في معرضه الشخصي الأول في فرنسا، وفي متحف “بول فاليري” تحديداً، والموسوم بـ “عتبات”، يقدم الفنان التشكيلي الشاب بشار الحروب، المنحدر من الخليل والمولود في القدس، والمقيم في رام الله، ما يمكن اعتباره جسراً رابطاً بين قديمه وجديده من أعمال فنية تميزت بتقنياتها المتنوعة، ويراها صاحبها تراكماً لمنجزه البصري المنشغل بالهم العام، والتي تم اقتناء بعضها في العديد من المتاحف والمجموعات العالمية.
“استدراج العودة من النسيان، واستنبات البقاء من الرحيل المؤبد، ومجابهة القسوة والمحو والنفي المسترسل للأهل والمحيط وزمن السكينة، ثم الصمت والكوابيس المقترنة باللامكان. معجم متناسل يعيد بشار الحروب تركيب تعابيره وخرائطه المعنوية، بصيغ أسلوبية شتى، تمزج بين الرسم والتصوير الزيتي والمائي والكولاج، والمنحوتات المعاصرة، والمنشآت..”. بهذه الكلمات قدم الزميل الناقد الفني المغربي شرف الدين مجدولين هذا المعرض، الذي كان محور حديثنا مع الحروب..
بداية لماذا “عتبات”؟ وما الذي أردته من هذه العودة إلى الوراء حيث تقدم في هذا المعرض عدّة مجموعات مختارة من تجربتك الفنية المتنوعة بتقنياتها بين اللوحات والرسم والكولاج والنحت والتركيب؟
“عتبات” هو عنوان المعرض المقام حالياً في متحف “بول فاليري” في باريس، وهو فعلاً -كما ذكرت- عبارة عن مجموعة مختارة من تجربتي الفنية في السنوات السابقة. تتقاطع هذه الأعمال في موضوعاتها في انطلاقها من العام إلى الخاص. عرض هذه الأعمال ليس عودة إلى الوراء بقدر ما هو استمرارية حياة العمل الفني وعدم ارتباطها بلحظة معينة، إذ أنّ الجديد في الفن لا يلغي القديم، إنما هي تجربة تراكمية مترابطة.
من وجهة نظري استمرارية عرض العمل الفني مراراً وتكراراً في مناطق مختلفة من العالم يؤكد على أهمية وأصالة هذه الأعمال. كذلك ليس الهدف من العرض هو التقنيات بقدر ما هو عرض المواضيع التي أتطرق إليها في أعمالي الفنية المعروضة.
من أين استوحيت مواضيع أعمالك الفنية التي اشتغلت عليها بداية من مجموعتك البصرية “اللامكان” (2014) وحتى “الناسك” (2018)؟
لديّ اهتمام في عدد من القضايا في مشاريعي الفنية على مدى تجربتي، قضايا مثل المكان والذاكرة والهوية والمعاناة الإنسانية، وكذلك علاقتي مع اليومي المعاش. لكن كل ذلك في سياق مفتوح. المشاريع التي اشتغلت عليها في السنوات الأخيرة والمعروضة حالياً فيها انتقال من العام إلى الخاص في معالجتي للقضايا المطروحة. على سبيل المثال في مشروع “اللامكان” اشتغلت على استكشاف وتكثيف لسؤال يتعلق بقضية الأطفال اللاجئين والمشردين، وإثارة قضية تعاطي الإعلام مع قضايا اللاجئين والمخيمات، وكيفية استخدام صور الأطفال كأداة لتقاريرهم الإعلامية، والتقليل من أهمية الظروف السياسية المحددة التي خلقت مشكلة اللاجئين.
أما بخصوص مشروع “شاشة صامته” فهو يركز على موضوع الحرب وما تنشره من خوف ورعب ومعاناة إنسانية. هذا المشروع ذو طابع سيكولوجي بامتياز، وفيه استحضار تاريخي لأعمال فنية لفنانين عاشوا الحرب العالمية الأولى والثانية، وكيف رسموا الحرب، ومعرفة إلى أيّ مدى أثرت الحرب على تجاربهم الفنية.
ما قمت به هو رسم لوحات في زمن الحرب وكأن الزمن يعيد نفسه، الأعمال ذات طابع معاصر يقدم الخوف والموت تحت الأضواء ضمن سياق إنساني مفتوح. أما مشروع “أساطير”، فهو مشروع تم إنتاجه من خلال إقامة فنية في مدينة شفشاون بالمغرب، وهو يركز على حضور الميثولوجيا في حالة العزلة التي عشتها في جبال الشفشاون، لخلق حالة من التوازن مع هذا الواقع والعالم البشع الذي نعيش فيه، والذي أحاول الهروب منه من خلال عالم متخيّل.
بينما مشروع “الناسك”، الذي تم إنتاجه من خلال إقامة فنية في جزيرة جربا في تونس، كان فيه كثير من التآمل وحالة من الصفاء الذي كنت أسعى إليه، فكانت الجزيرة ملهمة من خلال عمارتها، خصوصاً عمارة الجوامع والمقامات التي فيها تكثيف للاختزال والمعنى.
ما هي أبرز التحديات التي واجهتك وأنت تجهز لمعرضك الفني هذا؟
الأعمال الفنية المعروضة تم إنتاجها على فترات زمنية مختلفة كما ذكرت سابقاً، التحدي كان في المستوى الذي أريد أن أقدمه من خلال هذا المعرض حول تجربتي الفنية، خصوصاً أنّ هذا المعرض الشخصي المتحفي الأول لي في فرنسا، وهذا يضعك أمام مسؤولية كبير. كذلك كونك فلسطيني فإنّ هذا يضعك في تحدي آخر. ذلك أنك لا تمثل نفسك فقط فيما تقدمه، لذلك تسعى دائماً إلى تقديم ما هو أفضل، خاصة في ظل المرحلة التي نعيشها الآن.
كيف ترسم الأمل في بلادٍ ترزح تحت احتلال استيطاني وحشي؟ ومن قبل كيف تواجه مرارة الواقع المرعب الذي يحيط بك؟
ممارسة الفن أو ممارسة الحياة تحت الاحتلال لها طابع مختلف كلياً عن ممارسة الحياة بشكل طبيعي في أيّ مكان طبيعي آخر. القدرة على هذه الممارسة بحد ذاتها هو انتصار للبقاء والحياة فتصبح هذه التجربة هي جزء أساسي تتماهى مع التجربة الفنية، وإن لم يكن ذلك بشكل مباشر. كذلك أرى أنه من المهم أن لا نسمح للاحتلال بتشكيل إنتاجنا الفني، فنحن جزء من العالم ومن المهم أن نمارس إنسانيتنا بانفصال عن المحتل.
إذا ما نظرت خلفك هل ترى أنك استطعت أن تراكم أعمالاً فنية لها بصمات خاصة بتشكيلاتك البصرية؟
بالرغم من إنتاجي المستمر خلال تجربتي الفنية وحضورها المحلي والدولي، لا أستطيع أن أقول إن لدي بصمتي الخاصة، هذا يمكن أن يطلقه الباحثون والمختصون بالنقد والتنظير الفني. ما أستطيع قوله إنني صاحب تجربة خاصة في معالجتي للقضايا التي أثيرها من خلال أعمالي الفنية، سواء على مستوى الشكل أو المضمون عبر توظيفي للوسائط والتقنيات المختلفة.
إلى أيّ مدى أنت معني أن يكون منجزك البصري الفني فناً جماهيرياً؟ وهل تمكنت من تكوين جمهوراً له، أم أنه مقتصر بالمشتغلين بالفن فقط؟
لا أعتقد أنّ الجماهيرية غاية في الإنتاج الثقافي والفني على الأقل على المستوى الشخصي لإنتاجي، أجد أنّ الجماهيرية هي غاية السياسيين. يمكن لعمل ما أن يكون له جمهوره بينما عمل آخر لا يكون له جمهور، لكن في كلتا الحالتين لا أجد في ذلك حكم على المستوى الفني وقيمة العمل. ما يهمني هو جودة العمل وما أحاول أن أطرحه في هذا العمل، إنتاج الفن مثل إنتاج الفكر والفلسفة تجد من يتفق معك وكذلك من يختلف معك، ويمكن أن لا يكون هناك جمهور لعملك لكن هذا لا يقلل من قيمة المنتج.
إلى أيّ مدى تتفق مع قول فيكتور هوغو: “لا تكثر الإيضاح فتفسد روعة الفن”؟
المطلع على تجربتي الفنية يجد أنها تجربة تتراوح ما بين المفاهيمية والاختزالية، فهي بعيدة عن المباشرة على الرغم من انخراطها في جزء كبير منها بالهم العام، لذا لا أجد أنّ من أدوار الفن أن يكون توضيحي أو يستقصد الغموض بقدر دوره في إثارة القضايا والتساؤلات والتركيز على موضوعات مثارة للنقاش. كذلك أرى أنّ دور الفن ليس طرح الجماليات فقط، وإن تحققت الجمالية في الأعمال الفنية فهي ليست بالمفهوم الكلاسيكي للجمال.
هل أنت ناقد لأعمالك أم منتج فقط؟ ومن ثم ماذا عن دور النقد ومدى مواكبته لمنجزك البصري؟
بالتأكيد الفنان هو الناقد الأول لأعماله الفنية، خلال عملية الإنتاج أنت بحالة مستمرة من النقاش حول العمل، بداية مع نفسك من ثم تذهب إلى مستوى آخر مع الآخرين. أجد في النقد دوراً مهماً في تطوير العمل الفني والتجربة الفنية، خصوصاً عندما يكون من ذوي الاختصاص والمطلعين على تجربتك بتفاصيلها. انشغالي بتجربتي ليس فقط تجاه الموضوعات، حيث تراني منشغلاً بالشكل ضمن سياق الفن وعلاقته بالتجربة البصرية العالمية.
ماهي انطباعاتك عن واقع الفن التشكيلي الفلسطيني اليوم داخل فلسطين، خاصة أنك تعيش في الضفة الغربية حيث يعيش نخبة كبيرة من الفنانين التشكيليين من الرواد والشباب؟
الفن الفلسطيني مرَّ بمراحل عدة بموازاة التغيرات السياسية، وهذا ترك أثره على المنتج الفني سواء داخل فلسطين أو خارجها. وبالرغم من الظروف الصعبة وحالة العزلة التي نعيشها وتتأكد بشكل كبير في قطاع غزة، إلّا أنّ الإنتاج الفني في الداخل خصوصاً عند الشباب فيه انفتاح نحو التجريب، والتحرر من الرمزية التي غلبت على طابع الفن الفلسطيني في الماضي، فكان الانفتاح على مستوى الموضوعات المتناولة أو التقنيات المستخدمة بحيث ليس هناك انفصال عن ما يدور حولنا في العالم.
أخيراً، ما الذي ستضيفه في قادم الأيام إلى مدونتك البصرية من مفاهيم وأسئلة تشغل بالك في المرحلة الراهنة؟
ممارستي الفنية هي ممارسة يومية وملتصقة بحياتي وانشغالاتي حول ما يدور في الحياة، سواء على المستوى العام أو الخاص، فدائماً هناك موضوعات ومفاهيم متجددة. اشتغل منذ شهور على مشروع جديد بعنوان “حديقة صامتة” هذا المشروع محوره حديقتي الخاصة، التي سأعمل على تقديمها كـ (وطن صغير) بعد أن تعبنا من تحقيق حلمنا بالوطن الكبير. كذلك ستكون لي هذا العام مشاركة مهمة في “بنيالي دكار” في السنغال، والذي سأقدم من خلاله عمل تركيبي ضخم في الفضاء العام يناقش مفهوم منظومة السلطة في الدولة وسياسة الإخضاع التي تمارسها على شعوبها لاستمرارية ديمومتها. إضافة إلى هذا هناك عرض لمشروعين جديدين في فلسطين؛ واحد ضمن “معرض البذور والأعشاب الضارة” في مؤسسة عبد المحسن القطان، والثاني ضمن “معرض واد النار” في الفضاء العام.