صدر عن سلسلة “ترجمان” في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب «ماكس فيبر وكارل ماركس»، وهو ترجمة عبد الله حداد لكتاب كارل لويث بالإنكليزية Max Weber and Karl Marx. هذا الكتاب نص أساسي عن ماكس فيبر وكارل ماركس ضمن التفسيرات الحديثة عن الاستلاب/ الاغتراب في النظرية الماركسية والعقلنة في سوسيولوجيا فيبر، يتناول أوجه الاختلاف والشبه بين فيبر وماركس، معتمدًا في ذلك منهجًا فلسفيًا هو نتاج وجودية مارتن هايدغر.
إشكالية وفرضيات ومقارنات
يتألف هذا الكتاب (144 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من أربعة فصول. يمثل الفصل الأول “مقدمة” للكتاب، يقدم فيها المؤلف طرحًا لإشكالية كتابه، وتوصيفًا عامًا لفيبر وماركس. فإذ يقارن لويث بين فيبر وماركس، يقول: “مقارنة كهذه تعتمد على ثلاث فرضيات مسبقة. تفترض أولًا، أن ماركس وفيبر قابِلين للمقارنة على مستوى الشخصية والإنجاز؛ أي إنهما في مقامين قابلين للمقارنة. ثانيًا، إن المقارنة بين شيئين تفترض أن مواضع المقارنة متماثلة في جوانب معينة ومختلفة في جوانب أخرى. ثالثًا، إن مقارنتنا بين الاثنين تفترض أن أهداف بحوث كل منهما تختلف مع اختلاف فكرتهما عن الإنسان. لم يكن ذلك هو الهدف المتعمد والمعلن من بحوث ماركس وفيبر، لكنه شكّل من دون ريب حافزها الأصلي”.
يضيف لويث: “الحافز الأساس خلف التحريات التاريخية لكل من ماركس وفيبر كان الاستكشاف المباشر للواقع المعاصر، مع توجه نحو احتمال التدخل في السياسة. جمع كل منهما بين كاريزما الأنبياء ومهارات الصحافة والمناصرة والشعبوية التي اعتبرها فيبر أنموذجية في وصفها محترفي السياسة المعاصرين. مع ذلك بقي العلم والسياسة منفصلين بالنسبة إلى فيبر لأنه، على الرغم من اعتماده موقف المختصّ في كلا الحقلين، تجاوز المفهوم الضيق للعلم بمعنى التخصص، كما للسياسة بمعنى التحزب. على النقيض من ذلك، زاوج ماركس بين العلم والسياسة في وحدة هي الاشتراكية العلمية، وهي مزيج من الممارسة النظرية والنظرية العملية في الوقت عينه”.
عالم فيبر البرجوازي – الرأسمالي استنادًا إلى العقلنة
يتناول لويث، في الفصل الثاني، “تفسير فيبر للعالم البرجوازي – الرأسمالي استنادًا إلى العقلنة”، نقطة الانطلاق في بحوث فيبر، وهي أن “علم الاجتماع الذي ننشده هو علم الواقع. نريده أن يتضمن بصفته تلك واقع الحياة المحيطة بنا، والتي نعيشها، أي ترابط ظواهرها الفردية في شكلها المعاصر، ومعناها الثقافي، كما أسباب تطورها بالطريقة التي حصلت. إذًا، فإن الغاية من التحقيق التاريخي ليست الكشف عن كيف كان الواقع كما لدى رانكه، أو كيف يجب أن يكون بسبب الضرورة التاريخية كما لدى ماركس. حريٌّ بالتحقيق التاريخي أن يجعل ما نحن عليه اليوم شيئًا مفهومًا. الرأسمالية هي بالتأكيد أحد العوامل، وأبرزها، في تاريخ الحاضر هذا، الذي يشكل مجرد مقطع في مسار المصير البشري”.
في هذا الفصل أيضًا، يتناول لويث العقلنة بوصفها التعبير الإشكالي عن عالمنا الحديث، وبوصفها أيضًا القدرة على المسؤولية الفردية وسط التبعية الشاملة. ففيبر يرى العقلانية بمنزلة كلية أصيلة – كلية موقف من الحياة وأسلوب حياة – مرتبطة بشروط سببية متفرقة، لكنها تبقى فريدة من دون شك: هي بعينها الروح العامة للجماعة الغربية.
الاستلاب الذاتي للإنسان
أما في الفصل الثالث، “تفسير ماركس للعالم البرجوازي – الرأسمالي استنادًا إلى مفهوم الاستلاب الذاتي للإنسان”، فيقول لويث إن الاستلاب الذاتي لا يشكل الموضوع المميّز في التحليل الماركسي للعالم الرأسمالي – البرجوازي. فما يميِزه هو تشريحه وبنيته الهيكلية؛ أي اقتصاده السياسي، وهو تعبير يجمع في وحدة ديالكتيكية بين الواقع الاقتصادي والوعي. ولا يعني التركيز على تشريح المجتمع البرجوازي أول وهلة أكثر من نقل التركيز من المجتمع البرجوازي لدى هيغل نحو منظومة الحاجات في حد ذاتها. أما السلعة لدى ماركس فلا تعني شيئًا أو غرضًا بعينه، بل تختزن الطابع الأنطولوجي الأساس لجميع أشيائنا أي شكلها السلعي. هذا الشكل أو البنية السلعية توصِّف استلاب الأشياء والفردية البشرية على حد سواء. لذا، يبتدئ رأس المال بتحليل السلعة.
يضيف لويث أن التعبير السياسي عن الاستلاب الذاتي للإنسان يظهر بامتياز في التناقض الداخلي بين الدولة الحديثة والمجتمع البرجوازي، أو بتعبير آخر بين الإنسان في المجتمع البرجوازي والدولة البرجوازية في حد ذاتها، لكون الإنسان شخصًا خاصًا من جانب ومواطنًا عامًا من جانب آخر، لكنه ليس، في أي من الجانبين، إنسانًا كاملًا، أي بحسب ماركس كائن خالٍ من التناقضات. إلى ذلك، تتخذ البروليتاريا دلاليتها الجوهرية والكلية، في تشابه مع الطابع السلعي لجميع الأشياء المعاصرة، ليس بسبب اعتبار البروليتاريين بمنزلة آلهة، بل لأن البروليتاريا تتضمن بالنسبة إلى ماركس الإنسان في كليته، الكائن – النوع في نفيه، في أقصى استلابه الذاتي.
نقد فيبر للتطور المادي للتاريخ
ويقول لويث، في الفصل الرابع والأخير، “نقد فيبر للتطور المادي للتاريخ”، إن الأطروحة الروحانية القائلة إن التاريخ البشري، بما فيه من حوادث سياسية واقتصادية، يعكس في التحليل الأخير صراعات دينية فحسب، والمطلوب من ثمّ تفسيره بطريقة أحادية وغير ملتبسة (لا بناؤه على عدد من الحلقات السببية المتقاطعة)، هي أطروحة بحسب فيبر غير قابلة إمبيريقيًا للبرهان أو للنقاش، بعكس الأطروحة المادية (تعارضه معها هو في محتواها فحسب، وليس في منهجيتها) التي تؤكد أن الصراعات الاقتصادية هي – في التحليل الأخير – العامل الحاسم في التاريخ البشري.
يضيف لويث أن بحوث فيبر، على الرغم من رفضه ميتافيزيقا التاريخ، تبتعد في روح الرأسمالية – خلافًا لصورته الذاتية عن نفسه بصفته عالمًا متخصصًا – من كونها وصفًا إمبيريقيًا بحتًا لمعطيات محددة، وتشكل من ثمّ مسارًا عبر محيط لامحدود، وهي وصف علمي بحت؛ بمعنى أن فيبر نفسه كشخص كان متخصصًا. حتى إن لم يكن تبسيطيًا وعقيديًا إلى حد الرغبة في استنتاج روح الرأسمالية من علم اجتماع الأديان فحسب، فإنه كان ناشطًا من دون قيود، وفضوليًا إلى حد لا يكتفي معه بتجميع معطيات إمبيريقية مجردة.