في حديثنا مع الشاعر والكاتب والمترجم الفلسطيني الدكتور نبيل طنوس، المولود سنة 1948في قرية عين الأسد في الجليل الفلسطيني المحتل، نحاول أن نتعرف على تفاصيل كتابه الأخير «اقتفاء أثر الفراشة: دراسات في شعر محمود درويش»، الصادر مؤخراً عن مؤسسة محمود درويش للإبداع / الجليل – كفر ياسيف. كما سعينا معه إلى التعرف عن قرب على تجربته الإبداعية في الشعر والترجمة والدراسات النقدية الأدبية، فكان هذا الحوار:
بداية ماذا تخبرنا عن قصة كتابك الجديد «اقتفاء أثر الفراشة: دراسات في شعر محمود درويش»، وما الذي دفعك لاقتفاء أثر “لاعب النرد”؟
صدر هذا الكتاب في 16 حزيران/ يونيو من هذا العام في الذكرى الثالثة لوفاة زوجتي. وهو يحتوي على ثمانية مقالات، من بينها مقالان استعراضيان يتحدثان عن مواضيع: الأول “معمودية الحجر في شعر محمود درويش” يتحدث عن موتيف الحجر في عدّة قصائد لدرويش ويدور حول ظاهرة تحوّل الحجر من عامل يرمز إلى القسوة والجماد والصمود وغيرها إلى عامل يرمز إلى الحنان وإلى عامل مفعم بالأحاسيس. يحدث هذا التحوّل بعد غسل الحجر بالماء مما يؤدي إلى صقله من جديد، وهنا تطرقنا إلى الماء في الإسلام والمسيحية واليهودية وغيرها وتأثير الماء على الحجر إذ يعبر في سيرورة التحوّل.
والثاني “تطور مفهوم الهوية في شعره” من بدايته حتى آخر قصيدة له. وهو مقال يستعرض مفهوم الهوية والانتماء في شعره ولأجل ذلك أوردت في المقال عدّة قصائد تشهد على الموضوع. من أجل الشفافية العلمية أصرّح بأنني استعنت بما كتبه الروائي والكاتب اللبناني إلياس خوري في مقاله “محمود درويش: الهوية وسؤال الضحية” في مجلة “دراسات فلسطينية” عدد أيلول/ سبتمبر 2010. كان هذا المقال مُرشداً لي في كتابة مقالي.
أما باقي المقالات فكل واحد يعالج قصيدة معينة. مقال “الصورة الشعرية عند درويش: على هذه الأرض ما يستحق الحياة – نموذجاً”. كتبت هذا المقال لتوضيح الصور الشعرية المركبة، خاصة ما جاء في الفقرة الأولى: “سَيّدَةٌ تترُكُ الأَرْبَعِينَ بِكَامِلِ مشْمِشِهَا”. في المقال ناقشت ما جاء به محاضر إسرائيلي إذ يفسر بأنّ الشاعر يقصد “إسرائيل” في قمة زهوها. كتب درويش هذه القصيدة عام 1986 وكان عمر النكبة الفلسطينية 38 عاماً وكذلك عمر “إسرائيل”.
أعتقد أنّ درويش يعبر هنا عن حنينه وشوقه لفلسطين، وعبر عن ذلك بعدّة أمور موجودة في فلسطين وتستحق أن نحيا لأجلها. يقصد فلسطين لقوله: “على هذه الأرض سيدةُ الأرض، أم البدايات أم النهايات. كانت تسمى فلسطين. صارتْ تسمى فلسطين. سيدتي: أستحق، لأنك سيدتي، أستحق الحياة”.
ما الذي كنت تبحث عنه في تتبع تجربة درويش، ما هي أبرز الاستخلاصات التي توصلت إليها في كتابك؟
كنت أبحث عن أمرين: الأول شعرية محمود درويش وتطورها، واستنتجت أنه شاعر نامٍ ومتطور (ما نسميه في عالم القصة “شخصية مدورة”)، كانت أول قصائده وهو في المرحلة الابتدائية، وفي تلك الفترة في الوطن اتسم شعره بالتكون وبداية وعيه بقضية وطنه وانتمائه له تحت قبضة الاحتلال، واتسم عندها بالماركسية ومال للتيار الرومانسي في الشعر العربي المعاصر مقتدياً بشعراء أمثال نزار قباني، وكان نصه الشعري مباشراً، حتى خرج ليعيش في القاهرة ومن ثم بيروت فبدأ شعره في أخذ طابع الثورية والاهتمام بالقومية العربية.
رويداً رويداً تطور أسلوبه فأخذ يستخدم دلالات شعرية أكثر واستخدم التاريخ والدين والأسطورة والأدب والحضارة أكثر من قبل بكثير. ثم المرحلة الثالثة والأخيرة عندما بدأ في الدخول في مرحلة الوعي الممكن والحلم الإنساني -خاصة في باريس- بعدما فقد الأمل في القومية العربية بعد الخروج من لبنان والحرب الأهلية هناك، فساعده ذلك على الانفصال تدريجياً عن خطابه الأيديولوجي المباشر. الأمر الثاني هو البحث عن فلسطين شعرياً وليس سياسياً، لأنه في اعتقادي هذا سيكون له أثر كبير على الآخر من البرنامج السياسي.
كيف ترى الشعر الفلسطيني بعد مرور نحو عقد من الزمان على رحيل درويش؟ وهل تعتقد بوجود “لعنة درويش” في الأعمال الشعرية الفلسطينية والعربية؟ وبالتالي هل نحن بحاجة إلى عملية انعتاق من “السحر الدرويشي” -إن جاز التعبير- في المنجز الشعري الفلسطيني والعربي الحديث؟
أرى أنّ الشعر الفلسطيني بخير، عندنا شعراء كبار في الداخل الفلسطيني وفي الدولة الفلسطينية العتيدة والشتات، وما أسميه شعراء مدورون بمعنى يتطورون بشكل دائم. وعندنا الكثيرون الذين ينظمون الشعر ما أسميهم شعراء مسطحون يكررون نصوصهم والنص الأول شبيه بالنص الأخير، وأقول دعهم يكتبون فلا بد أن يأتي اليوم ويتطور بعضهم.
إذا كنا نؤمن بـ”لعنة درويش” سنجد لعنات كثيرة مثل لعنة المتنبي، ولعنة نزار قباني ولعنة صلاح عبد الصبور وغيرهم الكثير. لماذا ننعتق من “السحر الدرويشي”؟ لماذا؟ يجب أن نتعلم شعره ولا نكتفي بتقليده أو اقتناص بعض جمله وغيرها.
أنتقل معك للحديث عن اشتغالك في حقل الترجمة. سؤالي: ما الإضافة التي حققتها الترجمة لمشروعك الأدبي الإبداعي؟
ترجمة الأدب العربي وبالذات الشعر العربي الفلسطيني بالنسبة لي هو عمل وطني، وهو المجال الذي أُناضل فيه لأجل شعبي الفلسطيني. أؤمن بأنّ الفنون عامّة: النثر، الشعر، الغناء، الرسم، المسرح وغيرها تستطيع أن تكون جسوراً للتعايش المشترك بين فئات المجتمع، شريطة ألّا تكون بوقاً لإثارة العنصرية والتحريض. نحن بحاجة للحوار السليم الذي يرتكز كما يقول باولو فيريري على خمسة أسّس: المحبة، التواضع، الأمل، الإيمان بالإنسان، والتفكير الناقد.
حتى يومنا هذا لم يجرِ حوار على هذه الأسّس إنما كان الحوار بين طرفين: قوي وضعيف أو القادم الجديد وأبناء البلاد الأصليين، بين الغاصب والمغتصب. وكما يقول الأديب العبري أ.ب. يهوشوع في روايته «العروس المنطلقة»: “لا يوجد عندنا أيّ أمل لفهم العرب بشكل عقلانيّ، ولذلك لا مفرّ إلّا أن نعود ونتعمّق بشعرهم”، فأنت تستطيع أن تفهم أيّ شعب حسب الجوانب الإيحائية عنده؛ أي حسب شعره.
وأقول: إنه في الترجمة يُسمع صوتنا نحن من انهزمنا في النكبة وبعدها في النكسة. والله يستر ماذا سيحدث لنا في مشروع “صفقة القرن” الأمريكية الجديدة. وأقول أيضاً: إنّ هؤلاء الذين خافوا الحديث عن انهزامهم لسنوات عدّة بعد عام 1948. حقّاً ماتت أغلبيتهم ولكن صوتهم يُسمع بالأدب وهذا الأهم.
كونك نقلت أعمالاً كثيرة من اللغة العربية إلى العبرية، أسألك عن القواعد التي تسير وفقها كمترجم؟
عند الترجمة أختار المضامين التي تعكس الصورة الإنسانية في الأدب الفلسطيني كي يلقى آذاناً صاغية عند الطرف الآخر. أما تقنياً فأعمل حسب قاعدة الترجمة الأمينة -كما يسميها جورج شتاينر-، وهي “الترجمة الأمينة للمصدر وللمنقول إليه”.
وهذا النوع يحافظ على قواعد ونحو وبلاغة اللغة المصدر وينقلها بنفس المهنيّة إلى اللغة الأُخرى. وهذه تعتمد على معرفة معجم الكلمات والعبارات ومعانيها، ومعرفة قواعد اللغتين ونحوهما، والصور والتشبيهات البلاغية، ومعرفة مقابلها في اللغة المنقول إليها. معرفة ثقافة اللغتين من أجل معرفة أيّ كلمة أو أيّ تعبير علينا أن نختار كي تتمّ عمليّة النقل وإظهار مواطن الجمال في اللغتين والقدرة في إيجاد الكلمات الملائمة والتي تعبّر عن قصد الكاتب المصدر، وكيفية نقل الحالة بشكل يستوعبها المتلقّي الجديد.
تقوم بترجمة الشعر من العبرية إلى العربية أيضاً، كيف أثرت الترجمة عليك كشاعر وعلى نصك بالخصوص؟
ترجمت القليل نسبياً من العبرية إلى العربية. لأني أرى دوري بترجمة العربية إلى العبرية. أعترف بتأثري بالشعر العبري الحديث أولاً لأنه تخصصي الأكاديمي، ولأنني قرأت من الكثير فتجد في قصائدي تلميحات وتناص مع موتيفات غربية وعبرية.
أدب فلسطيني وعربي مترجم للغة العبرية، أثار ويثير حفيظة الكثير من الأدباء والكتّاب في فلسطين والوطن العربي، إذ يرى هؤلاء أنّ هذه الترجمات هي نوع من التطبيع؟ ما تعليقك؟
“إسرائيل” دولة تحتل الأراضي الفلسطينية ولكن يحتاج السلام إلى جسور يعملها الأدب. ويُسرع البعض للإعلان أنّ من يوافق على الترجمة مطبع وخائن. إنّ رفضنا لترجمة أدبنا وخاصة شعرنا وأدبهم وخاصة شعرهم لا يحل القضية الفلسطينية ولا يقيم دولة فلسطينية، بالعكس دعهم يعرفون إنسانيتنا ومحبتنا للسلام وللبقاء فنكسب تأييد قوى السلام عندهم.
كيف استقبل القراء في دولة “إسرائيل” ترجماتك للشعر الفلسطيني والعربي المقاوم/ الملتزم؛ أشعار درويش وسميح القاسم وتوفيق زيّاد وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور وغيرهم؟
استقبلوها بشكل جيد ونُشرت في أكبر المجلات وأُقيمت حولها الكثير من الندوات، وأُدعى لتقديم المحاضرات. مؤخراً رفع متظاهرون في تل أبيب قصيدتين ضد قانون القومية اليهودي. قصيدة “لا أستأذن أحداً” للراحل سميح القاسم، وقصيدة “أنا الإنسان” ليوسف مفلح إلياس. وقبل فترة اتصلت بي معلمه إسرائيلية تطلب بعض القصائد العربية المترجمة لتعلمها لطلابها أجيال 14-15 سنة.
ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟
ترجمت قصيدتين لمحمود درويش: “جندي يحلم بالزنابق البيضاء” 1967 و”سيناريو جاهز” 2007 تحت عنوان “قصائد حوارية في 40 سنة ونشرت في أكبر مجلة أدبية في “إسرائيل”، هي “הוֹ! 18” (هو! – 18!Ho والاسم هو أداة تعجب). الآن سأبدأ بترجمة مجموعة قصصية من العربية للعبرية، للكاتب عفيف شليوط اسمها “الانهيار” 2014.
سؤال أخير، هل هناك كتاب جديد تشتغل عليه حالياً؟
نعم، سأنشر كتاباً يحتوي على 20 قصيدة للشاعر الفلسطيني راشد حسين باللغتين من ترجمتي، وسيكون مرفقاً بدراسة لي ودراسة ثانية لباحثة إسرائيلية.