«لوجه ما لا يلزم»… العلوم والأدب والفنون في مديح اللاجدوى والفضول

علاء رشيدي

كاتب من سوريا

أما الكاتب إيمانويل جافلان، فنشر مقالة في صحيفة لوموند الفرنسية في العام ٢٠١٢ بهذا الخصوص: "بما أن الطالب الملتحق بهارفرد يدفع الأثمان الباهظة لقاء التحاقه بهذه المؤسسة، فهو لا يتوقع من أساتذته التمكن التعليمي والكفاءة التعليمية فحسب، وإنما الطاعة أيضاً. أليس الزبون دائماً على حق؟"

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

15/11/2019

تصوير: اسماء الغول

علاء رشيدي

كاتب من سوريا

علاء رشيدي

«لوجه ما لا يلزم» هو عنوان الكتاب الصادر عن دار الجديد لأستاذ الفلسفة والمفكر الإيطالي نوتشيو أورديته، الذي صدرت الطبعة الإيطالية منه في العام ٢٠١٣، والذي يحاول فيه المؤلف التطرق إلى مفاهيم دقيقة ولماحة، تتعلق بما هو “اللازم”، وما “غير اللازم أو النافل” عبر تاريخ الفكر الإنساني. مفاهيم مثل “اللزوم” و “النفول” و”الجدوى” و”اللاجدوى”، يخوض فيها هذا المفكر الخاص متنقلاً بين حقول المعرفة المختلفة من الأدب، والعلوم، والفنون، ومدارس الفكر الكبرى، بحثاً في أصول هذه المفاهيم. 

في الدفاع عن العلوم والمعارف التي لا جدوى منها

“ومن آيات الفلسفة أنها تكشف لنا جدوى ما لا جدوى منه، أو قل من آياتها أنها تعلمنا أن نميز بين معنيين لكلمة جدوى”، بهذه العبارة للفيلسوف الفرنسي بيار هادو، يقدّم المؤلف نوتشية أوردينه كتابه هذا، مدافعاً عن العلوم والمعارف المترفعة عن الغايات والمآرب العملية والربحية، معتبراً أنها تسهم إسهامات حاسمة في تطور الفكر، وفي ترقي السلوك البشري والحضارة الإنسانية.

يجد نوتشيو أوردينه أن “الجدوى”، أشبه بقاتل محترف تسيل على يديه، دون أن يرف له جفن، دماء الذاكرة والعلوم الإنسانية واللغات القديمة وحرية البحث والفنون والفكر النقدي، أي أن “الجدوى” قادرة على إنهاء كل المعارف والملكات التي تتأسس عليها الحضارة والتي يفترض أن تكون الغاية المرجوة لأي جهد بشري. 

أوفيد: لا ألزم من الفنون التي لا لزوم لها. 

يكتب المسرحي الروماني الفرنسي يوجين أونيسكو: “من لا يفقه لزوم ما لا يلزم، ونفول ما يلزم، لا يفقه من الفن شيئاً”، أما الناقد الياباني أوكاكورا كاكوزو (١٨٦٢ – ١٩١٣) فيعتبر أن الإنسان بدأ بالفن حينما اهتم بما لا جدوى منه: “فإنما دلف الإنسان إلى ملكوت الفن عندما أحسن تصريف ما لا لزوم له من فعل ومن سلوك”. بينما يكون الشاعر راينر ماريا ريلكه أكثر وضوحاً في الفصل بين الفن والمنفعة: “لا يكون الفنان فناناً حقاً إلا متى أعرض عن الحساب وعن الإحصاء. لا يكون الفنان فناناً حقاً إلا متى أشبه شجرةً لا تستعجل دوران النسغ في أغصانها وعروقها”. 

يكتب يوجين أونيسكو بالنسبة إلى حاجة الإنسانية إلى الفنون: “الشعر والخيال والإبداع أشكال من التنفس الذي لا حياة من دونه”، وقد قال الأديب البيروفي ماريو بارغاس يوسا في خطاب تسلمه جائزة نوبل للآداب: “إنّ عالماً خالياً من الآداب والفنون لهو عالم مبتور الرغبات، منزوع من المثاليات، معطل عن الإقدام، بل قل لهو عالم من الكائنات الآلية المفتقرة إلى ما يجعل الكائن البشري يستحق هذه المرتبة”.

هايدغر: ليس بالأمر السهل أن نفقه النافل الذي لا لزوم له

في القرن الرابع قبل المسيح، عالج الحكيم الصيني جوانغ زي مسألة تزاحم اللازم وما لزوم له، متأملاً ذات يوم في شجرة معمرة، قال: “لم تبلغ هذه الشجرة في سموقها عنان السماء إلا لأنها تركت لشأنها في منأى عن أية محاولة للإفادة من خشبها. كذلك الإنسان، الإنسان الإلهي، لا يبلغ هذه المرتبة إلا متى ترك لشأنه ولم يرجى منه أن يقوم بما يعود بالنفع المادي. بخلاف هذه الشجرة، مقتل كل الأشجار الأخرى هو في ما توظف له من استعمالات”. 

في العام ١٩٦٠، بانياً على تشخيص مفاده أن البشرية بلغت من الإنهزام حداً فقدت معه ذائقة الحياة، ألقى يوجين يونيسكو محاضرة قال فيها: “انظروا إلى الناس في الشوارع يهرولون بانهماك. إنسان عصرنا لا يشتبه للحظة أن (الضروري) قد يكون عبئاً لا لزوم له ولا جدوى منه. وطالما أن إنسان عصرنا لا يدرك ما ينسج من علاقة جدلية بين الضروري والنافل، اللازم وما لا لزوم له فهو يقطع الطريق بنفسه بينه وبين الفن. وإن بلداً لا يعرف فيه الفن ويكرم هو حتماً بلد أهله تعساء لا يبتسمون ولا يضحكون، بلد بلا روح، بلد يسود فيه وعليه الحنق والحقد”.

أما الأديب الإيطالي إيتالو كالفينو فقد كتب: “في كثير من الأحيان، ينتهي الأمر بما يخوض فيه البشر من نشاطات لا غاية من ورائها سوى المتعة والتسرية عن النفس، ينتهي الأمر بأن تتأتى عن هذه النشاطات نتائج غاية في الأهمية وثمرات لم يتوقعها أحد. وإن تصح هذه الرميات دون رام في الشعر والفن فهي تصح أيضاً في مجال العلوم والتكنولوجيا”، ويؤكد كاليفنو بأن الساعات التي يمضيها الإنسان في مطالعة عيون الأدب، إنما هي لوجه المتع التي توفرها لنا الآداب متع الخيال والمعرفة.

آينشتاين: لست موهوباً بمواهب خاصة، كل ما في الأمر أنني فضولي إلى أبعد الحدود

تحت عنوان «الجامعة بوصفها مؤسسة تجارية»، يقف المؤلف على ما يعتبره المترتبات الكارثية لغلبة المنطق الربحي في قطاع التعليم. ويبين نتائج الانسحاب الإقتصادي التدريجي والمقلق، للدولة من قطاع التعليم والبحث العلمي. وتحت عنوان «الطالب بوصفه زبوناً»، يستشهد المؤلف بمحاضرة قدمها الأستاذ الجامعي الكندي سيمون ليس، الذي بين أن الطلاب في بعض الكليات الكندية، باتوا يعاملون معاملة الزبائن بالمعنى الحرفي للكلمة.

أما الكاتب إيمانويل جافلان، فنشر مقالة في صحيفة لوموند الفرنسية في العام ٢٠١٢ بهذا الخصوص: “بما أن الطالب الملتحق بهارفرد يدفع الأثمان الباهظة لقاء التحاقه بهذه المؤسسة، فهو لا يتوقع من أساتذته التمكن التعليمي والكفاءة التعليمية فحسب، وإنما الطاعة أيضاً. أليس الزبون دائماً على حق؟”

زكاة العلم نشره

يرى المؤلف أن المطلوب خلال السنوات المقبلة ليس حماية العلوم والمؤسسات التعليمية مما يحدق بها من أخطار فحسب، بل حماية الثقافة، وكل ما يندرج تحت هذا المفهوم. والمطلوب هو التصدي لكل ما يتعرض له التعليم والبحث العلمي وما تتعرض له التراثيات والثقافة من محاولات إلغاء مبرمجة: “العلم ثروة لا ينتقص منها التصدق بها، نشر المعارف، كل المعارف، هو السبيل الأوحد لمدافعة منطق الاستئثار والربح”، ويتساءل المؤلف بفطنة: “هل من شيء سوى المعرفة، يمكن الواحد منا والواحدة أن يتنازل عنه بدون أن يفتقر؟ بل هل من شيء سوى المعرفة يمكّن الواحد منا والواحدة أن يغتني هو نفسه في تنازله عنه وأن يُغني؟”

يقدّ المؤلف رؤيته حول مفهوم “الحقيقة”، تحت عنوان 'من المُلك ما قتل: في الكمال الإنساني والحب والحقيقة)»، يدافع عن كون “الحقيقة” مفهوماً مستمراً، غير قابل للامتلاك بشكل كامل، يدين العديد من الديانات والإيديولوجيات التي ارتكبت المجازر تحت معتقد امتلاك “الحقيقة”. وينبّه المؤلف أنه من يستكين إلى وهم امتلاك الحقيقة وحيازتها يستغني حكماً عن طلبها، ويستغني عن محاورة الآخرين، وعن الإصغاء إلى ما لديهم من أفكار. يؤكد نوتشيو أوردينه أن الشك ليس عدو الحقيقة، بل الشك هو الحافز للاستمرار في طلب الحقيقة. 

لقد كتب جون ميلتون (١٦٠٨ – ١٦٧٤) عن “الحقيقة” في الكتاب المقدس: “تُشبّه الحقيقة، في الكتاب المقدس، بماء جارٍ، لأن الماء متى انقطع عن الجريان أَسُن وخم. كذلك قل عن الحقيقة”، ويربط جون ميلتون بين الحقيقة والحرية، فهو يرى أن حرية التعبير عن الرأي، وحرية الحوار والمجادلة، هي ما تتيح تجميع نتف الحقيقة، من هنا وهناك، وصولاً إلى الحقيقة. أما الفيلسوف الألماني ليسينج، أن قيمة الإنسان ليست بما يمتلك من الحقيقة، أو حتى ما يعتقد أنه يمتلكه منها، بل قيمة الإنسان فيما يبذله من جهد لبلوغ الحقيقة. أي أنه يجعل الحقيقة في الجهد المبذول للوصول إليها وحسب.

في مديح الفضول

«لزوم المعارف التي لا لزوم لها» وهو عنوان النص المضاف إلى الكتاب، والّذي كتبه أبراهام فلكسنر، والذي يروي فيه فلكسنر سيرة بعض الاكتشافات العلمية الكبرى مبيناً في معرض روايته كيف أن أبحاثاً علمية حُملت أول الأمر على محمل النافلة، والتي لا لزوم لها، والتي لا جدوى منها، مهّدت السبيل إلى اختراعات مهمة، من قبيل الكهرباء والتواصل اللاسلكي، وغيّرت وجه البشرية.

يثق أبراهام فلكسنر بأن معظم الاكتشافات والاختراعات الكبرى التي أفادت البشرية إنما جرت على أيدي رجال ونساء لم يولوا في ما اكتشفوه واخترعوه وجه النفع والجدوى وإنما مجرد لبوا نداء الفضول والمعرفة المجردة. فالفضول، سواء تمخّضت عنه أمور نافعة أم لم يتمخض عنه شيء، هو السمة الأبرز من سمات الفكر الحديث منذ جاليليو وبيكون ونيوتن.

وأخيراً، فإنّ كلا الفيلسوفين نوتشيو أوردينه وأبراهام فلكسنر يربطان بين الحرية والفكر، فيضربان الأمثلة من العلوم التجريبية، والرياضيات، والفنون البصرية، ومن الموسيقى، على أن الحرية أساسية للفضول، والفضول أساسي للفكر الإنساني.

الكاتب: علاء رشيدي

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع