سلام الكواكبي (من مواليد مدينة حلب 1965). المعروف في الأوساط الأكاديمية العربية، والغربية، بوصفه باحثاً في العلوم في السياسية وفي العلاقات الدولية. وهو الحاصل على إجازة في الاقتصاد من جامعة حلب عام 1987. ودبلوم الدراسات العليا في العلاقات الدولية من جامعة حلب عام 1991. وفي العام ذاته، حاز على دبلوم الدراسات العليا من معهد الدراسات السياسية في إكس أون بروفانس في فرنسا، البلد التي سيصبح سلام الكواكبي، أحد مواطنيها، بعد حصوله على الجنسية الفرنسية عام 2002.
يكفي أن تتأمل هذا الباحث من بعيد، لتأخذ فكرة بسيطة عنه، وهي أنه لا يضيع وقته. إن كان في الدراسة والتعليم في شبابه، من جهة، ونشاطه الذي لا يتوقف، سواء على صعيد الانشغال في الشأن العام السوري، قبل الثورة السورية، وبعدها. أو على مستوى العمل الأكاديمي داخل أكثر من مؤسسة ثقافية وأكاديمية من جهة أخرى.
آخر مؤلفاته كانت بحثاً جاء تحت عنوان “النشاط السياسي في سورية: بين اللاعنف والمقاومة المسلحة” مع وائل السواح، ضمن كتاب “التظاهر: تحول النشاط السياسي العربي” والذي صدر باللغة الإنكليزية عن دار(جون هوبكنز 2014).
وهنا نص الحوار الذي أجرته مجلة رمان الثقافية مع الباحث والكاتب السوري سلام الكواكبي:
ثمانية عشر عاماً في العمل كباحث، ومدير لأكثر من مؤسسة ثقافية. من المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في حلب عام 2000، حتى استلامك لمنصب مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات – فرع باريس عام 2018. كيف ترى اليوم هذه التجربة؟ وما الصعوبات التي واجهتك؟
قبل أن أبدأ في المعهد الفرنسي، كنت مقيماً في فرنسا، وأعمل كباحث أيضًا في معهد دراسات الشرق الأوسط، والدراسات الإسلامية والدراسات الشرق أوسطية في (آكس أون بروفانس) جنوب فرنسا، وهو مشهور في أبحاثه عن منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، وفيه أكبر الباحثين الذين عملوا على هذه المنطقة، منهم أندريه ريمون الذي أرّخ لمدينتي حلب والقاهرة، وكتب فيهم ما لم يكتبه أحد من الباحثين المحليين، للأسف. كما كان فيها برينو ايتيين الباحث المهتم بالفكر الصوفي، الذي كتب سيرة الأمير عبد القادر الجزائري، وكان يعمل على القضايا الشمال أفريقية، والعلاقات بين الديني والسياسي. إذاً، كانت لدي قبل أن أصل إلى حلب، خلفية بحثية؛ إدارية وعلمية محددة.
لقد قمت بتأسيس فرع المعهد الفرنسي في حلب، حيث أن المعهد الفرنسي العريق في دمشق يعود تأسيسه إلى عشرينيات القرن الماضي. وقد كان اسمه المعهد الفرنسي للدراسات العربية في دمشق، وتحول في منتصف الألفية الأولى، إلى المعهد الفرنسي للشرق الأدنى.
أما في حلب، فقد تأسس من الصفر. حيث كان العمل البحثي في سورية صعباً للغاية، وممكن أن نطوّر هذا الموضوع في بند خاص، إذا أحببت.
في حلب، ورغم أنه المعهد هو معهد فرنسي، ولكن كل نشاط كنت أقوم به، كان يحتاج إلى موافقات عدّة، ومن أجهزة أمنية متعددة، وغالباً لم يكن هناك أي تنسيق بين هذه الأجهزة، وهذا طبعاً تراث “سوري”. وبالتالي كان يجب علي أن أقدّم طلباً للسماح بإقامة محاضرة، لجهازين على الأقل، من الأجهزة الأمنية. كذلك كان يحضر عنصر من كل جهاز، ويطلبون من أحد الموجودين أن يزودهم بملخص عما يجري قوله. حتى لو كان الحديث عن الموسيقى، أو فن تشكيلي… ألخ. أي حتى لو كان بعيداً عن السياسة طبعاً.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، ففي عام 2002، وبمناسبة مئوية وفاة عبد الرحمن الكواكبي، نظمت لقاءً هاماً علمياً، شارك فيه الدكتور نصر حامد أبو زيد، وقد تعرضتُ لمواقف صعبة جداً، حيث اتُهمت أني أحاول أن أحرّك الأذهان، وأدفع الناس للتفكير. وقال لي وقتها أحد رجال الأمن الكبار: “نحن أمضينا أربعين عاماً لنجعل منهم حميراً، وأنت تأتي في ثلاثة أيام لتحاول أن تفتح عقولهم”. فكانت هذه في نظره جريمة.
طبعاً، لم يتعرضوا لي أثناء المؤتمر، لأن المؤتمر عقد خلال يومين، وانتهى. لكن في ما تلا ذلك؛ أمضيت شهراً غير ودّي أبداً، في زياراتي للأجهزة الأمنية، وفروعها، للإجابة عن أسئلة بعيدة جد البعد عن الثقافة وعن البحث العلمي، كما يمكن أن تتصور.
عودتي إلى فرنسا، أو خروجي إلى فرنسا… لا أعرف ماذا أسميه. أنا كنت في فرنسا منذ عام 1993 حتى 2000. ومن عام 2000 إلى 2006 عملت فقط في المعهد الفرنسي، وخبرت في هذه السنوات الست؛ العلاقة مع أجهزة الدولة، والعلاقة مع “المؤسسات الأكاديمية” السورية، حيث الجامعة، وحيث معهد البحوث العلمية وما إلى ذلك. كان العمل فردياً في التنسيق مع بعض الأساتذة، وكان هناك حذر شديد من أي أستاذ، في التطرق إلى مواضيع عامة، وبعيداً عن الأمور التراثية، والتاريخية. وحتى في الأمور الأثرية، كان هناك حساسية معينة، لها علاقة بقراءات مختلفة للعصور المتعاقبة، والتي مرت بها سورية، حسب الميول السياسية للمرحلة، فإن كانت سوريا تمر بمرحلة غزل مع تركيا، فيجب أن تكون الدراسات الأثرية، تركز على غنى التراث العثماني. وإن كانت المرحلة سيئة مع تركيا، يجب أن تكون الدراسات الأثرية والتاريخية، تركز على حقب أخرى، أو تشتم حقباً بعينها.
وكان هذا كله، خبرة، أثناء وجودي في سورية، في التعامل مع الأجهزة الأمنية. أما في التعامل مع مختلف الأساتذة، ومن مشارب عدة، فقد نشأت علاقة احترام، ولكن كان هناك أيضاً علاقة شكّ فظيعة، فأن تعمل مع مركز أجنبي، فأنت جاسوس في العقلية العقائدية المتخشبة. مع أنني شعرت بأن خلال هذه الفترة، ما قدمته، للثقافة، أو المثقفين في حلب، من مساحة تعبيرية، ومساحة استماع للمحاضرات، بعيداً عن لغة الخشب، ولغة الحجر، كان لا بأس به. وهذا الموضوع لا أقدّره أنا، إنما يقدّره أصحاب الشأن، الذي كانوا مهتمين فيه، وكانوا يحضرون كل اللقاءات.
ودائماً أستند إلى مقولة عبد الرحمن الكواكبي في موضوع البحث العلمي، والاهتمام بالعلوم الإنسانية. والتي تقول “ترتعد فرائس المستبد من علوم الحياة، مثل الحكمة النظرية والفلسفة العقلية وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية والتاريخ المفصل والخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تُكبر النفوس وتوسع العقول، وتعرّف الإنسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها، وكيف الطلب وكيف النوال، وكيف الحفظ، وأخوف ما يخافه المستبد من أصحاب هذه العلوم، المندفعين منهم لتعليم الناس الخطابة أو الكتابة”. الدولة المستبدة إذاً تخشى العلوم الإنسانية وتجعل تدريسها سيئاً إلى درجة التهميش وتعتبر من يراودها هم الطلاب الفاشلون.
أرغب في العودة لحديثك عن واقعة نصر حامد أبوزيد. خلال كلامك ذكرت أنك بقيت فترة تذهب إلى أجهزة الأمن، وكان هناك تساؤلات حول حضور نصر حامد أبو زيد. الشق الأول من السؤال؛ ما هي الأسئلة التي أثيرت حول موضوع المؤتمر، وهل كان هناك باحثون بارزون غير نصر حامد أبو زيد، وكان تحت اسمهم “خط أحمر”؟ وكيف تعاملت مع الموضوع في ذاك الوقت؟
والشق الثاني من السؤال؛ ما هي “مساحة الحرية” التي كنت تتحرك من خلالها أثناء عملك في المعهد الفرنسي في حلب؟ ما هي المواضيع التي كنت تستطيع أن تمررها من تحت “عين الرقيب” ونجحت في طرحها على المستوى الأكاديمي والبحثي، وليس فقط على المستوى الثقافي؟
هم كانوا يعززون تأسيس الظلامية في المؤسسات الدينية، أي هناك سياسية ممنهجة. عندما تقوم مديرية ثقافة في حلب بتنظيم ندوة عن “السيدا” أو “الإيدز” في القرآن، فهذا شيء خطير. وحينما يقوم معهد التراث العلمي العربي في جامعة حلب بتنظيم ندوة تحت عنوان “الطبيب المسلم داوود الأنطاكي” مشدّدة على أنه “طبيب مسلم”، في تعريف طائفي. في حين أن هذا “التفصيل” لا يعني المهتمين بأعماله وما أنتجه داوود الأنطاكي منذ قرون في المجال الطبي. وبالمقابل، كنت أسعى لجلب مفكرين مهمين، كان منهم محمد أركون ونصر حامد أبو زيد، مما كان يسبب لي الكثير من المشاكل.
الاعتراض الأساسي الذي صحب مؤتمر الكواكبي، هو قيامنا في المعهد بالإتيان بمن يساعد على فتح الأذهان في أمور الدين، من وجهة نظر فلسفية، وعقلانية، ومن وجهة نظر تحترم الدين، ولكنها تحترم أيضاً العقل البشري. وبالتالي، فمن أثار غضب اتجاهي، كانوا رجال دين السلطة، وخاصة الشيخ محمد رمضان البوطي، والشيخ صهيب الشامي مدير أوقاف حلب آنذاك، الذي خرج على المنبر ليقول بشكل شبه حرفي إن المعهد الفرنسي يجمع الشيوعيين والماسونيين والصهاينة والفرنسيين لشتم الإسلام. فقامت قيامة رجال الدين وقتها، وطلبوا أن يُحقق معي. وسرعان ما قامت فروع أجهزة الأمن بتنفيذ طلبات رجال الدين. هذا في سورية التي كانوا يدّعون أنها “دولة علمانية”. علمانية في العناوين ولكن الظلامية المسيطر عليها في المضمون.
وكان وجود نصر حامد أبو زيد قد سبب أرقاً لهم، على الرغم من وجود مفكرين مهمين آخرين في الندوة، إلا أن “ثقافة” هؤلاء (أجهزة الأمن، رجال الدين)، حجبتهم عن معرفتهم. فالراحل نصر حامد أبو زيد كان مشهوراً إعلامياً، لكن كان هناك آلان روسيون، وهو من أهم الباحثين الفرنسيين في الشؤون الإسلامية، وكان هناك آصف بيات الباحث الإيراني الأمريكي المختص بأمور الحركات الاحتجاجية، والحركات الاجتماعية، على سبيل المثال لا الحصر. ومن أقلقهم وأزعجهم أيضاً، كان من الباحثين السوريين المحليين، الذي لم يكن لديهم أي منبر للتعبير، وهو الدكتور عبد الرزاق عيد، واعتبروا أن وصوله إلى منبر، مهما كان هذا المنبر، هو فشل لهم في عزله وإقصائه.
وصراحة، وبعيداً عن موضوعة هذه الندوة، إلا أنني عموماً أفتخر بأن ما استطعت أن أمرره من أبحاث، هو موضوع المجتمع المدني، والحديث عن المجتمع المدني لأول مرة بشكل صريح، بعيداً عن “العكّ” اللغوي الذي لا يعترف بما يسمى المجتمع المدني، ويسمونه المجتمع الأهلي، وأوضحت أيضاً قبل الثورة بسنوات كيف تم تأميم المجتمع المدني في سورية، وتحويله على طريقة كوريا الشمالية، إلى منظمات ديمقراطية شعبية، تؤطر الشعب السوري منذ طفولته عبر منظمة “الطلائع” وصولاً إلى كهوله، عبر النقابات، عبر الجامعات، والاتحادات، عبر كل هذه التسميات التي كانت هي عبارة عن جزء من البيروقراطية الأمنية الشعبية التي كانت أساس عماد نشاطها مراقبة الناس، وليس التعبير عن رغباتهم والدفاع عن حقوقهم. وهذا ضمن ما استطعت أن أكتبه قبل الثورة، ولكن، وهنا ربما أعود إلى سؤال، قد طرحته علي قبل أن نجري هذا الحوار هنا؛ عن سبب وجود مؤلفات نشرتُها أساساً باللغات الأجنبية، كالفرنسية والألمانية والإنكليزية، ونقص المؤلفات باللغة العربية.
بصراحة، في السنوات السبع التي تواجدت فيها بسوريا، لم أستطع أن أكتب من 10 لـ 15 مقالة صحفية، نتيجة خوف الصحف من النشر، بلهجة أو خطاب مرتفع، وأيضاً نتيجة حذري وممارستي لرقابة ذاتية، لأني كنت واعياً، أن العقلية الأمنوقراطية السورية، لا تخاف ربما من بحث علمي، لأنها تظن أن الناس جهلة، وبالتالي الناس لن تقرأ، لكنها كانت تخاف أكثر من المقالات الصحفية، لأن المقالة الصحفية تُقرأ، وتوزع بشكل أسهل، وما إلى ذلك.
منذ متى بدأ اهتمامك بالمجتمع المدني قبل مغادرتك سورية أم بعد ذلك؟
اهتمامي بأمور المجتمع المدني، سبقت مغادرتي سوريا، وقد قمت بعدة نشاطات في حلب وفي غيرها من المدن السورية والعربية، وساهمت في بعض الكتابات عن تاريخ المجتمع المدني، والتمييز بين الأهلي والمدني، وكذلك نشطت عدة لقاءات مع مؤسسات ألمانية، كانت معنية في هذا الموضوع، مع مجموعات مدنية سورية، وكذلك في شروط صعبة جداً، حيث كان الشك دائماً في هذه اللقاءات، وكان الأشخاص المشاركون فيها يتعرضون للمساءلة والتحقيق وما إلى ذلك. ونجم عن ذلك العمل، قبل الثورة السورية، كتاب صدر باللغة الانكليزية بشكل أساسي، ومن ثم ترجم إلى اللغة العربية، عن “أصوات المجتمع المدني السوري ما قبل الثورة”، حيث غطينا مجال البيئة، ومجال التنمية، والمرأة، والسينما، ومجال السياسة وحقوق الإنسان، وإلى آخره من المجالات التي تهتم بها منظمات المجتمع المدني.
شاركت بعد اندلاع الثورة السورية، بعدة نشاطات لها علاقة أيضاً بالعمل المدني، حيث كنت من المؤسسين لمبادرة اليوم التالي من أجل سوريا ديمقراطية، حيث كان هناك أكثر من 150 مشاركاً أكاديمياً سورياً في جلسات عصف ذهنية، امتدت لمدة ستة أشهر، نجم عنها مشروع اسمه “اليوم التالي”، وكنا نأمل حينها بأن نهيئ الظروف الموضوعية، والعلمية، لليوم التالي في سوريا ديمقراطية، حيث تمّت دراسة الأمور الدستورية، إصلاح القطاع الأمني، وإصلاح القضاء، الإصلاح الاقتصادي، والتشريعات، كانت دراسة مفصّلة، وتحولت المنظمة فيما بعد إلى منظمة تعنى بتوعية المواطن السوري في الأمور الأساسية، كالتعددية، والانتخابات، والمساواة… إلخ.
ومن الجمعيات التي أفتخر بأني أرأس مجلس إدارتها؛ جمعية “اتجاهات، ثقافة مستقلة”، وهي جمعية ثقافية تدعم الإنتاج الفني والثقافي السوري في سوريا، كما في المهجر، وفي بلاد اللجوء، وتقدم المعونة للباحثين الشباب في الشأن الثقافي لخوض هذا الحقل الذي أهمل طوال عقود في بلادنا. ويشكل هذا الاهتمام بالنسبة لي بعداً ثقافياً إضافة إلى الأبعاد السياسية والفكرية التي عملت عليها.
وعملت أيضًا على إنشاء مؤسسة اسمها “مبادرة من أجل سوريا جديدة”، تعنى بالقروض الصغيرة، ولكن للأسف الشديد، نتيجة الأنظمة التي تمنع أي تحويل أو أي وصول لمبالغ مالية، تحتوي على اسم سوريا في الحساب، حتى في البنوك الأوروبية، وهذه من المآسي، وما يؤكد كذب التضامن الأوروبي مع الشعب السوري، فاضطررنا إلى إغلاق هذه الجمعية، وتوقف نشاطها، لأن نشاطها كان قائماً على توزيع القروض الصغيرة التي كنا فعلاً نسميها قروضاً، لكنها كانت غالباً منحاً، وهذا كان ضمن منظورنا للموضوع.
في الحديث أيضًا عن المجتمع المدني. وبالتزامن مع عودتك إلى سوريا عام 2000. هذا العام كان مثيراً في سوريا، هو العام الذي مات فيه الرئيس السابق حافظ الأسد. هل عدت إلى سوريا قبل وفاة حافظ الأسد أم بعد؟
أنا رجعت إلى سوريا في شهر نيسان/ أبريل عام 2000. أي قبل موت حافظ الأسد.
كيف كانت أصداء “ربيع دمشق” بالنسبة لك؟ تلك الفترة شهدت انفتاحاً سياساً واجتماعياً نوعًا ما. وكثرت نشاطات المعارضين السياسيين في ذلك الوقت، مثل إنشاء المنتديات والصالونات السياسية، مثل منتدى جمال الأتاسي، ومنتدى رياض سيف على سبيل المثال. كيف رأيت تلك المرحلة؟
ككل سوري وطني ومثقف وواع، شعرت بالتفاؤل للحظات محددة، ليس في انفتاح السلطة الوهمي على بعض النشاطات، بل في الرغبة في إنجاز هذه النشاطات لدى بعض الأطراف النقدية والمعارضة.
للأسف الشديد كان الوضع مختلفاً جداً بين المحافظات. تتحدث في دمشق عن منتدى رياض سيف على سبيل المثال، إنما في حلب كان الموضوع مختلفاً. حلب كانت خاضعة لخمسة أجهزة أمنية مختلفة، وكان هناك صراع على تقديم الولاءات، وإظهار نجاح في قمع أي نشاط. ومع ذلك كان هناك منتدى الكواكبي للحوار الديمقراطي، أسس في حلب في ذلك الوقت. أظن أنه لم يعقد اجتماعاً أو اجتماعين، وأغلق، وهَدد من قام بإغلاقه بالاعتقال. وأنا كنت مدعواً لافتتاحه ولإلقاء كلمة، لكنني مُنعت أيضاً، لأن جهاز الأمن أتى إلى المنزل في لحظة مغادرتي، ليتحدثوا معي في موضوع آخر تماماً، وبالتالي وبهذه الطريقة، فقد نجحوا في منعي من حضور الافتتاح. أنا تفاؤلي كان دائماً على نمط الكاتب الفلسطيني إميل حبيبي، نصفه تفاؤل، ونصفه تشاؤم. وكان التشاؤم غالباً، لأني كنت أعتقد أن منظومة قامت على عقلية أمنوقراطية لا يمكن أن تنفتح، لأن انفتحاها ومحاولاتها إطلاق إصلاحات مهما كانت محدودة، هو إعلان نهايتها، وهي واعية لهذا، ولذلك ترفض أي انفتاح، وأي مبادرة إصلاح، ولكن نتيجة الكبت والضغط والقهر، الناس تفاءلت، أو ظننت خيراً، وطبعاً لم يدم وقت طويل، حتى أُصبت بالخيبة.
كيف كانت تتعامل معك الأجهزة الأمنية، هل كانوا يأخذون بعين الاعتبار أنك حفيد عبد الرحمن الكواكبي، ويجب التعامل معك بأسلوب دبلوماسي بعض الشيء؟ أم كانوا يتعاملون معك بصفتك باحث أكاديمي أو معارض؟ هل مارسوا عليك شكلاً من أشكال العنف، سواء كان لفظياً أم جسدياً؟
في الحقيقية لم أتعرض لا لعنف لفظي ولا لعنف جسدي مباشر. أما العنف النفسي، فقد تعرضت له. ففي أحد الأيام، اتصلوا بي حوالي الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وقالوا لي: “نحنا سهرانين بالفرع، وعم نسأل بعض عن تعريف مناسب للمجتمع المدني، وشفنا أنو إنت أفضل من يمكن أن يجد لنا هذا التعريف”. فأجبت الشخص الذي يتحدث إلي: “هذا الموضوع لا يمكن أن ينتظر للغد، وتأتون إلى المكتب، وأعطيكم بعض التعريفات؟” فقال لي: “يبدو زعجناك، إذا بتحب نجي هلأ على البيت، وناخد منك التعريف”. فأنت تفهم تماماً من أن هذه الطريقة هي نوع من الاستفزاز، ولكن الحق يقال، لم يخطئوا معي في كلمة ولا بتصرف. وقالوا أكثر من مرة، وبأكثر من أسلوب “أنت حفيد الكواكبي… أخ لو مالك حفيد الكواكبي شو كنا عملنا فيك… بس ما بدنا نخلق منكم سلالة شهداء وسلالة أبطال”. كانوا واعيين لهذه القصة، والجانب الآخر الذي لعب دوراً أيضاً، بعدم تعرضي لشكل مباشر للتعنيف، أنني كنت مواطناً فرنسياً منذ عام 2002، وكنت أعمل مع مؤسسة فرنسية، وكان هناك غزل مع فرنسا في تلك المرحلة، وبالتالي كانوا يخشون من الإساءة للعلاقات مع فرنسا. أعتقد أن هذين العاملين، لعبا دوراً أساسياً. لكنني كنت أعتبر أنني أتعرض لتحرش نفسي دائم. الأسئلة التي كانت تسأل لي بعد كل محاضرة، فرانز كافكا لم يكتبها في مؤلفاته. مثلاً، أعمل محاضرة عن “الشرق في لوحات الرسام الفرنسي هنري ماتيس”، يأتون إليك، ليسألوك؛ أين أقام ماتيس، وفي أي فندق؟! أقوم بعرض فيلم، عن “إطلاق الدببة في جبال البيريني” يأتون ويسألونك؛ ما هي الحمولة السياسية للفيلم، وماهو الحوار الذي جرى بين الدببة في الفيلم. هذه الأمور التي كانت تحدث، تبعث على الابتسام حالياً، لكن أن تعيشها يومياً، فهذا موضوع منهك.
هذه الممارسات “الأمنية” يمكن اعتبارها تهديدات بشكل غير مباشر. خلال الست سنوات من العمل في حلب، هل وصلت لمرحلة يأس؟ وقلت على سبيل المثال؛ سأحزم حقائبي وأعود إلى فرنسا؟
طبعاً وصلت إلى هذه المرحلة. ويوم مقتل الصديق الكاتب والصحفي اللبناني سمير قصير، كنت بحالة نفسية صعبة جداً. وخاصة أنه كان لنا صديق مشترك، وهو صحفي ألماني، مختص بالشؤون العربية، كان قد توفي قبل فترة وجيزة. كان هناك رسائل متبادلة بيني وبين سمير، نتحدث من خلالها عن موت هذا الصديق، وهو صديق شخصي، وصديق قضيتنا؛ قضية الديمقراطية، والحرية، والعدالة. وكانت آخر جملة كتبها سمير لي؛ “حافظ على صحتك، فنحن نعيش الربع ساعة الأخيرة ما قبل الديمقراطية”. قتل سمير في 2 حزيران / يونيو 2005، وأنا غادرت سوريا في نيسان/ أبريل 2006.
طبعاً أنا غادرت سوريا إلى المجهول. حيث لم يكن لدي أي عمل في فرنسا، ولم أفتش عن عمل قبل أن أغادر. وعندما وصلت بدأت بالبحث عن عمل، ولحسن الحظ سرعان ما شاركت بالمرحلة التأسيسية لمبادرة الإصلاح العربي، وهي كانت المؤسسة، التي ما زالت مستمرة، تعنى في نشر مفاهيم الإصلاح ودعمها، وقياس مدى الإصلاح في الدول العربية وعملت فيها -كما ذكرت سابقاً- عشر سنوات.
كيف ترى النتاج الثقافي والفني والفكري السوري، منذ بداية الثورة في مطلع عام 2011 حتى الآن، وفي ظل الحرب والقتل والدمار؟
طبعاً هناك نقطة هامة هنا. المثقفون كانوا في أبراج عاجية غالب الوقت، باستثناء البعض من المثقفين العضويين، الذين كانوا منخرطين في بعض الحركات السياسية. لكن عموماً، المثقفين الماكثين في المقاهي، المنظرين لكل شيء، ولا شيء، المنتمين إلى أحزاب عقائدية، حتى لو كانت معارضة، ولكنها ذات نفس العقلية المتحجرة للأحزاب الحاكمة، كان عندهم عدة مشاكل. وقد كان هناك استقطاب شديد للمثقفين، استقطاب من قبل السلطة، وإفساد، وعطاءات، ومنح. فبالتالي المثقف الذي “نفذ بريشه”، ولم يذهب إلى السجن، غادر البلاد. وقليل جداً منهم، ممن استطاعوا الاستمرار في إنتاج ثقافي حقيقي في ظل الأمنوقراطية السورية. أما الثورة فقد فتحت المجال أمام حريات التعبير، حتى ضمن النطاقات الضيقة، وحتى في الفنون وفي المسرح. التخلص ليس فقط من الرقيب السياسي، بل من الرقيب الديني والاجتماعي. شاهدنا مشاريع ثقافية متميزة، متخلصة من كل هذه القيود. شاهدنا تطوراً واسعاً في فن الرواية السورية، رغم أن له بعض السليبات، أي أنه كثيراً ما كان يُكتب، أو كُتِبَ، أو مازال يُكتب، كان في عقلية كاتبه، متوجهاً بالأساس، إلى اللغة الأجنبية، حيث ستترجم أعماله، وسيحوز على إعجاب قرّاء في خارج البلاد العربية، إضافة إلى ذلك، أنتجت هذه الثورة، ثورة في مفاهيم، في تقييم الحدود، والممنوعات، أيضاً سمحت للكثير من السوريين في التعبير عن ميولهم السياسية، وميولهم الجنسية، دون خجل ولا خوف. وهنا يمكن أن أقول، ورغم أن هذا الشيء سيفاجئ البعض، وهو أن الثورة السورية قد نجحت، رغم أنها لم تنجح في التغيير الجذري، للواقع السياسي، السلطوي، الأمني، ولكنها استطاعت أن تنجح في إعطاء السوريين مساحة واسعة للتعبير والخروج من بواتق العقائدية المتحجرة.
هل تعتقد أن على السوريين من أدباء وفنانين، أن تقتصر كتاباتهم، وأعمالهم، على أحداث الثورة السورية، أو عن القمع، والاضطهاد. أم أن الثورة من الممكن أن تشمل أكثر من مستوى في الكتابة أو في العمل الفني؟ على سبيل المثال. الفنان التشكيلي يوسف عبدلكي. عندما أقام معرضاً للوحاته في غاليري في دمشق منذ أكثر من سنة، تعرض لانتقاد واسع من شخصيات معارضة، ومثقفين كثر مؤيدة للثورة. بما معناه، رأوا أن إقامة معرض، لشخصية معارضة للنظام، مثل يوسف عبدلكي، هو نوع من المحاباة للنظام السوري. هل تعتقد ذلك؟
أنا أعتبر أن المثقف أو الكاتب الروائي، ليس مطلوباً منه أن يكتب عن الثورة وإلى الثورة فقط، أو يُعتبَر متخلياً ومتخاذلاً. هذا كلام أيضاً غوغائي، ولا أؤمن به أبداً. ربما يكتب البعض رواية مثلاً، يمكن أن يكون استوحى، أو أخذَ شيئاً من حقبة ثورية، أو النشاطات الثورية، لكن ليس مفروضاً أن تتحدث عن الثورة. هناك أطر عديدة، لم يدخل فيها السوريون قبل الثورة، سمحت لهم الثورة بعد ذلك الانخراط بها، فيمكن الكتابة من هذه الزاوية، وأعتقد أن هناك الكثير من الروايات التي نجحت، وإن كانت تحدثت عن تفاصيل حدثت في الثورة، أو أنها تحدثت عن شهادات شخصية لبعض الذين كانوا يتعاملون أو يعملون مع النظام.
أما بخصوص قضية يوسف عبدلكي، فأنا أرفض تماماً محاكمة أشخاص، باعتبار أن من يحاكمهم، خارج البلاد غالباً، ويسمح لنفسه، أو الظروف تسمح له، بإعطاء الدروس لهذا وذاك. معرض يوسف لم يصدمني. أيضاً هناك الكثير من الفنانين السوريين الذين يقاومون من خلال إنتاج الإبداع، وليس بالضرورة الإبداع الثوري. الإنتاج الإبداعي، هو نوع من مقاومة الظلم والعسف، ومنع الحريات. وبالتالي هذا موقفي من يوسف، كما هو موقفي من جميع ممن ما زال يعمل من الداخل السوري. ولا يمكن أن نسمح لأنفسنا بأن نوزع شهادات وطنية، وشهادات انتماء، وشهادات قبول، ونصنّف الناس.
طبعاً هناك مثقفون “شبيحة” بالمعنى المباشر للكلمة، هؤلاء ليسوا في دائرة اهتمامي في هذا الموضوع، لكن من أهتم لهم، هم المثقفون الذين قرروا، أو لم يستطيعوا مغادرة البلاد.
كيف ترى الإعلام السوري المعارض اليوم؟ كيف تقيّمه؟ هل هناك إعلام سوري معارض ومستقل في رأيك؟ وما هي المشكلات التي يعاني منها؟
بالمطلق، لا يوجد هناك إعلام مستقل في أي دولة في العالم، وهذه ليست إدانة للإعلام، كما يحلو للبعض أن يجد فيها. لكن هذه حقيقة وواقع المؤسسات الإعلامية في العالم قاطبة.
بالنسبة للإعلام السوري، طبعاً جرت ثورة إعلامية، من حيث مفهوم المواطن الصحفي، وخرج ما أسماه البعض بالإعلام البديل. لكن عندما تاتي إلى مشهد سوري، شهد ما يقارب الخمسين عاماً من الكبت والمنع والرقابة، فما بالك ما سيخرج من هذا، منتج إيجابي؟ سيخرج شيء سلبي. وهناك محاولات من بعض المؤسسات الإعلامية المعارضة، للقيام بعمل حرفي. للأسف الموضوع المهني يفتقده الكثيرون، ومنهم من يؤمنون بالثورة، وبالتالي الحديث يكون مبنياً على نفس عقلية نظام البعث، كالمقدمات الطويلة، والمفردات التي يجدها الشخص عند القراءة أو الاستماع، وعشرات المرادفات لإملاء الفراغ. كل هذا يلعب دوراً أساسياً أيضاً في تخفيف الحماس للعمل، وساعات من العمل مع النصوص والأبحاث. بصراحة، أنا لا أعتقد أن في العالم العربي، وخصوصاً في المشرق العربي، بحث علمي حقيقي. خصوصاً في مجال العلوم الإنسانية. هناك باحثون جيدون، لكن لا تتوفر لهم الفرص والإمكانيات المادية.
إعلام المعارضة، وقع في أخطاء فظيعة، هناك إعلام طائفي، وإعلام إقصائي، وإعلام ثوري. الإعلام باعتقادي، يجب أن يستخدم لغة تخاطب العقل، وليس مخاطبة العواطف. لدرجة أن بعض الناس كانت تطالب بعض الأجهزة الإعلامية المعارضة بأن تكون ناطقة رسمية باسم الفصائل المسلحة وهذا لا علاقة بالإعلام به.
طبعاً الإعلام الجديد، والمعارض، كانت تنقصه الإمكانيات. فالتمويل، في بداية الثورة، من قبل بعض المنظمات الدولية، كان لا بأس به بالنسبة للإعلام البديل، أو إعلام الثورة، ولكنه تراجع جداً، مع تراجع الاهتمام، بالمسألة السورية، وبالتالي صار هناك صعوبة جمة في إنشاء مؤسسات إعلامية مهنية، وتحترم عقل المتلقي.
من خلال عملك في “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، ما هي المواضيع والأفكار البحثية، التي تلفت نظرك، أو تراها مهمة، وخصوصاً فيما يخص القضية السورية، وترى أن على القارئ الأوروبي أو الفرنسي المهتم، أن يلقي نظرة عليها، أو يطلع عليها. هل هذا يدخل ضمن خياراتك بتفضيل بحث عن بحث آخر مثلاً؟
عملي في المركز العربي لا يقتصر على الملف السوري. نحن هدفنا الأساس، توصيل المعرفة بالعلوم الإنسانية العربية، والعكس. أو إيجاد جسر ترابطي بين الباحثين، على ضفتي المتوسط، بحيث يكون هناك احترام متبادل، وتعاون متبادل، وتثاقف، وأن تحدث نقاشات معمقة ومتبادلة. أما بالشأن السوري، هناك بعض النصوص التي كتبت من قبل باحثين أوربيين، هي هامة للغاية، وبالطبع أعيد وأكرر، أنا ضد طفولية تعريف الاستشراق، وسهولة رمي المستشرقين بالحجارة في بلادنا، نتيجة ثقافة ما. من أهم ما كتب عن بلادنا، كتبه الأجانب، للأسف الشديد. لكن هذا يجب أن يدفعنا إلى تعزيز عملنا البحثي وليس شتم الآخرين، واعتبار أن كل ما فعله هو للاستعمار، ولاحتلالنا ولتسهيل عمليات جيوشهم في بلادنا. هناك نصوص هامة خرجت عن الثورة السورية، لجون بيير فيلو Jean pierre filiu وميشيل دكلو Michel duclot وفلاديمير غلاسمان Wladimir glassman وآخرين كثر، كتبوا بشكل موثق وعلمي وعميق عن الظواهر الدينية والطائفية. توما بيريه thoms pierret كتب عن علاقة الديني بالسياسي في سوريا، من أهم الكتب التي أتمنى أن تصدر قريباً عن المركز العربي باللغة العربية. وأيضاً نحن نسعى إلى ترجمة الكتب العربية إلى اللغة الفرنسية، ونعمل الآن على عدة كتب لتعريف الفرنسيين المهتمين بالشأن العربي بالإنتاج العلمي في هذا المجال. اليوم على سبيل المثال كنت أقرأ في عجالة عما نشر عن سوريا من كتب، لا أقل من 15 إلى 20 كتاب جدّي وجميل عن سوريا، وعن الثورة السورية.
القارئ الأوروبي والفرنسي، يحتاج إلى أن نوصل له المعلومة دون ” لت وعجن” كما نقول باللغة العامية. يحتاج إلى عقلية علمية تتعامل معه، منهجية واضحة. للأسف نحن في أحيان كثيرة، نكون أصحاب حق ولكن طريقة التوصيل هي التي تفقد هذا الحق قيمته. وبالتالي هناك نصوص هامة لبعض الباحثين العرب في مواضيع اجتماعية وأنثروبولوجية بالذات، مفيد جداً أن نترجمها لفرنسية.
هل بالإمكان أن تذكر لنا أسماء مؤلفات لباحثين عرب من المهم ترجمتها إلى اللغة الفرنسية؟
من الأسماء التي تشمل مختلف العلوم الإنسانية وأغلب الدول العربية هي التالية: ناصر الجابي من الجزائر: لماذا تأخر الربيع الجزائري، نشر 2012، وعبد الله ساعف من المغرب: المعرفة التاريخية: كتابات ماركسية حول المغرب (1860-1925)، عزمي بشارة من فلسطين: الجيش والسياسة، وكتاب الطائفة، الطائفية والطوائف المتخيلة، وجمال باروت من سوريا: العقد الأخير في تاريخ سورية.