في قراءته البصرية لمعرض الفنانة الفلسطينية الشابة علا زيتون “تنخّر”، الذي استضافه فضاء “فتوش” في حيفا مؤخراً، يرى الكاتب علاء حليحل، أنّ هذا المنجز البصري “يطرح قدرة فنيّة بارزة وعالية التقنيّة، تعيش بانسياب وقوّة مع عالم المضامين المطروحة فيه، وهو بذلك معرض قويّ وذو حضور لافت، رغم “تواضعه” الكمّيّ وصغر مقاييس لوحاته”.
“رمان” كان لها هذا الحوار مع علا زيتون لنتعرف على تفاصيل أكثر عن معرضها ومشروعها الفني، وهي في بدايات رحلتها مع عالم الألوان.
يدفعنا العنوان الذي اخترته لمعرضك الشخصي الأول، لسؤالك: لماذا “تنخّر”؟ وما دلالة إطلاق هذه التسمية؟
“تنخّر” أو باللغة الإنجليزية (Nicrosis) هو الاسم العلمي للموت المبكر للخلايا الحية والذي يسبب تشوهاً معيناً في الجسم. هو مصطلح طبي، وأحد مسببات هذا المرض هو السرطان. وأنا كإنسانة أصبت بهذا المرض في طفولتي تعرفت على مثل هذه المصطلحات الطبية.
في هذا العمل، الاسم “تنخّر” هو تعبير مجازي للأشياء الموجودة فينا والتي نحبها لأنها تشكل جزءاً من شخصيتنا، لكننا نقرر دفنها أو محوها من وعينا جراء خضوعنا لعادات وتقاليد المجتمع الذي يحيط بنا، ونتيجة لأنها دفنت في اللاواعي يصبح تشوهاً في الصورة الذاتية عند الإنسان.
قدمت في المعرض ثماني لوحات. ما هو موضوعها، وما هي الرسالة التي أردت إيصالها للمجتمع الفلسطيني في أراضي الـ 48 من خلال هذا المنجز البصري؟ ومن ثم ماهي اللوحة الأقرب من بينها إليك؟
العمل يحكي عن الخلل النفسي أو التشوه الذي يحدث في الصورة الذاتية، خاصة عند النساء، نتيجة المجتمع الذكوري الذي نعيش فيه.
عادة أنا لا أقصد أن أوجه رسالة معينة من خلال أعمالي الفنية، لكن لا شعورياً في هذا العمل كان هناك رسالة عُلا الفنانة التي تؤمن بأهمية الرسم كوسيط للتعبير عن موضوعات معينة، ورسالة عُلا الإنسانة التي تؤمن بالمساواة وبحرية الفرد داخل المجتمع.
لا أعرف إذا كان من الصحيح أن أصرح أيّ لوحة أقرب لقلبي؟ غير أني أعتقد أنّ لوحات الجسد باللون الأزرق هي الأقرب لقلبي ونفسي، فمن هذه اللوحات بدأ المشروع، وهي تتعلق بي شخصياً أكثر من باقي اللوحات.
إلى أي مدى عززت دراستك الجامعية في مرحلتها الأولى (علم النفس) لغتك البصرية وخدمت مشروعك الفني؟
دراستي لعلم النفس لها أثر كبير في ما أنجزت من أعمال فنية فأغلب المواضيع التي تطرقت إليها ذات صلة بالنفس البشرية، خاصة في مشروعي “تنخّر” حيث تكشف لوحاتي ما يدور في نفسيتي ونفسية من أرسمهم ممن حولي.
اعتمدت برسوماتك على العمل بقلم حبر “ناشف”، تُذكر خطوطه المتراصّة والمتعاقبة – بحسب النقاد – بتقنية “التنميش” (Etching) العتيقة. لماذا استخدمت هذه التقنية دون غيرها؟
أحترم هذا التشبيه، غير أنه من ناحية سيرورة العمل هناك اختلاف كبير.
أجد عملي أشبه لتقنية قديمة جداً هي (silverpoint)، والتي يتطلب التعامل معها حساسية ودقة عالية، لكن نادراً ما تستعمل اليوم. كما أنه من الصعب إيجاد المواد اللازمة لهذه التقنية لأنها غير متوفرة في البلاد.
قلم الحبر هو المادة الموجودة في كل مكان، وأنا دائماً معي قلم حبر أحمله في كل مكان، واستخدامه في عملي إن كان يخدم الفكرة أو الموضوع، فاستخدام قلم حبر بلوحة في هذه الطريقة يتطلب دقة، وهذه العملية محاطة بخوف من ارتكاب الخطأ. خوف يشبه ذلك الخوف الذي تعيشه النساء في المجتمع الذكوري، الذي يحاسبهم على أي خطأ يرتكبونه.
ما هي القيمة التي أضافها المعرض في نفسك؟
المعرض في النهاية هو تجربة ولقاء بيني وبين الناس، لقد أضاف لي الكثير على الصعيد المعنوي.
كيف استقبل الجمهور الفلسطيني في حيفا وكذلك الوسط الإعلامي والنقاد مغامرتك الأولى؟
هي ليست مغامرة من وجهة نظري، وكان جزءاً من العمل عرض في مناسبة سابقة ضمن “مسابقة الفنان الشاب” التي تنظمها مؤسسة القطان في رام الله. من وقتها أخذ عملي صداً واسعاً، وانبهرت الناس من استخدامي للتقنية العالية، والأسلوب المختلف، والنقطة التي تلتقي عندها التقنية والأسلوب مع الموضوع الجديد، خصوصاً أني أتعامل مع وسيط ألا وهو الرسم، والذي يصعب فيه أن نلاقي حلولاً جديدةً خصوصاً في هذا الوقت الذي تجد فيه أنّ كل الحلول في الرسم استخدمت تقريباً، والفنانين الشباب معظمهم يتعاملون مع وسائل بصرية أخرى كالفيديو والتصوير كحل أهون وأسرع.
اللوحة بالنسبة لك هل هي بناء عقلاني أم هي ميلاد روحي؟
كلاهما، هي “بناء عقلاني” و “ميلاد روحي”.
كيف بدأت علاقتك في عالم الألوان. متى وأين؟ ومَن مِن فناني بلدك والعالم أثروا بكِ وترينهم بمثابة آباء ومعلّمين؟
علاقتي بالفن والألوان خُلقت معي فأنا منذ طفولتي أحب الخربشة في كل محل على الجدران والطاولات وأينما يحلو لي.. كان عند عائلتي محل لبيع التذكارات موجود قبالة كنيسة، وكنا نبيع الأيقونات و”كرايكا” شغل الخليل، وخشب شغل بيت لحم، وبقلب الكنيسة كان هناك رسمات مشغولة بتقنية إيطالية قديمة.
وأنا في سن التسع سنوات أصبت بسرطان، حينها رافقتني برحلة العلاج معالجة بالفنون وهي التي شجعتني على الاهتمام بالفن وأعطتني مفهوماً آخر له، لكني لم أتوقع بحياتي أن أمتهن الفن.
درست علم نفس وكنت بطريقي لأن أصبح معالجة بالفنون، وأنا في طريقي هذا اكتشفت أني أريد أن أكون فنانة، فسجلت “لقب ثاني للفنون” بجامعة حيفا، ومن “اللقب” طورت مفهومي تجاه الفن واكتسبت أعمالي منحى مفاهيمي.
اللذين أثّروا بي كثر، والذي ساهم بصقل شخصيتي الفنية ليس بالضرورة فنان فكل شخص التقيت به في حياتي تعلمت منه شيئاً أو ترك في نفسي أثّراً.
في عالم الفن هل هناك أسئلة تلح عليكِ؟
طبعاً، كل يوم وفي كل عمل أسأل نفسي “ما هو الفن؟”.
أنت في بداية مشوارك الفني، إلى أين تريدين أن تصلي في هذا العالم؟
أكيد لا يوجد أحد يعمل في هذا المجال ولا يريد أن يصل إلى أماكن بعيدة. الفن عالم واسع لا حدود له.
إلى أيّ مدى أنتِ مرتبطة بالتراث المحلي، خاصة أنّ تجارب فنية فلسطينية معاصرة تلاقحت مفرداتها البصرية مع هذا التراث؟
يمكن اعتبار هذا المعرض عمل ناقد للثقافة والعادات والتقاليد التي ورثناها عن الآباء والأجداد، والتي فرضها علينا المجتمع. هناك رسومات تحاكي وتناقش تراثنا بهدف تعزيز هذا التراث والموروث أو نقده. كما يمكن أن يكون العمل مركباً بحيث أنه يتناول تراثنا من منظور نقدي وبنفس الوقت يعمل على تعزيز هذا التراث والموروث أو الثقافة التي جاء منها الفنان.
إن علاقتي بالتراث المحلي بعيداً عن لوحات مشروع “تنخّر” مركبة نوعاً ما، إلا أنه بهذا العمل لدي موقف حاد تجاه موروثنا الاجتماعي والثقافي، ومن الممكن أن أقدم في مشروعي القادم نظرة أخرى تعكس علاقة مختلفة مع تراثنا.
برأيك هل نستطيع الحديث اليوم عن فن فلسطيني جديد له سمات محددة؛ أم نقول تجارب فنية خاصة لكل منها سمات يحددها الفنان/ة؟
حسب رأيي، كل عمل فني عنده سمات خاصه فيه، وهذا الأمر ليس في فلسطين فقط وإنما في كل أنحاء العالم.
هل تابع النقد الفني تجربتك من خلال هذا المعرض وما سبقه من معارض جماعية بشكل يرضيك؟
أشعر من سؤالك هذا أني صاحبة مسيرة فنية طويلة ولكنك تعلم أنني في بدايات رحلتي في عالم الفن. في معارضي الجماعية كان هناك من يتابع منجزي البصري ويهتم به خاصة عائلتي وأساتذتي بالجامعة وزملائي في الوسط الفني. أما النقاد فإني أقول لك بصراحة لا يوجد في المشهد الثقافي الفني التشكيلي في الداخل مختصون في النقد الفني. إن ما كتبه علاء حليحل عن معرضي الفردي الأول في مرحلة الاحتراف أسعدني. لأنّ كتابته امتازت بقراءة بصرية فنية عميقة، ونحن بحاجة لمثل هذه القراءات لأعمالنا من أجل التأسيس لثقافة فنية تحفر عميقاً في الوعي وتعمل على بناء قاعدة متينة للفنون البصرية؛ قاعدة يؤسس لها النقاد وقيمو المعارض والفنانون بمختلف أعمارهم وتجاربهم ومشاربهم الفنية.
أخيراً، ماذا بعد “تنخر”؟
هناك عدة مشاريع اشتغل عليها، غير أني مازلت في مرحلة التجريب، فليس من الهين أن أكون راضية عن عملي وهذه مشكلة بي.