الجدة سانتس كانت فقيرة للغاية، وكانت تعيش رفقة ابنتها كاثرين وحفيدها ألبير. جعل الفقر المدقع السيدة سانتس تتصرف بشيء من الغلظة والحزم مع حفيدها ألبير، ومن أوجه تلك القسوة، الفحص اليومي الذي تجريه على حذاء حفيدها المهووس بلعب كرة القدم أكثر من أي شيء آخر. فحالما يعود ألبير من مدرسته تقوم الجدة بفحص الحذاء، لترصد أي إساءة في الاستخدام من قبل ألبير.
ألبير بدوره، لم يكن ولدًا شقيًا، كان يعرف أن أمه تشقى كثيرًا وتعمل حتى التفسخ لتجني ما يكفيها للصرف على أسرتها، كانت عاملة نظافة، مهنة لا تدر الكثير من الدخل، لكنها كانت كافية لتستمر العائلة. ألبير، توصل لحل وسط، فهو من جهة لا يستطيع أن يهجر معشوقته كرة القدم، ومن جهة أخرى لا يستطيع أن يركض كثيرًا ويذيب نعل حذائه في أرضية الملعب وتسديد الكرة والالتحام بأقدام اللاعبين الآخرين، لذلك، ولذلك فقط، اختار ألبير أن يكون حارس مرمى! يعتمد على يديه وقفازيه أكثر من اعتماده على ساقيه وزوج من الأحذية.
هذا هو الحل الذي تفتق عنه ذهن الصبي ألبير كامو (1913 – 1960) والذي سيصبح لاحقًا أحد أعلام الرواية والفلسفة في العالم، ليرضي السيدة سانتس من جهة، وليرضي شغفه بالكرة من جهة أخرى. يقول كامو عن كرة القدم: “تعلمت أن الكرة لا تأتي أبدًا نحو أحدنا من الجهة التي ينتظرها منها”. وانتظار شيء لا يحدث هو العبث بعينه. لقد اختار ألبير كامو حلًا عبثيًا لمشكلة عبثية، اختار من بين 11 مركزًا في الميدان، المركز الذي صُمّمت كرة القدم خصيصًا من أجل اختراقه وانتهاكه: حراسة المرمى.
في كتابه «كرة القدم بين الشمس والظل»، كتب الأورغوياني إدواردو غاليانو (1940 – 2015) عن الأديب الفرنسي الجزائري: “في 1930 كان ألبير كامو هو القديس بطرس الذي يحرس بوابة مرمى فريق كرة القدم بجامعة الجزائر. كان قد اعتاد اللعب كحارس مرمى منذ طفولته (…) وخلال سنوات ممارسته لحراسة المرمى تعلم كامو أشياء كثيرة (…) أن يكسب دون أن يشعر بأنه إله، وأن يخسر دون أن يشعر أنه قمامة، وهذه حكمة شاقة. كما تعلم بعض أسرار الروح البشرية، وعرف كيف يدخل في متاهاتها، في رحلات خطرة على امتداد كتبه”.
اللجوء للحل الثالث
ومن بين أخطر دهاليز ومتاهات الروح البشرية التي نجح كامو في اقتحامها، مسألة وطأة اللحظة الراهنة، والحضور المادي للشخص والبيئة من حوله، وتأثير ذلك في تفكير الإنسان وقراراته وانفعالاته وأفعاله التي هو مسئول عنها، وهذا لا يجعلنا نصنفه كوجودي أبدًا، لأن كامو نفسه أكد أكثر من مرة بأنه لا ينتمي للوجودية، التي تنشغل بتعريفات الوجود والجوهر وأيهما أسبق للآخر في حين تقر عبثية كيرجارد وكامو بأن الحياة بلا معنى، وأن محاولة إيجاد معنى لها ستضع الفرد في صراع وعداء معها نظرًا لأنه يطلب منها ما ليس موجودًا فيها، وانتهت إلى أن ثمة حلول ثلاثة فقط للتعامل مع معضلة الوجود العبثي: أولاً الانتحار وإنهاء اللعبة. وهو تكليل عبثي لحياة بلا معنى. أو ثانيًا الإيمان، أي نقض فكرة العبث، وهو مثلًا الحل الذي تقترحه الأديان الإبراهيمية: هدف ومعنى الحياة هو تنفيذ أوامر الخالق لنحظى بحياة أفضل ثم نحظى بالتكريم بعد الموت. وأما الخيار الثالث فهو: تقبّل العبث والتعايش معه وتفهم أن هذا الوجود منذ لحظة الميلاد وحتى الموت ليس سوى رحلة بلا معنى وربما عليك أن لا تأخذها على محمل الجد، وهذا بالضبط ما آمن به (ميرسو) بطل رواية «الغريب».
كان ميرسو متبلد المشاعر تقريبًا، وهذا منح كامو الصلاحية ليصعق القارئ بهذه الافتتاحية الخالدة على لسان بطله: “اليوم ماتت أمي، أو ربما ماتت البارحة. لست أدري”. ميرسو، وحتى أثناء حضوره لجنازة أمه التي قضت نحبها في دار للمسنين، لم يبدِ أي قدر من مشاعر الحزن ولو مفتعلة، ولاحقًا التقى صديقته وخرج مع أصحابه وواصل حياته بإيقاع طبيعي.
بنفس هذه العادية، ودون أي مبررات، وكذلك دون أي اكتراث للعواقب، وعلى اعتبار أن الحياة رحلة عابرة تشبه تذكرة يقطعها الإنسان لركوب لعبة مرعبة في مدينة الملاهي، أقدم ميرسو على قتل مواطن جزائري، بلا أدنى مبررات، بل إنه هو نفسه كان قد حذر أحد أصدقائه الفرنسيين من قتل الجزائري: “إنه لم يقل شيئًا حتى الآن، وسيكون من العار أن تطلق النار عليه هكذا”. ولكن بعد أن يتشاجر العربيان مع الفرنسيين، وبعد أن ينفض الشجار، يعود ميرسو لمكان العراك للتنزّه، ويجد العربي هناك، وبدون أسباب يطلق النار عليه فيرديه قتيلًا، ثم يعقبها بزخة أعيرة نارية أخرى. ولاحقًا يبرر ببرود ولا معقولية فعلته أمام المحكمة بتأثير اللحظة الراهنة، “إنها الشمس”، لقد أثرت في مزاجه، ولفحته وجعلته يفعل ما نهى عنه صديقه قبل دقائق.
لم يكترث ميرسو للدفاع عن نفسه، وكانت إجاباته تقتصر على الرد بنعم أو لا، واضطر مكرهًا أن يقابل رجل دين دعاه للتوبة والمحبة والإخلاص، بالطبع ميرسو العبثي لم يكن مستعدًا للإيمان بغيبيات. كانت فترة السجن والمحاكمة التي تشكل الجزء الثاني من رواية “الغريب” تجسيدًا فنيًا رائقًا للعبثية وغزلًا دراميًا يحفر عميقًا في أغوار النفس البشرية، كما أشار إدواردو غاليانو في حديثه عن كامو. وكما قال حارس المرمى رأيه في الكرة التي تأتي من جهات غير متوقعة، جاءت الطلقات في جسد العربي من الشخص غير المتوقع، والشخص الأقل تورطًا في الشجار، ليجسد عمليًا كيف أثرت كرة القدم في أدب كامو وأفكاره.
فيديو نادر لألبير كامو يتحدث عن كرة القدم والأدب جالسًا بين الجمهور في أحد ملاعب فرنسا
www.youtube.com/watch?v=ptwFwf6EmBs