تنقل الرواية التاريخية، المحكيّة أو المكتوبة، حوادث الماضي في سياق التجربة الشخصية للراوي، بحيث هو بطل روايته، دون وجود ضمانة تُحكم ربط الحقيقة بنص رواية بعينها. وهي إذ ذاك تعتمد في سرديتها على ذاكرة الفرد التي تصبح موضع اختبار من ناحية، وعلى موقعه من الحدث كجزء منه أو فاعل فيه من ناحية أخرى.
واختبار الذاكرة في سردها للحدث الماضي إنما هو اختبار تمثّل للواقعة على وجه الحقيقة، لكن عملية التمثّل هذه، إذ ترافقها انطباعات الماضي وانفعالاته، فهي أيضاً لا تخلو من إدراكات الحاضر وتحليلاته وأحكامه، مما قد ينقل الواقعي إلى خانة التخيّلي دونما وعي من الراوي. ففعل التذكّر بطبيعة الحال ليس عملاً بدهياً سهلاً يتناول فيه المتذكّر الحدث من صندوق ذكريات مرتب وأنيق، وإنما هو، كما يصف بول ريكور في كتابه «الذاكرة التاريخ النسيان»، فعل بحث يتجاوز مجرد استقبال صور من الماضي ونقلها إلى الحاضر. وهو مرتبط بلا شك بذات المتذكّر، وما يطرأ عليها من تغييرات، تشمل كافة جوانبها الفسيولوجية والسيكولوجية والسوسيولوجية؛ فالذاكرة بوصفها حافظة للمعلومات، تُحيل أولاً، كما يقول جاك لوغوف في كتابه «التاريخ والذاكرة» “إلى الوظائف النفسية التي يستطيع الإنسان بفضلها أن يحيّن عدداً من الانطباعات والمعلومات الماضية التي يتصوّرها منصرمة”، فهي مرتبطة بذلك “بعلم النفس، وعلم النفس الفسيولوجي والعصبي، وبالبيولوجيا”. الأمر الذي قد ينتهي بتغيّر حدث الرواية مع تغيّر حال الراوي، دون نية قصديّة منه بالتحريف أو الكذب.
وفي حال كانت ذات الراوي، جزءاً من الحدث، تتزايد احتماليات تغيّر سرديته له، فوصف الذات، أو وصف الحدث المرتبط بها، باستنطاق الآخر لها، قد يولّد شعوراً بالتهديد تحت ضغط الاستجواب، وبالتالي قد يدفع إلى إعادة بناء الفعل الماضي، في محاولة لإثبات أو نفي حضور الذات وفاعليتها في الحدث الموصوف. تقول جوديث بتلر، في كتابها «الذات تصف نفسها»: “إذا حاولت أن أقدّم وصفاً لنفسي، إذا حاولت الحصول على الاعتراف والفهم، إذن فقد أشرع بتقديم وصف سردي لحياتي، لكن قوة لا تعود لي وحدي ستغيّر مسار السرد؛ سوف اضطر إلى حد ما إلى أن أجعل نفسي قابلة للاستبدال، لكي أجعلها جديرة بالاعتراف بها.”
ولا تخلو الرواية التاريخية الفلسطينية من هذه الإشكالية، خاصة عند تأريخها لحوادث مفصلية في مسار الثورة الفلسطينية، صعوداً أو هبوطاً. وتظهر جليّة إما في تعدد الرواة الناقلين للحدث، أو في الكتابة اليومية التي يُعاد سردها أو تدوينها من الراوي نفسه، بعد سنوات لاحقة.
في كتابه «داخل السور القديم»، والذي سيصدر قريبًا عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، يقدّم الباحث الفلسطيني بلال شلش دراسة تحليلية لحالة الإثبات والإسكات التي يمارسها الراوي في الرواية التاريخية الفلسطينية، متناولاً نموذج قاسم الريماوي، وتحوّلات روايته في ظرفين زمانيين يفصل بينهما ثلاثة وعشرون عاماً؛ الأولى في تقرير له عن قوة “الجهاد المقدّس”، والذي رفعه للحاج أمين الحسيني في عام 1949. والثانية في مقالاته حول الموضوع ذاته، والمنشورة في صحيفة “الدستور” الأردنية في عام 1972. وفي كلا الروايتين ينعكس تغيّر موقع الذات تغيّراً في سردية الحدث، حيث هي في الأولى ذات المقاتل الفلسطيني في صفوف الجهاد المقدّس، بينما هي في الثانية ذات السياسي في منظومة الحكم الأردني.
يُمحّص الكتاب جميع مواطن تباين السردية التاريخية في الروايتين ضمن إطار الإثبات مقابل الإسكات، أو التأكيد مقابل التهميش، والذي هو في حقيقته إعادة قراءة للحدث ولدور الراوي فيه، وأمثلة ذلك كثيرة لا يمكن حصرها هنا، إنما نسوق منها مثالاً واحداً يُبرز مركزية الذات في الرواية، وانعكاسها عليها. ففي تقريره المكتوب في عام 1949، يروي الريماوي حادثة نقله شحنة متفجرات عن طريق جسر الشيخ حسين، فيقول: “أوقفني مأمور الجمرك في المفرق… وبعد مداولات بيني وبينهم، واتصالهم بالملك (عبد الله الأول)، أطلقوا سراح العربات، على أن أمرّ بها عبر المخاضات، ولكنّ عبور المخاضات كان متعذراً لهطول الأمطار، فلم يُسمح لي بالمرور. وبعد مجادلة عنيفة بيني وبين المسؤولين، اتصلوا بالملك، فطلب مقابلتي في مقرّه (في) الشونة، فتوجهت إليه. وبعد بحث طويل، قال لي إنّه يسمح بنقلها عبر المخاضات، ولكن ليس عبر الجسر، لأنّ الإنكليز ما زالوا يراقبونه، وهو يخشى أن يقفلوه. فغادرت القصر وأنا مُصِرّ على المرور عبر الجسر. ولمّا وصلت، فتحتُ الجسر، بعد أن سحبتُ مسدساً، وقلت لهم: “إن لم تمرّ هذه المتفجرات الآن، فإنني سأطلق النار عليها، فتنسفني وتنسف الجسر وجميع الأبنية القائمة في هذه المنطقة على بُعد عشرين كيلومتراً”. وهكذا، مرّت السيارات الثلاث بعد جهد ومراوغة، وقد كان شعور موظفي الجمرك والجنود معي.”
لكنه حين يعيد رواية الحدث في مقالاته المنشورة في عام 1972، ينقل حواره مع الملك عبد الله، فيقول: “قال جلالته: ولكنّكم تعرفون أنني متفق مع (فوزي) القاوقجي بالمرور عن طريق الشيخ حسين، وتصله الإمدادات عن طريقه، بحسب اتفاقنا. قلت لجلالته: ولكنّ الجسر مقفل، فهنالك طوفان بسبب الأمطار والثلوج. قال: حسناً، أحضروا السيارات هنا، ونحن سنتدبر أمرها، فأنا لا أريد أن يتخذ الإنكليز حجة من هذه ويغلقوا لنا الجسر، وهو المنفذ الوحيد لنا، بل هو شريان حياة لنا. قلت له: يا سيدنا، ولكن هذه متفجرات قد مضى عليها ثلاثة أيام بلياليها وهي تحت المطر، وأخشى أن تنفجر إحدى السيارات، وهي كافية لتدمير هذه المنطقة بكاملها إلى عمّان. فسكت، ثم قلت له: على أية حال إنّنا ننوي القيام بأعمال ترفع رأس كل عربي، وستسمع بها جلالتك، ومَن أولى منك بالجهاد؟ فأنت ابن بنت رسول الله، وأنا قابل أي قرار تتخذه. فسلّمت وتركته، وقبل أن أصل إلى الباب الخارجي للحديقة، وإذا به ينادني قائلاً: يا شاب، تعال. قال: إنني سأطلب من عبد القادر الجندي أن يساعد بنقلها بواسطة سيارات الجيش. غادرتُ القصر وعدتُ إلى الجسر، وقلت لقائد المخفر: لقد وافق جلالته على المرور.”
هذه الروايات التاريخية المتغيّرة بتغيّر الرواة أو بتغيّر الزمان، والتي ترويها الذات عن نفسها، قد لا تحتاج، في بعض الأحيان، إلى أكثر من امتلاك الباحث نظرة علمية ثاقبة تساعده في تشخيص علّة الرواية ومعالجتها. لكنها في أحيان أخرى تحتاج، كما يقول ريكور، إلى هيئة نقدية تكشف عن الحقيقة، باللجوء إلى شهادات أخرى لرواة أكثر أهلية أو عدالة، تخالف روايتهم الرواية المشبوهة موضع البحث. وفي الحالتين فإنّ الأمر يتطلب عملاً بحثياً جاداً يعالج النصوص ويمحّصها ويدققها. ولعل كتاب «داخل السور القديم» أحد تلك النماذج الجادة التي تُعيد النظر في السرديات المروية، وتقدّم للقارئ إجابات عن أسئلة تظل تتجدد مع كل قراءة مختلفة للحوادث التاريخية المتقادمة.