التطبيع في الخليج والخطاب الفلسطيني… مخاطر الرعونة المُتبادلة!

The Historical Light, 2018, acrylic on canvas, 130×200 cm، OSAMA SAID

خالد الحروب

كاتب وأكاديمي من فلسطين

بعيداً عن هشاشة هذا المنطق المُستخف بإسرائيل ومشروعها التوسعي الذي يخلط حدود الجغرافية مع حدود المصالح والاقتصاد والنفوذ، تتوقف هذه السطور عند الجانب "غير الرسمي"، أي شعوب ومجتمعات ونخب الخليج التي تحاول إسرائيل اختراقها.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

05/07/2019

تصوير: اسماء الغول

خالد الحروب

كاتب وأكاديمي من فلسطين

خالد الحروب

khaled.hroub@yahoo.com

عن ارتطام الشعبويات وخطاباتها تصدر كوارث يصعب متابعتها فضلاً عن لملمتها أو محاولة لجمها. واللحظة العربية المشرقية الراهنة تشهد فيضاناً من الشعبوية (والشعوبية أيضاً) يجرف في مجاريه ما تبقى من عقلانية ورصانة، إن في السياسة أو الثقافة أو الاقتصاد أو الفن. والخليج الرسمي وأنظمته ونخبه وخطاباته المُتوترة يحتل اليوم مساحة تزداد اتساعاً في قلب شعبوية تقودها معادلة “رص الصف مع إسرائيل” ضد الخطر الإيراني. يقول الخطاب الخليجي الرسمي السائد الآن إن إسرائيل لا تشكل خطراً على المنطقة كما إيران، وإن المصلحة السياسية تستوجب التحالف مع الأولى ضد الثانية.

بعيداً عن هشاشة هذا المنطق المُستخف بإسرائيل ومشروعها التوسعي الذي يخلط حدود الجغرافية مع حدود المصالح والاقتصاد والنفوذ، تتوقف هذه السطور عند الجانب “غير الرسمي”، أي شعوب ومجتمعات ونخب الخليج التي تحاول إسرائيل اختراقها. كما تتوقف عند طبيعة بعض ردود الفعل الفلسطينية إعلامياً وثقافيا وأحياناً نخبوياً، والمُتسمةِ بسرعة الاستفزاز والانفلات العاطفي والغريزي الذي يجرها إلى الشرك المُراد أن تقع فيه أساساً. 

يجب التفريق ابتداءً بوضوح وتكرار ووعي بين ما هو رسمي وما هو شعبي في ما يتعلق بالعلاقة والتطبيع مع الدولة العبرية، وهذا لا يعني أبداً التساهل مع الموقف الرسمي أو المرور عليه سراعاً. فالرسمية العربية وأنظمتها هي أس الإنحطاط السياسي والتبعية في بلداننا، إذ تتمأسد على شعوبها وتتأرنب أمام خصومها، وهي من يتحمل مسؤولية تدمير دولها واقتصاداتها، وكوارث الفساد والاستبداد وغياب الشرعية طيلة عقود طويلة. الشعوب في واد والأنظمة المتهالكة في كل شيء بما في ذلك لهاثها وراء إسرائيل في واد آخر، ويجب أن يحاول الجهد والخطاب المعادي للتطبيع إبقاء هذين الواديين منفصلين. لسنا في حاجة لشواهد قوية على ضرورة الفصل “الإيجابي” بين الرسمي والشعبي، وأمامنا معاهدات السلام الإسرائيلية الباردة مع مصر والأردن، وكذلك العلاقات السرية بين الدولة اليهودية وعدد من الحكومات العربية.

سواء في حالات المعاهدات العلنية أو العلاقات المتواطئة السرية، ظلت العلاقة التطبيعية مع إسرائيل محصورة في الدوائر الرسمية، وانسدت كل أوجه التطبيع الشعبي أمام المحاولات الإسرائيلية اليائسة والمتواصلة حتى اللحظة. لم تستطع إسرائيل اختراق الشعب المصري ولا الشعب الأردني ولا أي شعب عربي آخر لها علاقة علنية أو خفية مع نظامه، ذلك أن وجدان الشعوب العربية ظل نقياً وصارماً تجاه إسرائيل وصهيونيتها وعنصريتها. مع ذلك وفي الحالات كلها، أو معظمها على الأقل، كان ثمة طحالب وسخة تستنقع في الهوامش وتتزلف للأنظمة والحكومات وتتبنى خطاباً تطبيعياً يرتمي أمام الأقدام الإسرائيلية ويبرر سقوطه بعلو نبرة الصوت ووقاحته. أصوات المُستنقع هذه ظلت دوماً هي الاستثناء ولا تمثل الرأي العام في البلدان العربية كما في غيرها، وفي كل مكان يتمترس فيه الوجدان الإنساني بقيم العدالة ورفض الظلم. 

ردود الفعل الفلسطينية والعربية الغاضبة والعاطفية والغريزية على أصوات الاستنقاع الشاذة التي تتطحلب تحت أحذية الأنظمة الرسمية الخليجية وغيرها تعطي تلك الأصوات قيمة ومكانة لا تستحقها. في طول وعرض بلدان الخليج العربي يمكن القول بأن الأصوات التطبيعية عالية الصوت وذات التبجح الوقح لا تزيد عن العشرات، ولن تبلغ المئات في أقصى التقديرات. وهذا يعني أنها لا تمثل سوى صفر تافه مقارنة بملايين الناس الصادقين الرافضين لإسرائيل وعنصريتها وظلمها وعدوانيتها. والانجرار في الرد على الأصوات الشاذة بعنف لفظي وإطلاق تعميمات واتهامات تطال الشعوب تتجاوز أصحاب خطاب التطبيع وأنظمتها يخدم إسرائيل أولاً، والمطبعين ثانياً. وتحديداً لنتأمل تتابع خطوات الانجرار ووقوع كثيرين في فخاخ توتير والفيسبوك وإنستغرام وغيرها بما يسعر من خطابات الكراهية والرعونة المُتبادلة:

الخطوة الأولى هي قيام كاتب مغمور أو فرد لا يعبر إلا عن نفسه في هذا البلد الخليجي أو ذاك بكتابة منشور يشتم فيه الفلسطينيين ويتهمهم بكل التهم، وفي المقابل يتغنى بإسرائيل بما يكشف ضحالة معرفته في التاريخ والجغرافيا والدين وسوى ذلك، وينادي بالتطبيع معها. هذا المنشور الصادم ونظراً لطبيعته المُستفزة (المقصودة) ينتشر كنار الهشيم، ويُرسل من قبل آلاف الغاضبين والناقمين لآلاف الحسابات “للتدليل” على “تخلي العرب “عنا”. وخلال يوم أو يومين يحقق المنشور المذكور الذي لا يمثل إلا رأي صاحبه وضميره المعطوب قراءات بالملايين، وهو ما لم يكن يحلم به صاحبه أصلاً. بعد النشر العريض والمُذهل الذي يتحقق لهذه الضحالة تصدر ردود فعل عديدة تتسم غالباً بالعاطفة والغضب وشتم المنشور وصاحبه ودولته وشعبه، وهي ردود تحوم حول محور أساسي وهو أن “العرب تخلوا عنا”. الردود الغاضبة والتعميمية والتي تعبر عن رعونة بالغة في تناول المسألة وعدم التفريق بين فاعل وآخر توسع من دائرة “الشتم” لتشمل شعوباً عربية وخليجية بأسرها. 

ما الذي ينجزه الخطاب التطبيعي الأرعن، والرد العاطفي الذي ينافسه رعونة؟ الإنجاز الأول هو خدمة الخطاب الإسرائيلي الصهيوني الذي يكرر على مدار عقود مقولة أن “مشكلة” إسرائيل هي مع الفلسطينيين فقط وليس مع العرب، وهو الخطاب الذي نجح عالمياً في تحوير المصطلحات فتحول “الصراع العربي الإسرائيلي” إلى “الصراع الفلسطيني الإسرائيلي” فقط. وعندما تكرر الردود المُتسرعة لازمة “تخلى العرب عنا” فإنها تؤكد عملياً ما يتبناه ويكرره الخطاب الصهيوني. وكل “فش الغل” الشتائمي الذي ينهال في مضامين خطابات الرد ويتهم الشعوب العربية والخليجية بالتخاذل وعدم مناصرة الفلسطينيين وسوى ذلك، لا يحقق شيئاً عملياً على الأرض. وفضلاً عن خدمتها للدعاية الصهيونية، فإن خطابات الرعونة الشتائمية التي لا تفرق بين الأنظمة المطبعة ونخبها الطحلبية من جهة والشعوب والأغلبيات العريضة من جهة أخرى، تستفز كثيرين من العرب والخليجيين للرد والدفاع بحنق مساوٍ يدفع هؤلاء للاقتراب من مواقف أنظمتهم المُطبعة.

معنى ذلك أن قصر نظر خطاب الرعونة وسرعته الغرائزية في توسيع دوائر الاتهام والشتم، لا يعني سوى صفع الذات وتعظيم الخسائر. ليس من الحصافة ولا الذكاء أن نكرر أن “العرب تخلوا عنا”، لأن ذلك ليس صحيحاً كحقيقة موضوعية وعلمية، ومن تخلى “عنا” وعن “الشعوب العربية” أيضاً هو الأنظمة التافهة والتابعة للغرب والتي تقدم مصلحة أوطانها وشعوبها فضلاً عن مصلحة فلسطين قرباناً للقوى الخارجية لقاء ضمان بقائها في كرسي السلطة. الشعوب العربية مقهورة وتعاني من استبداد أنظمتها، وفي كل بلد فيه فسحة من الحرية والديموقراطية، مثل تونس والكويت والمغرب والجزائر والأردن، فإن الضمير الجمعي الصادق ضد إسرائيل والتطبيع معها هو الذي يظل يشع كالشمس. 

الأمر الآخر وليس الأخير هنا يتعلق بدور “الذباب الإلكتروني” الإسرائيلي في تسعير الكراهية ضد الفلسطينيين، وفي خلق مناخات تطبيع خليجية مع الدولة الصهيونية. وفي هذا الصعيد هناك مئات إن لم يكن ألوفاً من حسابات تويتر والفيسبوك وإنستغرام لإسرائيليين من الواضح أنهم يشتغلون ضمن برنامج أمني وسياسي واضح الأهداف، يتحدثون اللغة العربية ويستخدمون أسماء خليجية مزيفة. وتحوم مضامين منشوراتهم حول أفكار مثل “نكران الفلسطينيين لما قدمته الدول الخليجية من دعم”، “بيع الفلسطينيين أرضهم”، “عدم خوض إسرائيل أي حرب ضد الخليج”، “أحقية إسرائيل التاريخية بفلسطين وذكر بني إسرائيل في القرآن”… إلخ. وعادة ما تحمل البروفايلات الخاصة بهؤلاء أعلام هذه الدولة الخليجية أو تلك وصور حكامها، وتعكس “وطنية” متشددة. ومرة أخرى، يقع كثير من الفلسطينيين والعرب في فخ هذه المنشورات ويعتقدون أنها حقيقية ويبدأون في تداول وتوزيع هذه المنشورات من باب النقمة والحنق، يليه القصف الشتائمي العشوائي المعمم. ويبتعدون في ذلك عن أحد أنجع طرق التعامل مع هذه المنشورات سواء أكانت حقيقية أم مزيفة، وهو قتلها في مهدها عن طريق عدم الرد وعدم المشاركة والتوزيع. يبقى الملف مفتوحا وللحديث فيه بقية!

الكاتب: خالد الحروب

هوامش

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع