«الهجران» لسومر شحادة… تلخيص فنّي للمأساة

أحمد مجدي همام

روائي وصحافي من مصر

وأقول، إن سومر شحادة، اختار هذه التقنية، ربما، لتكون كاشفةً بالنسبة للعلاقة الثنائية المندلعة بين جوري وعادل، علاقة تحتاج لأضواء كثيرة، ولراوٍ عليم، كاشف، كبرج مراقبة. على العكس من زياد، وعلاقته المبتورة بجوري، وعلاقته الممتدة إلى داخله وإلى ماضيه أكثر من امتدادها إلى حاضره ومحيطه،

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

24/08/2019

تصوير: اسماء الغول

أحمد مجدي همام

روائي وصحافي من مصر

أحمد مجدي همام

في روايته الأحدث «الهجران» الصادرة مؤخرًا عن دار “التنوير” (القاهرة، بيروت، تونس) يحفر الروائي السوري سومر شحادة، عميقاً، في نفسيات شخوصه، ليرصد كيف تتشوّه الأرواح، بفعل العوامل السياسية المضطربة والعنف والحروب المضطرمة في سوريا، وتحديدًا عبر مدينة اللاذقية على الساحل الغربي للبلاد.

علاقة ثلاثية موجعة وكاشفة، تتشابك أضلاعها: زياد، جوري، وعادل، في تركيبة المثلث الرائج: “العاشق، الحبيبة، الغريم”، والتي استخدمها شحادة، لدفع حكايته إلى الأمام، عبر تفاعل الشخصيات الثلاث، زياد المصمم الشاب الخجول ابن أحد ضحايا السجون السورية، في ثمانينات القرن الماضي، وزميلته في مكتب الدعاية جوري، الذكية والجميلة، وعادل، الفنان السوري الشهير العائد من منفاه الاختياري إلى اللاذقية. 

انحاز شحادة إلى الاختيار الفني، على حساب تسجيل موقف مؤدلج منحاز لأحد الفرقاء عبر روايته، فلم تكن الأحداث المحتدمة في سوريا منذ 2011 محوراً للرواية، بل خلفية، مجرد خلفية، هي زمان الحكاية لا تفاصيل الحكاية، فلا تطل الحرب برأسها في حاضر الشخصيات إلا عبر شخصية ثانوية، عبد الله شقيق جوري الشاب الهش الذي جرى تجنيده كقائد سيارة إسعاف تابعة للجيش، حيث يعيش وسط الأشلاء والدمار الذي أفضى إلى تدهور حالته النفسية حتى بات يحملق في جدران البيت أيامًا متواصلة. قبل أن ينتحر بحز شرايينه.

ولأن الفن ليس ابناً للمباشرة، ليس مانيفستو حزبياً، رصد الكاتب جذور الوضع السوري، عبر “الفلاش باك” الذي أسهم في رسم خلفيات نفسية وتاريخية واجتماعية لكل شخصية، فخلف زياد هناك أمه الأرملة المخلصة عزيزة، التي وهبت عمرها لولدها ولذكرى زوجها توفيق الذي قُتِل في السجون والذي حكى لأرملته في أحلامها تفاصيل مشهد النهاية: “ليلًا فتحوا الزنازين، طلبوا منّا أن نرفع قمصاننا ونغطي رؤوسنا، جمعونا إلى جنزير واحد، وراح أحدهم يجرنا من المقدمة وآخر يركلنا من الخلف.. جمعونا في ساعة متأخرة في باحة السجن، سمعنا نباح كلاب يأتي من الخارج، سمعتُ صيحات بعيدة تهتف للحرية. رأيت ساحات تحتشد بالناس قبل أن تقطر الدماء منها، ورأيت عبر سيل الدماء زماننا موحشًا” (ص 206). وهناك عادل الذي تساعدنا الاسترجاعات في فهم سر خوائه رغم الشهرة التي أصابها عالميًا كفنان تشكيلي بارع، عندما نعرف أنه باع رفاق الثمانينات في صفقة رخيصة لينجو ويخرج من سوريا إلى المنفى الأوروبي. وخلف جوري هناك أسرة كاملة على رأسها الأخ الذي فقد عقله تحت وقع الحرب، والأم، زينب، الطيبة ككل الأمهات.

هذا التلمس الرهيف، لجذور المحنة السورية، وتتبع الخيط إلى منبته، يعكس فهماً فنيًا رفيعًا، لا يلعب فيه الأدب دور السجل الاجتماعي أو “ديوان العصر” وفقًا للوصف القديم، ويغلّب الذاتي على العام، فتطغى تشابكات العلاقة بين الشخصيات الثلاث على تلك الخلفية البعيدة للحكاية. ليسرح القارئ متعقبًا جوري في نزوتها مع الفنان الستيني المبهر، الوسيم، المثقف، والمتلاعب بالكلمات. ليشنأ أول “هجران” في الرواية، بين الصديقين الجديدين جوري وزياد، ولتتعاقب “الهجرانات” من بعدها، فعادل نفسه يهجر جوري، ببطء، بتلذذ بإفساد وتعذيب الآخرين، كما هجر طليقته سها، وبنتيه لمار وميرال، وكما هجرت عزيزة، ابنها المتعلق بها، زياد، بل وراجت تعده، على نار هادئة، لهذا الهجر، هجر الموت، فأخذت تدربه على فنون الطبخ وتحضه على الزواج وتفتش عن جوري الحبيبة المزمعة لابنها الوحيد، لتضمن وجود شريك بجواره بعد أن ترحل: “ضعف جسمها بعد الحادثة، جُبِر الكسر، أخذ وقتًا أطول من المعتاد بسبب عمرها، وزالت آثار الرضوض إلى أنها لم تستعد قدرتها على الحركة بالنشاط السابق، وبدت غير راغبة في ذلك. جاء خالاي بكري وعبدو معهما زوجتاهما، ومن بقي من أبنائهم، جاء أناس كثيرون للاطمئنان عليها، كانت تستقبلهم بروح مغادرة فيما تجهد نفسها على إبداء الألفة. تدفعني عبر تعليمات تفصيلية لأحل مكانها؛ أبدأ الأحاديث مع خاليّ، وأبنائهما، أحضّر شيئًا يشربونه” (ص 141).  

تنمو الحكاية الأصلية، كدوامة تشد إلى مركزها الشخصيات الرئيسية الكبرى، والشخصيات الأخرى، فيشكل مرض عزيزة مرحلة فارقة في حياة زياد، الذي يروي هو نفسه فصول حكايته بضمير الـ”أنا” وبالفعل المضارع، مقابل ضمير الغائب أو الـ”هو” فكان يحكي بزمن القص الماضي باقي الحكاية، من طرف جوري وعادل، وزياد نفسه كان يدخل ضمن الفئة المستهدفة من هذا الراوي العليم.

وأقول، إن سومر شحادة، اختار هذه التقنية، ربما، لتكون كاشفةً بالنسبة للعلاقة الثنائية المندلعة بين جوري وعادل، علاقة تحتاج لأضواء كثيرة، ولراوٍ عليم، كاشف، كبرج مراقبة. على العكس من زياد، وعلاقته المبتورة بجوري، وعلاقته الممتدة إلى داخله وإلى ماضيه أكثر من امتدادها إلى حاضره ومحيطه، زياد الغامض بطبعه، الصامت أغلب الوقت، والذي في حكيه عن نفسه، قد يقول كل شيء أو لا يقوله، يعمل بمثابة محبس أو صمام لتدفق الحكي.

تمتد خيوط اللعبة بين جوري وعادل، يتبادلان التحكم في إيقاع العلاقة، إلا أن تلك العلاقة سرعان ما تنكشف عن فارق كبير في العمر يفضي إلى فشل سريري، يعقبه فشل عاطفي ونفسي وحتى إنساني، وتبدأ العلاقة في التآكل والتفسخ، وتبدأ جوري في مراجعة اندفاعاتها التي قادتها إلى هذا الوضع، وإلى هجر زياد، لتتلقى بدورها هي الأخرى الهجر من عادل، قصة حب بدأت بما يشبه الخيانة والتخلي، لتنتهي بما تستحقه، فيظفر زياد بالوحدة والكرامة، كأي جنتلمان انتصر لمبدئه الخاسر، ووصل عادل المتلاعب، الرمادي مع ميل للأسود، إلى ما يصل له المتلاعبون في بلاد الشرق، له شهرته وثراؤه وهواجسه، وتصل جوري، المخدوعة، الحلقة الأضعف وإن بدت الأقوى، إلى نهاية مشوشة، جسّدها الروائي على شكل نهايتين مقترحتين، النهاية “أ” والنهاية “ب”. ليحتفظ لنصه بتناغم وتجانس بين التقنيات السردية والحكاية نفسها.

«الهجران» هي الرواية الثانية لسومر شحادة، وتجدر الإشارة إلى أن روايته الأولى “حقول الذرة” فازت بجائزة الطيب صالح لعام 2016. 

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع