لا زهور
لمن يقول:
“أنا متعبٌ من الأطفال.”
باشو. هايكو
ينقسم العالم بين أولئك الذين يعيشون مع أطفالهم وأولئك الذين لم ينجبوا: العالمان لا يتقاطعان على الإطلاق: بين من يحيا وتستعبده فكرة واحدة، وبين من يحيا تائهاً حراً أبياً. في القرآن الكريم، كلمة العالمين جمع، ولا نعرف بالضبط أي العوالم مقصودة: عالما الجن والإنس سحرا المفسرين الأوائل. عالم الآباء (اللفظ العربي يشمل الأمهات) منقطع الصلة عن السياسة والأرق والاكتئاب والأبحاث والسهرات والوحدة: عالم يخرج عن كل ذلك، ليبقى عالم الأطفال وحده الأصلي، وحده الحقيقي: كالرياضيات في فكر فيثاغورث وفي كتاب الطبيعة الحديث. أصعب العلاقات هي بين العالمين. التواصل مستحيل تقريباً. نسمع أحياناً من يتذمر من الأطفال: لا نأخذهم بجدية في عالمنا، نتركهم يعمهون. بين الشباب في العشرينيات وفي الأوساط المثقفة تكثر السخرية من الأطفال. أحياناً، نتنبّه لهم، ويجرحنا الأمر: الشيء الوحيد الذي لا يتسامح فيه الآباء هو تلك السخرية. الآخرون يعرفون ذلك، ولكنهم لا يفهمون بالضبط معنى التعب، التعب الذي لم يتسامح معه الشاعر الياباني الجوّال الفقير.
ولكن، لماذا ينجب الناس؟ الخرافات التقليدية عن ضرورة الإنجاب غير مقنعة: ليس من الاخلاقي إنجاب الأطفال فقط كي يحقق الفرد ذاته في ذوات ذريته، أو كي يحقق رغبة إلهية غامضة في استمرار البشرية. خيار عدم الإنجاب منطقي وأخلاقي كخيار الإنجاب تماماً. ربما، لا يوجد إجابة واحدة قاطعة؛ وربما، لا يعرف الناس الإجابة بالضبط، ولكنهم يحدسون بشيء ما بسيط عميق غير قابل للشرح، كالحب والكره والمزاج الطيب في صباح ربيعي دافئ.
جارتي مثلية، أنجبت طفلاً بالتلقيح الصناعي، لتربيه مع زوجتها. يركض الطفل في الحديقة هاتفاً “ماما”، ليضم امرأتين. يحسده بقية الأطفال! جان جاك روسو، الذي كتب في التربية وأثر بعمق في الثورة الفرنسية، رمى أبناءه في الميتم، كي يتفرغ للكتابة. ويليام فوكنر كره ابنته التي بادلته الكراهية. بورخيس عاش مع أمه، دون أن ينجب. أبو الطيب المتنبي عاش طفولته مع جدته، التي كانت له أباً وأماً. أوسكار وايلد اعتنى بطفليه بمحبة، وبادلاه محبة لم يطفئها السجن والفضيحة. ختم طه حسين الجزء الأول من “الأيام” بحديث مع ابنته، والجزء الثاني مع ابنه: بعد صفحات طويلة عذبة، يتكلم فيها طه حسين عن طه حسين بصيغة الغائب، وفي لفتة عبقرية مفاجئة، يستخدم الأنا في الصفحة الاخيرة: ولكن ليس القارئ من يخاطبه، بل أولاده: يخبرهما عن العمى والحب، عن حياة آذاه فيها الأقربون والغرباء لأنه أعمى، وعن حب امرأة رعته ورعتهما بصبر لا ينفد.
في بدايات الثورة، كنت أتابع ما تنشره عائلة حورانية لصور طفلة استشهدت في قصف النظام العشوائي، اسمها ريان: عشرات الصور وهي تلعب، وتبتسم، وتبكي، وتأكل، وتصرخ، وتنام، وتولول، وتتدلل، وتتذمر، وتكبر: صبوا كل حزنهم في صفحات التواصل الاجتماعي: لم يحاولوا أن يتقبلوا ما حدث: كل يوم صورة، كل يوم تعليق، كل يوم كربلاء. إحدى هذه الصور تختصر حياة ريان، بل تختصر كل الحيوات: فيها تضحك ريان بأسنان لبنية أمامية مفقودة، وبيد مكسورة يغطيها الشاش الأبيض، ترفعها بمرح لاذع؛ تتقلص عيناها خلف الضحكة العريضة لتشعّا بطفولة أبدية لا تشيخ ولا تنكسر: صورة تجمع صفاء العالمين أجمع.
على قبر ابراهيم، ابن الرسول محمد من زوجته مارية القبطية، وقد توفي قبل أن يبلغ السنتين، بكى الرسول: بكى وأكثر من البكاء، كما يبكي كل الناس. على ما وصلنا، لم يبك عمه وجده وزوجته خديجة وأصحابه. بكى ابنه، والشمس في كسوف. جزع الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف من مرأى أدمع رسول الله، وعاتبه: “أتبكي وقد نهيت الناس عن البكاء؟” ليجيب الأب المفجوع: «إنما هذا رحمٌ، وإن من لا يَرحم لا يُرحم، إنما ننهى الناس عن النياحة وأن يندب الرجل بما ليس فيه… لولا أنه وعدٌ جامع، وسبيلٌ مئتاء، وأن آخرنا لاحقٌ بأولنا، لوجدنا عليه وجدًا غير هذا وإنا عليه لمحزونون! تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، وفضل رضاعه في الجنة.”
“كل طفولة قاسية؛ أولئك الذين يتكلمون عن طفولة سعيدة لا يتذكرون طفولتهم بالتأكيد.” أعتقد أن آندريه مالرو قال ذلك، وهو محق تماماً: الطفولة عالم من القمع والقهر، من غياب الشخصية، من الحياة مع أبوين يعتقدان أنهما يقدمان ما يستطيعان، ولكن يفشلان كثيراً.
طفولتنا كانت قاسية في سوريا التي تشبه عظمة في فم كلب: ولكنها لم تك بائسة تماماً. البعض يسخر مما كنا نلبسه في طفولتنا تلك: يقولون إن جملة الأهل الشهيرة “كنا نلبسكم أحسن لبس” أكذوبة سخيفة، كما يسخرون من موديل شعر النساء الذي يتقافز إلى أعلى، تثبّته بخاخات كيماوية مخيفة خطرة اختنقنا بها مراراً، سميناها “فيكساتور”، ويضحكون على لمعان قمصان الرجال وعلى شواربهم الكثة المخيفة الذكورية.
لا أعتقد أننا كنا نلبس أفضل الملبوس، ولا كنا نأكل أشهى المأكول، ولكننا كنا نحيا، نحن جيل الثمانينيات المسكين، حياة خارج الزمن: البلد محاصرة، والليرة تنهار، وطوابير كثيرة على الدفاتر والخبز والسكر والباصات، وكوبونات يتناهبها الناس علهم يأكلون الرز لا البرغل: برزخ طويل في عقد يبست فيه البلد، لنحيا طفولتنا مع عوائل قاسية فظة، تحاول كل ما في وسعها كي لا تموت جوعاً: مع تحول موظفي الدولة من طبقة وسطى إلى فقراء يعملون مساءً كي يؤمنوا لقمة العيش، وتغول الأمن والحزب، الذين فشلا في إعطاء شعور الأمان للوطن الذي أغلقه القائد الخالد علينا: وأغلقته، من جهة أخرى، حصارات متعددة فرضتها دول لا تهتم بنا وبطفولتنا وبأحلامنا في علبة “بيبسي” أو بقطعة “مارس” أو لعبة “نايتندو” أو أفلام أطفال مدبلجة على فيديوهات منعها الأمن طويلا قبل أن يسمح بها على مضض: كل ما كان لبنان الشقيق، بلد التهريب الذي كنا نحسده بغل، وأطفال الأقارب والأصدقاء في الخليج، ينعمون به، ويعتبرونه من مسلمات الحياة اليومية: لم نلبس أحسن لبس، ولكننا لبسنا ما قدر أهلنا المحاصرون على تأمينه، في زمن ضائع في نهاية الحرب الباردة: زمن تقلص فجأة بعد حرب الكويت، وانفتاح البلد التدريجي على الغرب والخليج، بدون أن يسقط النظام الذي ينتمي إلى عصر انتهى بلا رجعة.
أنظر إلى صوري من ذلك العصر: أصدقاء تفرقوا في أرجاء المعمورة، من ماليزيا إلى أمريكا والسودان والبرازيل ومصر والعراق وتركيا، وأقارب ومعارف ومقربين تشتت توجهاتهم، وانقطعت أخبارهم، أو قاطعنا بعضنا البعض، بعد حرب لم تُبق في القلوب رحمة ولا صلة رحم: أقلّب صور أهل الماضي لرجال بشواربهم الكثة وأسنانهم الصفراء وابتساماتهم الهادئة القلقة ونساء يضحكن بعمق وبراءة بغرّة مرفوعة إلى أعلى، إلى أعلى ما يمكن، على الرغم من كل شيء: أقلّب، ويصيبني الحنين، والأسى: أتمنى لو كان عندي عائلة في الشمال البارد، تقدم لابني، في عيد الفطر أو في عيد ميلاده، بعضاً من تلك الثقة والمحبة، المخلوطان بالغضب والقسوة والتيه، بدلاً من البرد والوحدة والتردد، اللواتي لا يدفئها حتى أمان نسبي تفرضه الدولة، ولا يتحولون إلى حميمية عائلية، مهما اندمج المرء في بلد لا يعنيه في شيء.
أفكر في ذلك وأنا أشاهد ثانية فيلم “ألكسندر وفاني” لإنغمار برغمان. يثير فيّ الفيلم ذعراً غير محدود. “أريد حلاً”، أيضاً، فيلم رعب جامح: في كلا الفيلمين يعيش الأبطال مأزقاً لا مخرج منه، ويستمر العذاب بدون نهاية. لا حاجة لخيال جامح لفهم الرعب: قصة عادية عن الطلاق والطفولة ورجال الدين تكفي. اليوم، يتذمر الجميع في السويد من المدارس، على النقيض من أيام برغمان تلك: استحالة السيطرة على الطلبة تجعل النظام التعليمي فاسداً: يتذمر الأساتذة والأهل والطلاب والحكومة من انتشار الحشيش والكحول والجريمة والكسل بين المراهقين. كذا الأمر في معظم البلدان الغربية، خصوصاً في أحياء الأقليات المسلمة والملونة والمهاجرة. نحن، في عالم الآباء، يؤرقنا العلم وتعليمه كحرب أهلية نخسرها بدون مقاومة.
أكثر مشاهد “الإخوة كارامازوف” شهرة تتعلق بمشكلة الشر: في فصل “التمرد”، يختار إيفان مشكلة واحدة كي يصب فيها كل حيرته: كيف يسمح الله بتعذيب الأطفال؟ هل الله قادر على إيقاف ذلك ولكنه يسمح به بلا مبالاة، أم أنه يريد منعه ويعجز عن ذلك؟ الأمثلة المخيفة من الصحافة، معظمها عن أطفال يعذبهم آباؤهم: طفلة محبوسة في قفص يجبرها أبوها على أكل برازها. جون ستيوارت مل اقترح أن قدرات الله محدودة، كمخرج من مآزق فلسفية لا حل لها. داروين أيضاً كان يرى الشر في الطبيعة، ودفعه هذا، على العكس من مل وإلهه غير القدير، إلى التخلي عن الله، ربما قبل أن ينهي تفاصيل نظريته الشهيرة؛ وربما، كان لمشكلة الشر أثر أكبر في تخليه عن الله مما كان للنظرية العلمية نفسها. بعد سنوات من التأملات اللاهوتية ومن دراسة تطور الإنسان، سيعذبه الأمر بشكل شخصي: توفيت ابنته “آني” ولم تتجاوز العاشرة. بعد وفاة العالِم الذي غير كلياً تاريخ البشرية، وجدت زوجته إيما في أوراقه آراءه الفعلية: منذ وفاة ابنتهم، خاف داروين أن يكسر قلب زوجته إن أخبرها بأنه لا يؤمن بخلود الروح وبالبعث في قيامة مُجلجلة. لمدة أربعين سنة، لم يكلّمها عن الأمر، لم يرد أن يجرحها. لم يتكلم داروين علناً عن الله، أو عن لا-أدريته التي أصبحت شهيرة جداً بعد وفاته، اللا-أدرية التي صاغها وحارب من أجلها صديقه وتلميذه توماس هكسلي: بقي داروين متردداً منزوياً في كل ما يتعلق بالدين، متجاهلاً الحقيقة واللاهوت ومصير الآلهة وتاريخ البشرية والأسئلة الكبرى، مراعياً مشاعر زوجته الحبيبة التقية، التي بقيت تصلي يومياً كي يرحم الله ابنتهم الصغيرة، مؤملة لقاء قريباً في فردوس يتسع للجميع…