المتحف (قصة لهند شريدة)

RUBA SALAMEH

رمان الثقافية

مجلة ثقافية فلسطينية

ثلاثة أشهر وثلاثة أيام، وخالد يواصل عناده، وإصراره على الحياة، وشاوول يحاول بكل الطرق نأيه عن ذلك، وتعذيبه، حتى أمسكه ذات مرة من خصيتيه اللتين تجرأتا على صناعة المجد، وشدّ عليهما في يديه، مع شتم للميس وما في أحشائها.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

10/01/2020

تصوير: اسماء الغول

رمان الثقافية

مجلة ثقافية فلسطينية

رمان الثقافية

تحسس نتوءات الطوب البارزة بيديه اليانعتين، وأطال النظر في صورة قديمة تعتلي الحائط الخشن بإطار نحاسي يتناسب مع تصميم المتحف. أسيران شاحبان يرقدان على أسرّة طبية، يبدو أنهما متألمين، واحد يصك أسنانه على شفتيه من الوجع أو البرد، وآخر فاتح فاه كمن يستغيث بالطبيب طلباً للرحمة. طلب الصغير من جده أن يقرأ له ماذا تحويه بطاقة الشرح أسفل الصورة، فهمّ الكهل بقراءة بطيئة “الأسيران عبد الله هلال، وقسام محمد، يعانيان من مرض عضال، ويقبعان في مستشفى الرملة لأخذ العلاج ومداواتهما بحبّة “أكامول” كما جرت عادة قوات الاحتلال الاسرائيلية في التعامل مع الأسرى آنذاك! تقرّب الجد أكثر من اللافتة مصوّباً عينيه نحو المكتوب، وعقد حاجبيه لفك شيفرة الخط الصغير، ومن ثم تابع القراءة، “وقد كان الأسرى يطلقون كلمة “المسلخ” على مستشفى الرملة، لعدم أهليته لتأمين العلاج اللازم لهم”. 

صمت الجد لدقائق، وصحح مَيَلان القبعة على رأسه. دقائق فقط كانت كفيلة لاسترجاع شريط من المشاهد المألوفة لديه والمحفورة في وعيه. تابع الزائران المشي في إحدى الدهاليز، مرّا بالقرب من مجسّم عريق، مشبع بالتفاصيل، نظر الصغير الى الصفيحة المعدنية، وإذ منقوش عليها بشكل بارز “متحف كيلمنهام غاول في بريطانيا والذي أعيد افتتاحه عام ١٩٧١ بعد أن كان سجناً لتعذيب الثوار الإيرلنديين. والجدير ذكره مساعدة الإنجليز في تصميم سجن جلبوع على منوال سجن كيلمنهام غاول.”

جولة أخرى في الطابق الأرضي، ممرات ضيقة للغاية، غرف صغيرة، لا تزيد عن مترين في مترين، يدخلها الزائر بشكل منفرد، ليستمع صوتياً الى تجارب التعذيب الفردي في الزنازين. خطا الجد خطوة باتجاهها، تفحّص الغرفة الثانية جيداً من الخارج، تسارعت أنفاسه، وتعرّقت يداه على نحو بدا لزجاً ودبقاً للصبي الصغير، لدرجة سحب يده من يد جده، وأخذ يمسح كفه بكنزته الصوفية الزرقاء، تلك التي نسجتها له جدته لميس. تراجع الجد خطوتين الى الوراء، وكأنه يتجنب الدخول الى أي منها، وأعاد مسك يد حفيده الصغير “خالد” نحو قسم آخر.

– لم لا ندخل يا جدي، أود أن أجرب السماعات الغليظة على أذني، إنها فرصة لا تعوّض، فالطريق الى هنا بعيدة للغاية، لا نعرف متى سنأتي مرة أخرى، والمتحف غير مكتظ أبداً.

أومأ الجد برأسه، كمن يُقلّب إجابة حكيمة في حيرة منه، وأوعز للصغير بالذهاب لسماع قصة عن أسير ما كان يقبع في إحداها، متحججاً بأنه بحاجة إلى بعض النيكوتين. رجا خالد جده أن يذهب معه، وأن يشاركه التجربة، ولكن العجوز فضل الاعتذار والتبرير، معللا زيارته للمتحف من قبل، وسماع القصص ذاتها، ولم يخبر الصغير الشغوف بأكثر من ذلك.

أحسَّ الجد بعويل يتحرش روحه كلما سمح للذكريات بأن تعشعش في رأسه. كانت هذه الزنزانة نفسها التي نفي اليها، وبقي فيها ٩٣ يوماً، عندما عوقب فقط لرغبته في مواصلته الحياة.

صعد الدرجات حتى وصل الى الباب، وعليه إشارة “مخرج”، ضربته أشعة الشمس، فتذكر اليوم ٩٤ بعد العزل، عندما خرج إلى الغرف، وسُمِحَ له “بالفورة” فشعر بحرارتها تشحن خلاياه. لم يفكر أبداً أنه سيشتاق يوماً إلى الشمس، وأن المحظوظ ابن المحظوظة فقط من يستدفئ بها. تنفس عميقاً. لا بد أن المتحف أزّمه كثيراً، أشعل سيجارة وتمتم بينه وبين نفسه، بدت وكأنها شتائم، رأسه المستظل تحت قبعته يحمل مشاهداً أكثر دقة من كل هذه الصور والشرح الذي يختزل حياة معاشة بالكامل، مشاهد ما زالت معلقة على جدران قلبه، لا تمحى حتى بعوامل الحتّ والتعرية التي تكتنف سنين العمر، تبقى قابعة جاثمة ومعتقة، وجاهزة دوما للاستثارة والإعادة.

استمر تدفق سيل كامل من المشاهد وهو يحرق سيجارته، حتى وصل يوماً بارداً من أيام شباط القاسية.

خالد: اليوم تحلايتكم عليّ.

فخر: شو بدك تحلينا؟ شعيرية بسكر كمان مرة؟ خاف الله يا رجل. بكفينا وجع معدة، كمان حزاز!

تدخل حافظ: شو المناسبة صفّاوي؟

خالد: اليوم التحلاي بلّوزة. كنت مخبي علبتين جيلو من أيام الخير لهالمناسبة. ومن اليوم بطلناها صفاوي هاي. 

لمعت عيناه، واحتفى بنصره قائلا: من اليوم وطالع بتنادولي أبو المجد. 

حافظ: شو بتحكي؟ والله وعملتها؟ كف لأبو المجد رفاااااق.

هتاف علا القسم في تمام الثامنة مساء، تصفيق وضجيج تبريكات.

ضياء: والله إنك فحل يا رفيق.

ضحك ضياء حتى خشخش صدره وامتلأ بالبلغم، تبعته موجة سعال حادة. 

ضياء: والله الرطوبة رح تموّتني.

مهند: ما حد رح يموّتك إلا الدخان والقهوة وأغاني الشيخ إمام اللي بتضلك تشحن حالك فيها. 

ضياء: بس هيك خبر، رح يموّتني فرح. تحرمونيش هيك شهادة بتفش القلب! على راسي أبو المجد.

خالد: والا شو؟ بعملها وبعمل أبوها كمان.

مهند: بس كيف عرفت؟ 

خالد: هلا اتصلت لميس على الراديو وبعتتلي سلامات منها ومن مجد. 

ضياء: بلكن مجد ابن أبو ظافر فلنة، تبع البقالة اللي عندكم بصفّا.

خالد: ولك انت ما بتعرف لميس. كان صوتها برنّ، مع إنو الراديو بوِشّ ويا دوبك الموجة لاقطة، بس وحياتكم سمعته برنّ رنّ، كإني كنت شايف ابتسامتها قدامي. ولك مهند: هات الطبلة.

تجمع الرفاق في الغرفة، أربعة يعتلون الأبراش، واثنين متكئَين على بساطتي صلاة، مع وعاء بلاستيكي أخضر للتطبيل عليه. بدؤوا بالتهليل بصوت متين: “اشتقتُ اليكِ اشتقتُ اشتقتُ وما أخّرني.. إلا حراس الطرق إليك، إلى وطني ..آآآآآآه كم يحضرني الحب لوجوه أعرفها، كم تقطعني المسافااات ولا أقطعها.. إذا وضعوا في الدرب حواجزهم، لكنييييي سوف أقطعها”. 

وما إن أكملوا حتى جاء السجان جلعاد الأقرع، بهامته المتكورة، وصوته المزعج مع تمتمات أشبه بالشتائم. 

“شيكت أسيريم، شيكت.” 

رجع كل واحد إلى برشه سوى طارق وخالد، اللذين افترشا الأرض، بالرغم من البرد القارس، والرطوبة المتغلغلة في الحائط الخشن.

خالد: ولك طارق، زبطت متخيل شو زبطت. هذا انتصار، احنا عم نصنع حياة من جوا السجن.

طارق: طول عمرك وانت هارينا تنظير، والحب للشجعان. أخريتك تهرّب ٧ مليون رفيق هيك دفعة وحدة. خف علينا أبو المجد.

طارق: بتعرف رفيق؟ زمااان ما شفتك فرحان هيك، بؤبؤ عينك قادح شعلة نار، عم برقص.

رفع طارق سبابته بالهواء، وأخذ يدندن: “دار الفلَك، في مغزَلك.. طووول السنين ما أمهلك.. يا ناسج الروح في الحياة”. فأكمل خالد معه: الحُب لك والخُلد لك.. والمُلك لك والمجد لك”.

طرق الأقرع الحديد: قلنا شيكيت أسيريم أو بتقضوها بالزنازين.

**

جاء موعد الزيارة المرتقب بعد أربعة أشهر من الإضراب، خاض فيها ٢٤ أسيراً في سجن جلبوع معركة الأمعاء الخاوية، كان خالد واحداً منهم. كانت شهور ثقيلة، ندد فيها الأسرى بالاعتقال الإداري، معلنين مقاطعتهم للمحاكم الجائرة، ومنع الزيارات عنهم، وإنهاء سياسة العزل الانفرادي، وتوفير وسائل تهوئة وتدفئة داخل الغرف. فقد عانى الأسرى من سياسة الإهمال الطبي، فقد نُقِلَ رفيقين من الجبهة، وثلاثة من فتح، وخمسة من حماس، وشبلَيْن الى مستشفى الرملة لتسكين آلامهم بحبة أكامول، وتبيّن بعد أشهر أن أمجد الجعبري من الخليل ومحمد منصور من اللد مصابين بسرطان الدم وسرطان الدماغ، وهما يسيران إلى حتفهما بصمت، بدون تقديم علاج مناسب لهما، كما أن العشرة الآخرين يعانون من أمراض مزمنة تتراوح بين الحصوة، والتهاب في القولون، مع وجع أسنان حاد، ونوبات النقرس العسيرة من كثرة البقوليات التي يتجرعها الأسرى في وجباتهم الثلاثة. 

بدأت الرحلة صباح الأربعاء من الخامسة صباحاً، أمام مقر الصليب الأحمر. روج أحمر، وقميص أبيض فضفاض، مع بنطال أسود، شعر أملس، تماماً كما يحبه خالد. جلبت بعض الملابس الداخلية، وأشبعتهم بعطر سكاندل الذي يحب أيضاً، مع بعض الخباثة منها لاستحضار قارورة العطر وغطائه المثير، تعتليه ساقين مفتوحتين الى الأعلى، في دعوة مفتوحة منها لممارسة الحب، وهي واثقة “بالفضيحة” التي ستعشعش رأس خالد حالما يشتمّ الشباحات الجديدة.

أخذت لميس كامل الحيطة لعدم كشف أمرها، فقد تكون هذه الزيارة الأخيرة لها قبل الولادة، وعليها أن تحرص جيداً، أن لا يشك بها أحد، لكي تمشي الزيارة على أكمل وجه، وترى الفرحة بأعين خالد.

“ستكون رحلة صعبة لحامل في شهرها الخامس. لا بأس، لا يهم.”

باص الصليب المكتظ بالعائلات، وجوه مألوفة تسأل عن بعضها البعض، وتطمئن. أطفال يحملون أسماء مدن فلسطينية، تستطيع سماع اسم حيفا، وبيسان، ويافا، حتى أن هناك طفلة رضيعة تدعى فلسطين. غريب كيف تصبح الأسماء برمزيتها الذخيرة الوحيدة للتمسك بالوطن ببساطة. بعض الوجوه متوترة من احتمال إرجاع الأغراض التي تحملها للأسير من كتب وغيارات، وغيرها من اللوازم الشخصية. ولكن ما يجمع جميع الذين في الباص أنهم متجمّلين وفي أبهى حُلّة، كأنه عيد.

وصلت الحافلة تحت إجراءات أمنية مشددة. تفتيش أول، وثانٍ وثالث، تحاول خلاله لميس الحفاظ على مظهرها. دخل الجميع القاعة المليئة بالزجاج، والهواتف السلكية الملتوية، اتخذ كل واحد مكانه في انتظار أبنائهم وزوجاتهم. ثم اعتلى الضابط شاوول غرفة التفتيش الداكنة. شغل الآلات البغيضة للتنصت على المكالمات وتسجيلها. 

خالد: بتعرفي إنك حليانة؟ 

لميس: طبعاً مش صرت تو إن وون، أنا ومجد.

وما إن وضعت يدها على قميصها، ليطلّ تكوّره الصغير، وإذ بشاوول يصيح من غرفة التحكم، وقد جنّ جنونه لهول ما سمع ورأى. 

استشاط شاوول غضباً معيداً “يا قحبة.. عملتوها من وراي”. وفي الحال أوعز للحراس بإنهاء الزيارة في أول دقيقتين وسط جلبة وصراخ الأمهات والآباء والزوجات والأسرى وخوف الأطفال الشديد من هول المشهد.

أمسكت مجندتان ذراعَي لميس، وساقتها الى الخارج، واقتحمت وحدة القمع المتسادا صفوف الأسرى في ضرب وحشي لهم، واستهداف غليظ لعظامهم. وخالد يصيح: اتركوهما.

وُضِعَت لميس بمعزلٍ وحدها لغايات التحقيق، ولم تنبس ببنت شفة بالرغم من أسئلة المحققات والمحققين لها، موجهين لكماتهم “لابن الحرام” في أحشائها، ويديها المعصوبتين وراء ظهرها، حتى أفرجوا عنها مع بضع كدمات ومنع أمني من الزيارة.

أما خالد، فقد وضع في زنزانة انفرادية بقرار من المخابرات، ومورست معه جولات من التحقيق، عومل جسده خلالها كمنفضة سجائر للضباط الذين توالوا على التحقيق معه، وشبحه، وحرمانه من النوم. أما شاوول، فقد كان يستلذ بتوجيه الشتائم للميس، وعن نيّته لمضاجعتها طوعاً مقابل عدة شواقل رخيصة.

ثلاثة أشهر وثلاثة أيام، وخالد يواصل عناده، وإصراره على الحياة، وشاوول يحاول بكل الطرق نأيه عن ذلك، وتعذيبه، حتى أمسكه ذات مرة من خصيتيه اللتين تجرأتا على صناعة المجد، وشدّ عليهما في يديه، مع شتم للميس وما في أحشائها.

**

إجراءات أمنية أكثر شدة من قبل، وتحقيق مفتوح حول تهريب نطف الحياة، والقبض على أي احتمال لعيشها. محاولات لفك شيفرة التخطيط ابتدأت بتحليل الرسائل الملغومة التي كانت تصل خالد.

“حبيبي.. مبارك لنا المجد”. 

أمسك شاوول الرسالة، وتفحصها جيداً أمام خالد في غرفة التحقيق، قلّبها، لا يوجد حبر سري أو ما شابه. فقط التاريخ واسم المرسل، وتلك الكلمات.  

“زي هوو”.. أربع كلمات فقط لهذا الإرهابي! من إيمتن يا ست لميس؟

رسالة جديدة، فتحها شاوول ببطء أرعن والشعر يأكل ذقنه.

“حبيبي، مبارك لنا المجد مرّة ثانية وثالثة ورابعة ومئة وواحد بعد المئة.  ننتظرك، لميس”

أمسك الرسالتين، وهمس في أذن خالد، وهو جالس على الكرسي: “هل تعتقد أيها المسخ أنك تصنع المجد بتهريب نطفك العاقة؟”

قطع عليه المشهد بكاء الصغير خالد، الذي كان يركض نحوه بعينين مثقلتين بالدمع.

فجع الجد من هول ما رأى، وحضنه بقوة: “ما بك”؟

“خفت أن تكون قد تركتني.” رد الصغير وسط بكائه. 

تسمرت عينا الجد في وجه خالد الصغير وحضنه مرة أخرى بقوّة أكبر. 

“ولا مرة يا نور عيني. تعال لنرجع الى صفّا، فرحلتنا طويلة، ولا بد أن بابا مجد بانتظارنا الآن.” 

 

هذه القصة القصيرة هي نتاج لإحدى ورشتي الكتابة، ورشة قصص أريحا القصيرة التي تمت في خيرف ٢٠١٨، وورشة قصص رام الله القصيرة التي تمت في صيف ٢٠١٩، بإشراف عدنية شبلي وبمبادرة من المؤسسة الثقافية لبنك الإعمار الألماني في فرانكفورت، وبالتعاون مع معهد جوته في رام الله.

هوامش

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع