ما وراء الخير والشر عند نيتشه

منى عوض الله

باحثة من فلسطين

ختامًا، سواءً قبلنا ما جاءت به فلسفة نيتشه أم رفضناه، لا بد لنا أن نعترف على الأقل بأسبقيتها في التأصيل للأخلاق، وإدخالها عنصر القيمة كركيزة تنطلق منها لتكشف لنا ما وراء التقييمات الأخلاقية المسلّم بها، فلا يعود السؤال حول "ما هي الأخلاق؟"، وإنما ما هي قيمة هذه الأخلاق؟ وماذا نريد منها؟

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

23/04/2020

تصوير: اسماء الغول

منى عوض الله

باحثة من فلسطين

منى عوض الله

ومحررة في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" ضمن مشروع بحث وتوثيق القضية الفلسطينية.

على خلاف من سبقوه من الفلاسفة، لم يكتفِ الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه بالمرور العابر على ظاهر الوقائع الأخلاقية في إطار محيطه وزمانه وموقعه، بل عمد إلى سبر أغوارها، والبحث في تاريخها وأصل نشأتها، ومقارنة أنماطها، وتفكيك مفاهيمها وقلبها. ولا غرابة، فهو اللغوي الخبير، ومؤسس المنهج الجنيالوجي في تحقيق النصوص، قبل أن يكون فيلسوفًا. مما يعني أنّ بحثه في الأخلاق ليس بحثًا تأصيليًا فحسب، وإنما هو قلب جذري للقيم بصورتها الراهنة، وتخليص لها من تصورات وتحكيمات وتأويلات طمست معالمها الأولى، وفي هذا يقول عن نفسه: “لا تؤاخذوني لأنني، وأنا فيلولوجي عتيق، ما زلت أزاول هوايتي الخبيثة، وأضع الإصبع على الجرح بكشفي فنون تأويل رديئة”. فكان هذا أول سهامه المصوّبة تجاه الفلاسفة السابقين، إذ إنّ ما يدّعونه “تأسيسًا للأخلاق” إنما هو استقصاء اعتباطي، و”ضرب منمق من طيب الإيمان بالأخلاق السائدة، ووسيلة جديدة للتعبير عنها”.

تناول نيتشه في فلسفته العديد من الموضوعات المتعلقة بالفعل البشري الأخلاقي واللاأخلاقي، فنقد الإرادة الحرة، وقال بتراتبية الناس وتراتبية أخلاقهم، ونقد المساواة، وأثبت تناقض الخير والشر، وتضاد أخلاق السادة وأخلاق العبيد، مرسخًا بذلك منطلقات فلسفته الرئيسة القائمة على إرادة القوة والتفوق الإنساني المستمر، ومتجاوزًا تصنيفات الخير والشر باعتبارات قيمة الفعل المرتبطة بنتائجه أو مقاصده، ليقفز بفلسفته إلى ما وراء الخير والشر، ويبشر بإنسان المستقبل المنشود. 

يرفض نيتشه في فلسفته حصر المنظومة الأخلاقية للمجتمع في نمط واحد ووحيد من الأخلاق، بحيث تقتصر على تلك التي هي على شاكلة غرائز التراحم والإنصاف والرفق وتبادل العون، وهي أخلاق القطيع التي صارت تُسمى خيرًا، بل والخير الوحيد. ويطالب بإعادة الاعتبار إلى الأخلاق الفردية التي باتت تُسمى شرًا بعرف العامة، موضحًا أنّ هذه الحال التي صارت إليها التقييمات الأخلاقية إنما هي وليدة الخوف الذي قاد إلى استهجان غرائز الإقدام والجرأة والانتقام والمكر، وما شابهها من صفات، بحيث اعتُبرت غرائز خطرة، فاستُبعدت وأُقصيت وسُمّيت شرًا؛ “كل ما يسمو بالفرد عن القطيع، كل ما يبثّ الخوف إلى القريب، يُسمى منذ الآن شريرًا”.

يدعو نيتشه إلى مراعاة التراتبية بين الناس، وبالتالي تراتبية أخلاقهم، فما يُعّد فضيلة بالنسبة إلى أحدهم قد يكون رذيلة بالنسبة إلى آخر (نظرًا إلى رتبته ومكانته ودوره في المجتمع)، يقول: “إنّ ما يصلح غذاءً ورحيقًا للنوع الأعلى من البشر، يجب أن يكون بمثابة سمٍ لنوع مختلف جدًا وأوضع”. ويذكر مثالًا على ذلك فيقول: “لنأخذ على سبيل المثال إنسانًا قُدّر له أن يأمر، وجُبل على ذلك، فإنّ نكران الذات والانكفاء المتواضع لن يكونا بالنسبة إليه فضيلة، بل سيكونان هدرًا للفضيلة”. ونتيجة لهذه التراتبية هو يقول بأخلاق السادة وأخلاق العبيد، ففي حين يجلّ السادة في أخلاقهم كل ما هو قاسٍ وصارم، ويكنون الاحترام لذواتهم، ويتمسكون بفضيلة القدرة والصدق والإكرام وسمو النفس وشموخها، فإنّ العبيد يكرمون “التراحم، واليد اللطيفة المسعفة، والقلب الدافئ، والصبر، والاجتهاد، والخنوع، واللطف”. وفي حين يشرّع السادة أخلاقهم ويخلقون قيمهم، فإنّ العبيد منساقون إلى تزيين تلك الصفات التي تخفف عنهم عبء الوجود وألمه. وفي حين أنّ أخلاق السادة هي أخلاق قدرة، فإنّ أخلاق العبيد هي أخلاق منفعة، ومن ثم فإنّ ما يثير الحسن من وجهة نظر السادة، يثير الخوف ويشكّل خطرًا من وجهة نظر العبيد.

ويقبل نيتشه بالمساواة فقط بين أولئك الذين يتماثلون في مقدار القوة ومقياس القيمة، والمجموعين ضمن جسم واحد، أي من كانوا في رتبة واحدة؛ فكل رتبة من الناس تمثّل جسمًا مستقلًا، يتساوى أعضاؤه/ أفراده بينهم، بينما يتمايزون عن غيرهم ممن هم في رتب أقل شأنًا، والتي تمثّل أجسامًا أخرى، يقول: “إنّ ذلك الجسم الذي كما سبق وفرضنا يتعامل الأفراد ضمنه سواسية، ويحدث ذلك في كل أرستقراطية سليمة، عليه هو نفسه، إن كان جسمًا حيًا ومتحضرًا، أن يقوم هو الآخر إزاء الأجسام الأخرى بكل ما امتنع عنه الأفراد ضمنه في مخالطة بعضهم بعضًا: لا بد له من أن يكون إرادة القدرة المتجسدة”، وما عدا ذلك تصبح المساواة مبدأً لانحلال المجتمع وانحطاطه.

وخلاصة القول، إنّ اختلاف القيم بين الناس، وعدم اتفاقهم عليها، إنما هو، كما يرى نيتشه، دليل على اختلافهم وتراتبيتهم، وعلى اختلاف الخير بينهم وتراتبيته، ومن الخطأ تعميم نمط أخلاقي واحد على الجميع. وإنّ تطوّر الإنسان من العادي إلى المتفوّق منوط دائمًا بالسادة الأرستقراطيين النبلاء، وما يسعى إليه هؤلاء السادة من إقرار لأخلاق القادرين هو ما يقود في نهاية الأمر إلى إعلاء الإنسان وتغلبه على ذاته بصورة مطّردة، ومن ثم يمكّننا أخيرًا من استخدام صيغة أخلاقية بمعنى فوق أخلاقي.

أما ما هو فوق أخلاقي، أو ما وراء الخير والشر في فلسفة نيتشه، فهو ما كان نابعًا من إرادة القدرة التي تمثّل الغريزة الأساسية للكائن الحي وغاية أخلاق السادة، وهي تشكّل منطلقًا للفعل الأخلاقي مع الفئات الأقل رتبة كذلك. ولا يقتصر الأمر هنا على الغرائز الفردية التي تمتاز بها أخلاق السادة، بل ويندرج في هذا السياق الغرائز التي هي على شاكلة الرحمة والتعاطف والعفو ونحوه، من حيث هي فائض للقدرة. وتتمثل متعة هؤلاء السادة بالسبعية (التلذذ بالألم)، فما “يقع في النفوس موقعًا عذبًا في حضرة ما يُسمى بالتأثر التراجيدي، وأصلًا في حضرة كل سامٍ، صعودًا إلى أعلى ارتعاشات الميتافيزيقا، وأكثرها رقة، لا يستمد عذوبته إلا مما يشوبه من سبعية”. وهذه السبعية تمثّل إرادة الروح الأصيلة التي تلتذ بكل حيرة والتباس.

 وكملمح آخر لما وراء الخير والشر، تقرّ فلسفة نيتشه باللاحقيقة شرطًا للحياة في مقاومتها لما اعتدنا عليه من مشاعر قيمية، إذ ترفض جميع الأحكام التي تم ربطها بأوهام منطقية مختلقة ومزيفة، مثل الأحكام التأليفية القبلية التي قال بها كانط، وتفترض خطأها، منطلقة من سؤال “إلى أي مدى يكون الحكم منميًا للحياة، محافظًا على الحياة، محافظًا على النوع، بل ربما محسنًا للنوع؟”. كما وترفض ربط قيمة الفعل بنتيجته أو قصده، فقيمة الفعل الحاسمة تكمن في لاقصديته، وكل ما هو قصدي و”كل ما يُرعى ويُعرف ويوعى منه ينتمي بالأحرى إلى سطحه وقشرته التي شأنها شأن كل قشرة تبوح بشيء وتستر أشياء”، أي إنّ القصد مجرد رمز وعارض يظهر بظهور الحاجة إلى التأويل، ويدل على أمور كثيرة متنوعة، ومن ثم فهو يدل على لا شيء تقريبًا. كما أنّ تلك الأخلاق القصدية إنما هي ضرب من التهور، “وربما شيء مؤقت”، فلا بد من تجاوز الأخلاق لذاتها، باعتبارها محكًا للنفس وحكمًا عليها. 

ختامًا، سواءً قبلنا ما جاءت به فلسفة نيتشه أم رفضناه، لا بد لنا أن نعترف على الأقل بأسبقيتها في التأصيل للأخلاق، وإدخالها عنصر القيمة كركيزة تنطلق منها لتكشف لنا ما وراء التقييمات الأخلاقية المسلّم بها، فلا يعود السؤال حول “ما هي الأخلاق؟”، وإنما ما هي قيمة هذه الأخلاق؟ وماذا نريد منها؟

الكاتب: منى عوض الله

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع