فكيف يجزيني على أنني أجرمت والجرم قضاً مُبرم؟
في مقدمته لرباعيات الخيام، يقول الكاتب الفارسي صادق هدايت إن روح الفرس النارية الفرحة المتمردة الأصيلة تتجلى في رباعيات عمر الخيام، وإنها تناقض تماماً الروح الخانعة البدوية الساميّة للعرب. على العكس تماماً، طه حسين يجزم بأن الخيام متأثر بالمعري: في الحقيقة، بعض الصور مستعارة بشكل مباشر وواضح. على أن الاختلافات بين الخيام والمعري عظيمة: الفارسي يدعو للفرح، ويريد استنفاد كل طاقات الحياة في العشق والغرام، قبل أن يأتي المجهول؛ أما المعري فيعتزل في سجونه يائساً محبطاً، ولكنه يريد أن يوزع الرحمة على كل الناس، حتى في حزنه المديد الأصيل اليومي.
كتب الخيام رسائله الفلسفية باللغة العربية، وكان يترنم بأشعار المعري، على ما يذكر الزمخشري. حياة الخيام وفلسفته وأدبه وزمنه تجمعها حضارة واحدة، ممتدة أصيلة متعددة متجذرة في حضارات الآخرين، تقسو كثيراً على المنشقين، ولا تشبه في شيء ترهات المتشددين العرب والفرس والإسلاميين. عمل عُمر في الفلك وعلم النجوم، ويبدو أنه رفض أحكامها. تتضارب أوصافه في كتب التراث، بين عالم جليل وبين زنديق يمارس التقية. المعلوم الذي لا خلاف عليه، أنه كان يُعلي من أعمال الشيخ الرئيس ابن سينا، وفلسفته مستمدة منه: أرسطية متشحة بالأفلاطونية المحدثة. هذه الفلسفة في رسائله تختلف تماماً عما نجده في الرباعيات!
لم يصلنا الكثير عن حياة الخيام، وضاع جزء مما كتبه في غياهب التاريخ. الأساطير السخيفة عن صداقة جمعته بحسن الصباح ونظام الدين الطوسي ألهبت مشاعر العامة، وفندها الباحثون بيسر. الرباعيات نفسها لم تصلنا كاملة في نسخة واحدة محترمة: توزعت في كتب التاريخ، وبقي للمترجمين والدارسين أن يرجّحوا الرباعيات الأصيلة من المزيفة.
فلسفة الرباعيات شكية ريبية بامتياز، متشائمة حزينة:
أُحسّ في نفسي دبيب الفناء ولم أصب في العيش إلا الشقاء
يا حسرتا إن حان حيني ولم يتح لفكري حل لغز القضاء
أحمد رامي، في مقدمته الهادئة، اللطيفة، الحساسة جداً، التي أهداها لأخيه الذي توفي شاباً، يفتتح ترجمته للرباعيات ببيت مكسور الوزن:
اللهم إني عرفتك مبلغ إمكاني فاغفر لي، لأن معرفتي إياك وسيلتي إليك
الاختيار موفّق جداً، ومعبر تماماً عن حيرة الخيام: ما يعرفه عن الله محدود بقدرة الخيام نفسه، وليس بقدرة الله. الرباعية تكاد تلقي باللوم على الخالق نفسه: لو أُعطيتنا المزيد من القدرة على معرفتك، لرحمتنا من كل هذا التردد والقلق والشك؛ ولكنك تركتنا بعقل محدود كحياتنا القصيرة. يتذمر عمر الخيام كثيراً، كما يتذمر الأبناء في “أولاد حارتنا”، ولكنه لا يرتكب جرائم كي يتخلص من شعور الضعة والخوف والخجل.
كشاعر المعرة، تتردد نغمات مختلفة في أشعار الخيام: تقترب من الكفر الصريح حين تعاين الأذى الذي ينزل بالأبرياء بدون معنى؛ وتهاجم المتنفذين ورجال الدين والدين بقسوة شديدة؛ لا تعرف ماهية الموت، ولا حتى ماهية الحياة حقاً، ولا تعرف هل هناك معاد أم لا؛ تؤمن بإله رحيم، تكاد لا تعرفه ولا تلمسه ولا تبصره، ولكنها تسلّم به وتتضرع له. على العكس من فصاحة وبلاغة وتعقد معظم أشعار المعري، تتسم رباعيات الخيام ببساطة شديدة قريبة من القلب، ولكنه يفتقد احياناً إلى تأملات المعري الميتافيزيقية الأعمق والأكثر إثارة، في فهم الحيوان والتاريخ والنفس البشرية.
هدايت أيضاً يميز بين الخيام وبين المتصوفة المملين الذين أتوا بعده، واستخدموا صوراً مكررة مقتبسة من أشعاره. يفصل بين الخيام وبين المتصوفة فضاء واسع في الفكر وفي الشعر: يعاين الخيام مشكلة الحياة والموت بشكل مباشر، حائراً محيّراً قارئه، ثملاً بمباهج اليوم المادية المباشرة، كاشفاً الشر في العالم وساخراً منه، غائصاً بشجاعة في الوجود المؤقت الزائل ومحتفياً به؛ في حين يعرف المتصوفون الأجوبة كلها، ويبتهجون بخمرة إلهية روحانية لا تُسكر ولا تُحرق الجسد، يثقون ثقة مطلقة بخير القادر الذي يعيشون فيه وله، ويحارون فقط في فهم صفاته، ويتمنون أن يتركوا العالم كي يتحدوا به: شتان بين حيرة الشكاكين وحيرة العارفين!
حين غنّت أم كلثوم الرباعيات، حققت نجاحاً ساحقاً: في الحقيقة، هذا النجاح غير مفهوم إطلاقاً: ما الذي يجعل الناس، المحافظة البسيطة البريئة الساهرة المعتادة على شكاوى الست من العواذل ومن الزمن ومن قسوة المحبوب، تطرب لكل هذه الشكوك، والخوف، والتشاؤم، والدعوة للشرب والسهر، والتذمر من قضاء وقدر كتبهما الله علينا؟ بل، في التسجيلات التي وصلتنا، يبدو أن الجمهور يتماهى تماماً مع أحمد رامي ورياض السنباطي، حين تنفجر الآهات وعواصف التصفيق بضراعة مأتمية شيعية تقريباً، بحرقة وصدق، عندما تهتف الست:
إن لم أكن أخلصت في طاعتك فإنني أطمع في رحمتك
وإنما يشفع لي أنني قد عشت لا أشرك في وحدتك!
ربما، يعود نجاح الرباعيات إلى ما تحتويه من سؤال يصيب الجميع، عدا المحتكرين للمعرفة المطلقة. نجحت الرباعيات ووُزّعت في طبعات شعبية بعد ترجمتها إلى اللغات الأوروبية؛ ونجحت في معاقل المسلمين، في فارس الشيعية وفي العالم السنّي. لم يكن نجاحها مباشراً في الغرب، بل احتاج ترجمات متعددة ومراجعات مختلفة؛ كذلك في العالم الإسلامي: لم تكن مقروءة على نطاق واسع، ولكنها كانت معروفة، فقد انتُقدت مراراً: من متصوف كفريد الدين العطار ومن فقيه أشعري كحجة الإسلام الغزالي، قبل أن يُعاد اكتشافها لتصبح شعبية. سر النجاح يكمن في السؤال، والحيرة، والصدق المتواضع لعالِم يحب الحياة ولا يفهمها.
الأبيات المتضرعة يُسقطها هدايت من الرباعيات، ويُثبتها رامي. تبقى علاقة الخيام مع الله، وتضرعه وتذمره، غائمة مربكة، ومرتبكة ربما. على المرء أن يختار ما يراه مناسباً له هو نفسه، ولصورته عن الخيام الغامض: كتب عمر الرباعيات وأرسلها بين الناس: لم يجمعها في كتاب، ولم يفكر في مصيرها، ولم يسع إلى نشرها كرسالة يدعو فيها إلى مذهبه: كتب ما كتبه في وحدته الطويلة كوحدتنا جميعاً، أو في سهرات عابثة مع أصدقاء عابثين وحيدين: ينتمي عمر الخيام إلى ذرية غريبة من المؤلفين: الشاعر يترك نفسه على سجيتها كشجرة فاكهة مثمرة أو كغيمة رمادية خريفية، فيسجل الناس عنه ما فهموه من أشعار، ويؤوّلونها ويغيرونها ويعدلونها، لتصلنا مفككة تجمعها روح واحدة دون أن تضبطها تماماً، كنصوص مقدسة جمعها الأتباع لاحقاً لأغراض دنيوية مادية بحتة.
لم يكتب الخيام للناس، لم يكتب للمستقبل المجهول، لم يكتب لجمهور مجرد لا وجود له: كان صادقاً مع نفسه تماماً: كتب لنفسه وللأصدقاء فقط، وأرسل الرباعيات على سجيتها كتقاسيم عود مرتجلة في حفلة ريفية خفيفة عابرة قصيرة لن يتذكرها أحد!