بدأ “الماستر كلاس” بعرض لمشهد من فيلم قصير لإيليا سليمان بعنوان “يوميات مبتدئ”، والذي كان ضمن مشروع سينمائي مشترك “7 أيام في هافانا”، وهو فيلم طويل مكون من عدة مشاهد أو أفلام قصيرة أخرجها عدة مخرجين، باللغة الإسبانية عام ٢٠١٢. تدور أحداث الفيلم على مدى أسبوع في العاصمة الكوبية هافانا، ويضم مقطعاً واحداً لكل يوم، أخرج كل جزء منه أو كل سكيتش منه مخرج مختلف، وكان سليمان أحد المخرجين السبعة خوليو ميديم، لوران كانتيت، خوان كارلوس تابيو، بينيشيو ديل تورو، غاسبار نوي، بابلو ترابيرو.
وصف سليمان تلك التجربة بأنها كانت في البداية مخيفة إلى حد ما لكونه لم يزر كوبا من قبل، ولا يعرف الإسبانية، ولذلك بدى له الدخول في منطقة غير معروفة مربكاً، لكنه في النهاية قرر الذهاب إلى كوبا وفي باله فكرة واحدة، أن يصور محاولة مقابلة فيديل كاسترو، وبالفعل بعد شهر قضاه في هافانا العاصمة الكوبية، قام بتصوير ما أطلق عليه سكتش بعنوان يوميات مبتدئ رافضاً تسميته بفيلم قصير.
تحدث إيليا مطولاً عن تجربته، وعن الطريقة التي يعمل فيها، ويكتب فيها مشاهده، مشيراً إلى أن معظم مشاهد أفلامه جاءت من لحظات عاشها أو شاهدها من واقع حياته، ودوّنها في دفتر ملاحظاته، لأن تجربة الحياة المتنقلة التي يعيشها أغنت ذاكرته البصرية وبالتالي انعكست على مشهديته ولغته السينمائية.
كما تحدث عن تجربة التصوير في الناصرة حيث صور أفلامه الأولى مثل فيلم “سجل اختفاء” وكذلك “الزمن المتبقي”.
لماذا يستغرق وقتاً طويلاً في إخراج أفلامه؟
أجاب سليمان مازحاً: إذا كان هناك عدالة من فوق فيجب أن أعيش مائتين وخمسين عاماً للعمل في هذه الأفلام، غالباً ما يقول لي الناس أنني أستغرق وقتاً طويلاً في صناعة أفلامي، لكني لا أفهم حقيقةً ماذا يقصدون بوقت طويل! بالنسبة لي هذا وقت تأملي، ويجب أن آخذ كامل وقتي في أن أعيش اللحظة وأتخيلها وأتأمل فيها، فأنا لا أقوم بكتابة نصي بناء على كتبٍ أخرى إنما أكتب نصي بناء على ما أريد أنا قوله. هذا لا يعني أن الأفلام التي تعتمد على نصوص أو كتب الآخرين هي أمر سيء، لكن أنا أتحدث عن طريقتي وتجربتي الشخصية، والوقت الذي أحتاجه لتدوين ملاحظاتي وأن أعيش لحظاتي التي أكتبها، ومن ثم أفكر فيما إن كانت مناسبة بعد الكتابة لأن تستخدم في هذا السيناريو السينمائي أم لا.
كما تحدث كذلك عن ظهوره تقريباً في معظم أفلامه السابقة صامتاً، باستثناء فيلمه الأخير “إن شئت كما في السماء” ٢٠١٩، والذي تحدث فيه بجملة مقتضبة قائلاً: أنا فلسطيني من الناصرة؟ يقول سليمان: كوني قلت أنا فلسطيني من الناصرة، لا يعني أنني تحدثت في فلمي، إنما هي مجرد كلمات خرجت من فمي، لكني لم أتحدث بالمعنى الحقيقي للحوار في الفيلم، ليس فقط أنا الذي لا يبقى صامتاً بأفلامي، إنما العديد من شخصيات أفلامي تظهر دون أن تقول شيئاً، أعني أنهم يقولون أموراً كثيراً غير الكلام، فهناك الكثير من اللغات المستخدمة في حياتنا اليومية والتي لا تحتاج بالضرورة إلى النطق لتبدو مفهومة، نحن نسمعها، وهناك أصوات وأنواع مختلفة من الموسيقى التي تصلنا كرسائل، وكذلك الأمر بالنسبة للتصميمات، كلها أمور يمكن أن تقول لك أشياء دون أن يكون هنالك كلام منطوق.
كتابة النص السينمائي كقصيدة
تحدث سليمان عن الطريقة التي يكتب فيها نصوص وسيناريوهات أفلامه، ومن طريقته في صناعة اللغة البصرية الأكثر نضجاً للفيلم في نسخته النهائية، مشيراً إلى أنه يكتب النص كما تُكتب القصيدة، فهو يعيد الكتابة مرات متعددة حتى يستطيع الوصول إلى الصورة الشعرية في المشهد التي تغنيه عن الكلام المباشر والثرثرة الكلامية، مستعيضاً عنها بالصورة التي تخرج بالنهاية وكأنها روح القصيدة.
يضيف سليمان: أنا أستخدم اللغة اللفظية عندما لا يكون لها معنى مختلف عما أقصده، خاصة إن كان لها دلالات مختلفة في لغات أخرى تعطي ذات المعنى، أو نفس القافية، وأحياناً يكون الحوار أحادياً داخلياً بين الشخص ونفسه، ولا أود أن يكون هنالك لغة تفصيلية أو لغة تريد إيصال معلومات، ولأن اللغة دوماً تعطينا معلومات، والمعلومات هي إحدى الوسائل التي توصل الحقائق أو ما نود قوله، وهذا شيء مهم بالنسبة إلي، وهو ما لا يجب أن نفرضه على المشاهد، فلا يجب أن نعطيه تفصيلاً، يجب عليه أن يتأمل ويفكر في المشهد ليفهمه بدلاً من أن نلقنه إياه بالكلام. السينما فن يُشاهد، وأنا أحاول أن أكثف من حضور المشهدية التي تفهم من خلال لغتها البصرية أكثر من مجرد الحديث فيها، هناك القليل من الكلام ولكن أحياناً أضطر لأن أستسلم إلى المعلومات والسرد الكلامي، أستطيع أن أدخن وأقول نعم يمكن لهذا الشخص أن يقول كلماتٍ مقتضبة، ومن ثم أستمر في كتابة الفيلم. أحيانا أستسلم رغم أني لا أحب الاستسلام لكن في النسخة الثانية من النص حين أنظر إليها اقول: أنا لا أريد أن أكون كسولاً في النسخة الأولى، يجب أن أحاول مرة أخرى في النسخة الثانية والثالثة والرابعة بأن أقلل قدر استطاعتي من سرد المعلومات ويرجع ذلك لأن المتعة الحقيقية وأنا أصنع الأفلام تكمن في أنني أود الاستمتاع قدر الإمكان، فالمتعة الحقيقية تأتي من التعدد المختلف، من الشعر المستنبط من هذه المشاهد المرئية والعناصر المرئية، وهو ما أسعى لتعزيزه في النص بأن يكون هنالك جانباً شعرياً وهذا يعتبر بالنسبة لي تحدياً وليس بالضرورة أن أصل إليه دوماً، ولكن أحاول أن يكون هناك لحظة شعرية لديها قوة كبيرة بحيث يمكنها أن تغير فهمنا لكيفية انقضاء الوقت. على سبيل المثال هنالك لحظة معينة يمكنها إيقاف الوقت، هنالك لحظة شاعرية تحضر لتكون شاركت، سواء أدركت أو لم تدرك، في حركة مقاومة ضد السياسة والعولمة والاحتلال والاستهلاك والشر الذي نحاول أن نوقفه، إن الشاعر وحده من يستطيع القيام بذلك لأن الاستهلاك يقضي على حياتك ووقتك.
حين أتحدث عن العالم فأنا أتحدث عن فلسطين
أما عن فيلمه الأخير “إن شئت كما في السماء”، حيث كان هناك نقلة فجزء فقط من أحداث الفيلم كان يدور في فلسطين أما الجزء الأكبر فكان في فرنسا والولايات المتحدة، حيث يقول المنتج في إحدى المشاهد: لا يجب عليك أن تتحدث عن العالم كفلسطيني، بل يجب أن تتحدث عن نفسك! ولماذا صوره في أماكن مختلفة، يقول سليمان: لا أعتقد أنني قررت أن لا يصور الفيلم كاملاً في فلسطين، فقد جاءت الأمور بشكلها الطبيعي والتلقائي، وتطورت بهذا الشكل، فأنا عشت في نيويورك وفرنسا، وسافرت لأماكن أخرى متعددة وهذا الأمر ولّد لدي لحظات كثيرة قمت بتدوينها في دفتر ملاحظاتي، وتضاعفت هذه اللحظات، وبذات الوقت هنالك عالم مؤثر حولي هو ما ولّد أيضاً لحظات أخرى مؤثرة، وكما قلت سابقاً هناك شيء من محاولة فلسطنة العالم كما أستطيع أن أسميها، وكثير منّا الآن يشعرون بذات الشيء لأنهم يعيشون بنفس الظروف كنتيجة لاحتلال العالم من قبل العولمة والحكومات والجيوش المختلفة وحالات الطوارئ. إن التعاطف مع فلسطين أصبح تعاطفاً عالميا، أينما كنت أنت تتحدث عن الأمور من زاوية فلسطينية، أي أن هناك دوماً فلسطنة للأمور، وهذه الأمر بدأ من فلسطين المحتلة ومن ثم امتد إلى العالم، فأنا حين أتحدث عن العالم فأنا أشعر أنني أتحدث عن فلسطين وحين أتحدث عن فلسطين فأنا أتحدث عن العالم، وفي هذا الفيلم توفرت لي اللحظة لقول ذلك إلى الفرنسيين والأمريكان وغيرهم من دول العالم، أن ما يجب أن نقوم به هو البدء في أن نكون معاً بشكل قوي وأن نواسي بعضنا بعضاً لما يحدث لنا، وأعتقد أن هذا يحدث ليس ضمن الفلسطينيين أنفسهم فقط وإنما مع غيرهم. وصناع الأفلام الفلسطينيون لا يعرّفون أنفسهم جغرافيا أنهم في فلسطين لكن لديهم منظور أكبر مما تعنيه لهم فلسطين، ما تعنيه لهم فلسطين هو أن يكون هنالك فهم أكثر وضوحاً للعديد من القضايا في العالم مثل الهاش تاج الذي انتشر كثيراً في الولايات المتحدة (حياة السود تهم)، فهذا الأمر لم يكن مقتصراً على رؤية حزبية معينة أو على توجه أيديولوجي، إنما تفاعلهم معه يجعل منهم ناشطين عالميين يضعون تصورات لكيف يمكن للعالم أن يبدو أفضل.
أما عن العلاقة بين التصاميم والصياغة والإخراج، فيعتقد إيليا أن الإخراج لا يقتصر فقط على توجيه الممثلين فهو بالنسبة له استخدام تقنيات أخرى لتصميم المشهد، فمثلاً يمكن استخدام تقنيات الانميشن لتصميم الرقص، ليس الرقص بمعناه الحرفي إنما المحاولة للوصول للحظة الشاعرية أو لمفهوم القصيدة الشعرية في المشهد، أي بناء الصورة بكل التقنيات الممكنة التي تكوّن اللغة السينمائية المشهدية.
مضيفاً: وبالنسبة لي هذه الطريقة التي أستخدمها، فأنا لا أتعامل مع الشخصيات كشخصيات بالمفهوم الكلاسيكي لشخصيات الفيلم، لهم أبعاد سيكولوجية نفسية، أنا أراهم أشخاصاً يؤدون حركات كما لو كانوا أنميشن في الفيلم، لذلك حين أكتب النص أقوم بحساب الخطوات، كيف سيدخل هذا الشخص للمشهد وكم خطوة سيقوم بها بداخل الكادر، وهل سوف يستدير لليسار أو لليمين، كل هذه الأمور أفكر بها وأتأملها لساعات وأفكر في الكيفية التي يمكن بها أن أستفيد من كل هذا التناغم في بناء المشهد لتعني شيئاً، وهذا له علاقة مرة أخرى بالسعادة التي أشعر بها حين أقوم بصناعة أفلامي، فلا أفكر كثيراً فيما سيقوله هؤلاء الأشخاص وإنما أفكر أكثر في الكيفية التي يتحركون بها بداخل هذا الإطار أو الكادر، فإذا كان هذا الإطار واضحاً فمن الصعب جداً أن تكون هنالك مرونة كما لدى ممثلي المسرح من حيث حركات الجسد، وعندما يخرج الممثل من هذا الإطار هنالك لحظة يتساءل فيها المشاهد بأن هنالك ثغرة تركها هذا الممثل، وعند عودته لداخل الإطار من جديد يتحول إلى رواية بحد ذاتها.
الطريقة التي يفكر فيها عندما يكتب مشاهده
يقول: بعض الموسيقى تأتي قبل صياغة المشهد، ولكن حين أضع تلك الموسيقى على المشهد عند الانتهاء منه وأشعر بأنها لمستني بمكان ما أتأكد أنها بمكانها الصحيح في المشهد، لكن هذا لا يحدث دائماً، فأنا غالباً أحتفظ بكل تلك الموسيقى والأغاني التي أتخيلها وأنا أفكر بالمشهد في ملف خاص، ما يجب أن أوضحه أكثر أنني أقول بأن عليَّ سماع نفسي وأنا أتحدث، وهذه استراتيجية، حيث عليّ التراجع أحياناً والكثير مما أفكر به يتبخر عند البدء بالعمل على المشهد بشكله النهائي، كل تلك الأصوات الداخلية التي تسكنك هي التي تنتج بعض الأسئلة، وأحياناً إثارة تلك الأسئلة تتحول لمشهدية بحد ذاتها وليس الإجابة على تلك الأسئلة! لأن الكثير من الأسئلة التي تدور في بالك غالباً كأسئلة الهوية ومن أنا وماذا أريد أن أكون، ربما تقودك للإحباط بالنهاية، وهذه الأسئلة تحتاج لكثير من الصدق الذاتي مع النفس، لأن هذه الأسئلة بالنهاية هي المسؤولة عن الصورة التي ستخرج في الفيلم ويراها الآخرون.
وبعد عرضٍ لمشهد من فيلم إيليا سليمان الأول الذي صور بفلسطين “سجل اختفاء”، والذي يُعرض لقيام إيليا سليمان بمحاولة الحديث عن فيلمه الذي يصوره بفلسطين لكن المشكلة التقنية بالميكروفون تحول دون ذلك.
يعلق إيليا سليمان قائلاً: أحب أن أتحدث عن خلفية هذا الفيلم، وعن طبيعة الإنتاج ولكن الحقيقة أنني حتى هذه اللحظة لم أكن أعلم كيف قمت بصناعة هذا الفيلم خاصة أنني كنت المنتج للفيلم، لم أكن أعرف حينها ما الذي يعنيه إنتاج فيلم، ولكنني بدأت أشعر أنني مهووس بكيفية سرد القصة الفلسطينية التي سوف تقدم بديلاً عن الأفلام التي قدمها صناع أفلام أمريكيون أو فرنسيون أو إسرائيليون والذين ادعوا المعرفة، فأردت صنعه كرواية من شخص خارجي، أو من وجهة نظر داخلية وخارجية تقدم بديلاً في سرد الحكاية.
وما حاولت القيام به أن يكون هناك إنتاج على مرحلتين، ولذلك قلت لطاقم الفيلم في الأيام الأولى في بداية التصوير: ليس هناك حبكة واضحة لهذه القصة ولكن في مرحلة ما سوف نتوقف عن التصوير وسوف أذهب لكتابة حبكة الفيلم، وكانت هذه طريقة مجنونة للإنتاج وتكلف الكثير من المال، نتيجة لعودة جزء من الطاقم لبلاده، لذلك كان هناك الكثير من التوتر، رغم ذلك استكملت الكتابة وتصوير الفيلم وكان الجميع يتساءل إن كان هذا ما أردت فعلاً حدوثه؟ حيث أنني كنت بانتظار شيء ما أن يحدث، لكن شيئاً لم يحدث، لذلك عدت للتصوير وصورنا هذا المشهد حين جاءت الشرطة مسرعة وكانوا يتبولون على الجدار، لأننا بالفعل كنا خائفين من قدوم الشرطة الإسرائيلية وتطردنا من المكان، وكان هنالك بالفعل رجل أمن، وكان الرجل الذي يقف ويتبول على الجدار من المفترض به أن يكون أسرع، وبعد أن ينتهي يقفز سريعاً لداخل سيارة الشرطة، ولكنه تأخر وحين قفز للسيارة سقط منه جهاز اللاسلكي وهذا لم يكن مخططاً له، بالنسبة لي كانت هذه الحادثة غير متوقعة لكنها الحدث الذي أنتظره، لذلك أوقفت التصوير وطلبت من الجميع أن يعودوا لمنازلهم، وذهبت إلى بيت ريفي واستمريت بالكتابة عن كيفية استكمال المشهد.
أي أن هذه الحادثة الأساسية كانت هي البحث عن الجهاز اللاسلكي الضائع، ومشاهد المطاردات اللاحقة للبحث عن اللاسلكي هي المشاهد التي كتبتها في المرحلة الثانية من الكتابة بعد مرحلة التصوير الأولى، وهذا الحادث غير المخطط له هو ما صنع حبكة الفيلم. وأوكد أنني لن أقوم بفعل هذا الأمر مرة أخرى، لأنه قبل التصوير الجميع قال بأن هذا السيناريو كارثي ولا يمكن أن يصنع فيلماً جيداً، لكنني بالحقيقة كنت أختبر نفسي وخوض التجربة ومعرفة طبيعة العملية الإنتاجية، وما هي المحددات التي سوف تحدد عملي، ومعظم الميزانية صرفت على مثل هذه المشاهد التجريبية، والتي لم يتضمن الفيلم أكثرها في النهاية، أردت التعرف إلى نفسي سينمائياً لذلك كان مهماً بالنسبة لي القيام بعملية التجريب هذه، لكني لم أكن واعياً للأخطار الناتجة عن هذا التجريب، لأن صناعة الأفلام هي عملية صعبة، وكذلك الأمر عملية جمع أموال الدعم لهذا النوع من الإنتاج، لكني كنت عنيداً جداً لأقوم بالأمور بهذا الشكل، وكنت حراً في هذا الفيلم تحديداً، وثانياً أعتقد أن الظروف الإنتاجية في ذلك الوقت منحتنا للتجريب، لكن في هذه الأمور ستبدو الأمور أكثر تعقيداً إن حاولت التجريب بذات الطريقة مرةً أخرى.
إيليا سليمان ممثلاً
أما عن الدوافع التي حملت إيليا سليمان لأن يكون ممثلاً في أفلامه، منذ فيلمه الأول الذي صوره في نيويورك يقول: دائماً لدي جواب جاهز لأقوله بهذا الخصوص، وهي الطريقة الوحيدة التي يمكنني العودة فيها بالذاكرة، وتذكر مَنْ الشخص الذي كنته في ذلك الوقت، وتذكر ما كان يجول في خاطري في تلك اللحظة، وخاصة بعد سنوات عديدة على مرور الحدث ذاته الذي أحاول تصويره بالمشهد، خاصة أنني أصور أفلاماً شخصية فلماذا أحضرُ شخصاً ليبدو مثلي ويقدم شخصيتيّ! أنا أعرف أن الكثير من المخرجين يقومون بذلك، يحضرون ممثلين ليقدموا أدوارهم، وهذا بالتأكيد ليس خطأ ولكنها طريقة مختلفة. ودعني أقول أنني كنت أمثل بشكل لم يكن فيه أداء لأن حركة الجسد قد تعطي انطباعاً مختلفاً عما أريد قوله ولذلك كنت حذراً جداً فيما يتعلق بلغة الجسد، ولكني حين قمت بالتجربة، رأيت أن قام العالم بصناعة الخلق ورأى أنه يبدو جيداً فقال: ليكن النهار! وأنا شخصياً رأيت أنني يجب التأمل بهذا الأمر، ومن ثم بدأت الكتابة وكنت قد كتبت بعض المشاهد سابقاً، لكن الحكاية ذاتها التي كتبتها في ذلك الوقت لم تكن نفسها التي أصبحت فيلماً بعد ذلك، فبدأت تخيل المشاهد، وبدأت بتخيل نفسي بداخل تلك المشاهد، وشعرت بأن تلك الشخصية يجب أن تكون هناك، لذلك كانت الأمور طبيعية حين أدخلت نفسي بداخل الفيلم لأسرد قصة هذا المخرج الذي هو أنا. إذا الشيء الوحيد الذي أردت القيام به هو عدم تقليد شخصيتي الحقيقية لأنني لو مثلت بشكل حقيقي، فكنت سأفشل.
ما أود قوله أيضاً أنني في الفيلم الأخير “إن شئت كما في السماء” قمت بالأداء، وأصبحت مؤدياً وليس فقط ممثلاً، وهذا ناتج عن تطور شخصيتي بالواقع وبالأفلام منذ فلمي الأول وحتى هذا الأخير، فلم أعد ذلك الشخص الذي يلاحظ الأشياء فقط وإنما صرتُ مؤثراً.
كما تحدث كذلك سليمان بإيجاز عن تجربته عام ٢٠٠٧، حيث عرض له فيلم قصير هو “ارتباك”، الذي تم إنتاجه خصيصاً من أجل العرض في مهرجان كان السينمائي الدولي، مع ٣٣ فلماً قصيراً آخر، عُرضت كفيلم واحد، صنعها مخرجون من ٢٥ دولة موزعة على خمس قارات مختلفة. وفي الفيلم نرى المخرج إيليا سليمان يشاهد فيلمه في قاعة العرض، وهو فيلم روائي قصير، يقول عنه إيليا: هنا أمر واحد عن هذا الفيلم، وهو أنه كان تجربةً مشابهة لتجربة الفيلم الكوبي، حيث اشترك فيه ٣٣ منتجاً أرادوا فيلماً له علاقة بالسينما، وفكرة فيلمي المشارك ضمن المجموعة، جاءت مما روته لي عائلي عن عرض فيلمي لأول مرة في الناصرة، حيث حضر عدد من رجال الدين والسياسيين وجلسوا بالصف الأول، وحين بدأ المشهد الأول للفيلم حيث الأب يطلق العديد من الشتائم، قرر رجال الدين “الباباوات أو القساوسة” الانسحاب بسبب تلك الشتائم، ومن هنا جاءتني فكرة فيلم ارتباك.
وعودة إلى فيلم إيليا سليمان “الزمن المتبقي” والذي صور الجزء الأكبر منه أحداث نكبة ١٩٤٨ أثناء احتلال مدينة الناصرة، وتجربته بالعمل على فيلم تاريخي، فيقول: إن العمل على موضوع تاريخي كان مربكاً إلى حد ما، لكنها لم تكن قصة مأخوذة من وثائق تاريخية، كانت تلك قصة والدي واستمعت إليها مراراً منه وطلبت منه أن يدونها، وذهبت للناصرة بعد وفاته من أجل صناعة الحكاية، كما قمت بالتصوير بالمواقع الحقيقية التي وقعت بها الأحداث في النكبة، حيث ارتكبت عصابات الهاجاناة المذابح في تلك المناطق، لذلك كان الفيلم مزيجاً مما رواه والدي ومن رؤيتي أنا لكيفية حدوث الأمور في ذلك الوقت، لكن هذا الأمر جعل أمامي الكثير من المحددات والتحديات، فلم أكن أشعر بالحرية الكاملة في أن أصوره كما أفعل بأفلامي الأخرى، أن أحدّ من الحوار، لكن في هذا الجزء من الفيلم لم يكن بإمكاني فعل ذلك، كان هناك الكثير من المعلومات التي يجب أن تقال بالفيلم لذلك لجأت في أجزاء منه للحوارات.
في فيلمه أيضاً “يد إلهية”، هنالك مشهد لحاجز إسرائيلي يوقف سيارة إسعاف فلسطينية ويقوم بتفتيشها قبل السماح لها بالمرور، في حين يجلس إيليا سليمان في سيارته مقابل الحاجز وينظر له من بعيد.
وهو المشهد الذي يقول عنه سليمان أنه حاول فيه إظهار العنف الإسرائيلي دون أن يكون هنالك عنف في المشهد، وكذلك الأمر في مشهد أخر حين تصل سيارة الشرطة وينزل منها بعض رجال الشرطة القادمين من مهمة ويستعدون للذهاب لمهمة أخرى، وهذا هو الاحتلال وعنفه -كما يقول- الذي يمكن للمشاهد أن يشعر به دون أن يراه بشكل مباشرة، وأذكر أن أحد النقاد الإسرائيليين قال عن الفيلم أنه تمنى لو رأى مشهداً لجندي إسرائيلي يكسر يد طفل فلسطيني، الأمر الذي يعتبره سليمان إطراءً للفيلم.
وأخيراً ختم “الماستر كلاس” بتعليق سليمان على مشهد آخر من فيلم “يد إلهية”، حيث يركب سيارته عابراً شارعاً طويلاً وهو يأكل حبة خوخ، ثم يرمي ببذرة الخوخ على دبابة إسرائيلية تحملها شاحنة تمر بالقرب منه فتنفجر الدبابة، قائلاً: في الحقيقة جاء هذا المشهد كذلك من لحظة حقيقية، حيث كنت أقود السيارة قادما من القدس وفي إحدى الطرق كان هناك شاحنة كبيرة تحمل دبابة تأتي بالاتجاه المعاكس، وكنت أكل فاكهة وكانت دراقا وليس خوخاً كما في المشهد، حيث كانت هذه الدبابة ذاهبة الى مكان حيث يجري قصف جنوب لبنان، فرميت هذه البذرة على الدبابة وأحدثت صوتاً ضخماً في مخيلتي، فقلت هذا مشهد مثير للاهتمام، فأوقفت السيارة جانباً وكتبت المشهد، وكان مشهد يحتاج للكثير من الإمكانيات الإنتاجية لتنفيذه، لذلك طلبنا من مدير الإنتاج الإسرائيلي الذي كان يسعده ازعاج الجيش الإسرائيلي لكونه يسارياً ناشطاً، وقلت له كيف نستطيع أن نقوم بذلك؟ فقام بطلب الدبابة من الجيش الإسرائيلي الذي أبدى موافقة على إعارتنا الدبابة، لكن المشكلة كانت بكيفية تنفيذ تفجيرها، وهو الأمر الذي لم يكن ممكناً بالنسبة للجيش الإسرائيلي، لذلك تواصل المنتج تواصل مع الجيش الفرنسي الذي وجد أن هذا أمر مثيراً للاهتمام بأن يقوموا بتصوير تفجير الدبابة ليس من الخارج فقط وإنما من الداخل، فأعطونا دبابة وأصبح طاقم المشهد هو من الجيش لكون العملية تستلزم كمية هائلة من المتفجرات لتنفيذها، وكان هنالك عقيد يشرف على عملية التفجير، وقمنا بتصوير المشهد ولسوء الحظ معظم كاميرات الجيش الفرنسي دمرت من الانفجار الكبير الذي كان أكبر مما توقعنا. وبقيت لمدة عام بعد هذا المشهد كلما شاهدت خوخة أصبت بالغثيان لكثيرة ما أكلت من خوخ أثناء تصوير هذا المشهد.