفعل، في ظلّ دولة الاحتلال؟
لا يزال هناك خصوصية لكنها آخذة بالاضمحلال لجهة انفتاح الحدود على الأرض وفي الحيز الافتراضي. لدينا هنا رغبة قاتلة في التواصل مع فضائنا العربي ومراكز البث الثقافي فيه. هناك تواصل فعلي وعبر الشبكات وما تُتيحه من إمكانات ألغت الحدود وقلّصت المسافات وضغطت الوقت في شاشة.
مع هذا نظلّ هنا في اشتباك يومي مع الآخر الأمر الذي يولّد خصوصية للنتاج الثقافي الأدبي في مركزه معرفتنا بثقافته واشتباكنا بها لجهة الحوار أو الصدّ. لا زلنا نحمل بعض شعور بالذنب -غير مبرّر- تجاه أهلنا الذين هناك فنحمل عنهم الرواية ونرويها في الحيز العبري بتحدٍ فنصير ناطقين باسم الذين تمّ تشريدهم وحرمانهم من الوطن. ليس صُدفة أن تستهدفنا تشريعات البرلمان الإسرائيلي وتحاول أن تحرمنا من مكتسبات سياسية وحريات استثمرناها لبناء هويتنا الفلسطينية من جديد.
النتاج الثقافي حتى أواسط الثمانينيات من القرن الفائت تمحور حول الجماعة ومحاولتها إعادة تجميع أجزائها بعد النكبة. رأينا فيها تيمات تؤكّد على الجامع وعلى المشترك الموحِد. كتب الشاعر جماعته ولم يكتب نفسه. ورسم الرسام زيتونتنا ولم يرسم حبيبته ولا شوقه. أكّدنا على ضحويتنا كشعب. الكتابة بعد هذه المرحلة أخذت منحى آخر ولو بسبب النجاح في استعادة الهوية الجماعية وترسيخ روايتها، صار النتاج يأخذ مناحٍ فردانية. كأننا في الثقافة اتسع صدرنا لتعددية، للمبادرة الفردية، لأصوات تشكل في نهاية الأمر سمفونية واحدة. خصخصنا الوطني والانتماء وظهرت لذلك تعبيرات في الأدب والثقافة عموماً. صرنا في مَنعةٍ كي نسمح بالاختلافات بيننا في طريقة الكتابة والشعر وطريقة التفكير والعقيدة.
في المرحلة السابقة سعينا إلى الجمع والتأليف وتأكيد الوحدة وعندما نجحنا حررنا المبدعين وتركنا لهم الساحة كي يتأملوا أنفسهم ويُصبحوا ذواتاً مستقلّة فاعلة. طبعاً، هناك في موازاة هذا سيرورات أقلّ إشراقاً بين أهلنا كبعض تماهٍ مع رواية السلطة الإسرائيلية وتسليم ببعض مقولاتها، وهذا يحصل في كل جماعة تعيش ظروفاً مثلنا. أتوقّع أن يصير الفلسطينيون هنا في المدى المنظور قلب المسألة الفلسطينية الذي ستوجّه إليه السياسات الإسرائيلية، سيرورة بدأت وستُنتج خصوصيات لم تكن للإنتاج الثقافي وللشعر من قبل.
ماذا بعد «في مديح الوقت»؟
قيد التجميع مؤلّف شعري جديد في محوره الأسرة والحارة التي عشت فيها طفولتي وشبابي كلّه. لكني أزفّ لقارئي من خلال موقعكم هذا اشتغالي على رواية أطمح أن تكمّل رصد تحوّلات الفلسطيني الباقي من حيث انتهت رواية «المتشائل» رائعة الراحل الكبير إميل حبيبي.
على الصعيد الفكري لدي أطروحة أريد استكمالها تتصل بدراستي الأكاديمية وتتمحور على التحوّلات في الدولة القومية ومفهوم السيادة الوطنية في زمن العولمة، وأخرى تتصل باللغة ووظائفها السياسية الاجتماعية. في كل هذا سأظلّ شاعراً وفي الشعر سأظلّ كل هذا.