أصدرت “مؤسسة الدراسات الفلسطينية” مؤخرًا كتابًا جديدًا للدكتور بشار شموط يحمل اسم “الإرث الفلسطيني المرئي والمسموع، نشأته وتشتته والحفاظ الرقمي عليه“. يتحدث الكتاب عن كيفية حفظ الإرث المرئي والمسموع باستخدام الوسائل الرقمية الحديثة، وضرورة توثيق الذاكرة الجماعية الفلسطينية المهدَّدة بالضياع بفعل الأوضاع السياسية والمعيشية والتحديات المفروضة على الشعب الفلسطيني.
تنقسم محتويات الكتاب إلى ثلاثة أبواب: تاريخ إنتاج المواد المرئية والمسموعة؛ أماكن وجود المواد في أرشيفات العالم وكيفية الوصول إليها؛ وبعض الأساسيات التقنية المعمول بها في الأرشفة الرقمية لمساعدة العاملين في هذا المجال في العالم العربي. يتطرق الكتاب بالطبع الى المحاولات الإسرائيلية الدائمة لطمس الهوية الفلسطينية من خلال الهيمنة على الأرشيف، وهنا يتطرق الى نهب الأرشيف خلال اجتياح بيروت في العام 1982 وبذلك فقدان أهم محتويات الإنتاج الفلسطيني ذات القيمة التاريخية والقومية والتاريخية العالية!
“رمّان” حاورت مؤلف الكتاب بشار شموط، الذي وُلِد في بيروت إبنًا للفنانيّن إسماعيل شموط وتمام الأكحل؛ أمضى طفولته فيها وأكمل دراسته الثانوية في ألمانيا ودرس بعدها هندسة الصوت والتسجيل الموسيقي، وأنتج العديد من التسجيلات الموسيقية لفنانين كبار عالميين وعرب. تخصص في مجال الأرشفة الرقمية للإرث المرئي والمسموع وحاز على درجة الدكتوراه في هذا المجال من جامعة بادربورن الألمانية المتخصصة بالإرث الثقافي وبتقنية المعلومات الرقمية. يعمل شموط رئيساً لقسم الأرشفة في شركة ألمانية متخصصة، وكذلك مستشاراً ومحاضراً في عدد من المؤسسات الأكاديمية في ألمانيا والوطن العربي.
حدثنا عن المواد التي يتم التطرق إليها ضمن المشروع؟ ماذا نملك من إرث مرئي ومسموع؟ وعن أي سنوات نتحدث؟
الأرشيف الفلسطيني متناثر ومتشتت أكثر من الشعب الفلسطيني نفسه، جزء كبير من تاريخنا وذاكرتنا الجمعية كلها متواجدة في أيدي غير فلسطينيين. في هذا الكتاب أحاول تسليط الضوء على تشتت الأرشيف المرئي والمسموع وأماكن تواجده وكيفية الوصول اليه، طبعا لا بد من التطرق للتاريخ الثقافي والسياسي الذي يعتبر مرادفًا للمشوار الطويل. عمليا نحن نتحدث عن أواسط القرن التاسع عشر مع بدايات التصوير الفوتوغرافي مرورا بالقرن العشرين وهو قرن فيه زخم وعطاء كبيرين، لكن أواخر القرن التاسع عشر حتى سنوات الالفين هذا الجزء شهد تغييرات وتطورات كبيرة في المجال المرئي والمسموع وقد حاولت نشر مادة موسعة عن هذا الموضوع في الكتاب.
بماذا تتلخص إشكاليات العثور وجمع المواد المرئية والمسموعة من ناحية تقنية ومن ناحية الأجسام التي تملك هذه المواد؟
أرى أن هناك مشكلتين أساسيتين: الأولى متعلقة بمهنة الارشفة في العالم العربي وتحديدا في فلسطين، فهي غير متطورة بما يكفي . لقد سرقت الكثير من المواد عبر التاريخ وأهمها ما سرقه الاحتلال خلال اجتياح بيروت في العام 1982. نحن لا نحترف الأرشفة ونفتقر للمعلومات التي يمكن أن توصلنا إلى مكان وجود الأرشيف. سمعت الكثير من الأحاديث حول المواد والصور، لكن ما هي الأفلام الموجودة وما هي الصور وما أحجامها ونوعياتها وأرقامها. لا نعلم.
المشكلة الثانية عدم توفر قوانين متعلقة بالأرشفة في فلسطين والعالم العربي والتي تنظم عملية الأرشفة وتضبطها لأن الأرشيف ملك الشعب، ويجب توفر اليات لإتاحة هذا الأرشيف للجمهور. فمثلا عثرت على اسطوانة جرامفون من العام 1920 في أرشيف المتحف التكنولوجي في برلين وهي لرجب الأكحل من يافا ابن عم أمي، وكنت أعرف قصته وأنه كان يغني ويسجل الأسطوانات لكني لم أسمع أغانيه ولم أعثر على تسجيلاته. عندما توجهت للارشيف طالبا نسخة تم توقيع عقد معي بأني لن أقوم بالمتاجرة بهذا التسجيل. على الرغم من أني وريث ويحق لي الحصول على هذه المادة إلا أن القانون وتشعباته معقدة ولا مجال للحصول على نسخة إلا وفق القانون وهذا نفتقده جدا في عالمنا العرب
نحن لم نحترف الأرشفة بسبب الاحتلال أم أننا لم نحترفها بغض النظر عن الاحتلال؟
مزيج من الاثنين. لكن برأيي الوضع السياسي الذي يعيشه الفلسطينيون في ظل الاحتلال والتشرد والتشتت هو العامل الأقوى. من الصعب أن نتمكن من المقاومة والتقدم في المجال الثقافي. لكن سابقا قبل الاحتلال الإسرائيلي كنا قادرين على احتراف الأرشفة لكننا لم نأخذ الأمر على محمل الجد.
في بيروت كان هناك إنتاج ضخم جدا في السبعينات برعاية منظمة التحرير وهيئة الاعلام الموحد ومؤسسة السينما الفلسطينية، وبوجود إنتاج ضخم كان يجب أن تكون هناك أرشفة وليس حفظ المواد تقنيا من التلف فحسب، بل سجلات تبيّن ماهية المواد المؤرشفة حتى نتمكن من التعرف على المواد في حال فقدانها، ونعرف كيف نطالب بها. لقد تمكنت من إثبات وجود الكثير من موادنا في الأرشيف العسكري الإسرائيلي لكن لا توجد أرضية قانونية للمطالبة بها! هناك بوسترات لوالدي الفنان إسماعيل شموط والتي نهبت وعندي أدلة على ذلك، لكن لا توجد طريقة تمكنني من المطالبة بها، بما معناه اني لو توجهت وطالبت وكان ردهم أن المواد غير متوفرة لديهم تكون القصة قد انتهت لأني لا أملك إثباتاً متعلقاً بأرشفة هذه المسروقات لمواجهتهم.
هل يدور الحديث بشكل عام عن مواد متوفرة ولكنها متناثرة ام مواد تمت سرقتها والاحتفاظ بها في أياد غير فلسطينية؟
عندما بدأت البحث كنت أقول لنفسي بأن هؤلاء الأوروبيين نهبونا ونهبوا تاريخنا. ثم استوعبت أن ذلك جاء في صالح المواد لأنه تم الحفاظ عليها من التلف والضياع مثل أسطوانات رجب الأكحل. لقد عملنا كعائلة وأصدقاء في البحث عن اسطواناته في العالم العربي كله ولم نعثر على أثر وعندما وجدت الاسطوانة في برلين شكرت الحظ الذي وضعها بأيد تمكنت من الحفاظ عليها. لو كانت لدينا الإمكانية للوصول إلى المواد والأرشيفات لكنا استفدنا منها كثيرا وخاصة في تعزيز ذاكرتنا الجماعية، وهنا أود أن أشير بأن الدول الغربية يمكن أن تتيح لنا المواد لأنها تمتلكها لتثري بها دراساتها وتحولها لمصدر للعلم والبحث، عكس الأرشيفات الإسرائيلية التي تسعى لطمس كل ما يتعلق بالهوية الفلسطينية. كلا الحالتين تعتبران تحدياً كبيراً لنا.
هل تؤثر الصراعات السياسية الداخلية الفلسطينية في الحفاظ على الأرشيف؟
جدا، مثلا من اللافت للانتهباه أنه حتى العام 2006 كان موقع التلفزيون الفلسطيني في غزة، وعندما استلمت حماس زمام الأمور وضعت يدها على الأرشيفات ولا تزال هذه المواد محتكرة لدى حماس وترفض إطلاع الجمهور عليها. ألا يكفينا احتكار الاحتلال للمواد؟ الأمر محزن جدا، خاصة وأن هناك قيود تفرض على الإنتاج المرئي والمسموع ، في غزة بالذات. بشكل عام الأرشيفات تكون أولى ضحايا الصراعات السياسية لأن مالك الأرشيف يكتب التاريخ.
أهم التحديات التي تواجه رقمنة المواد؟ الجودة آم الحرص على الدقة والمصداقية وعدم التلاعب؟
رقمنة المواد هي عملياً تسهيل البحث عن المعلومة، بدل الدخول للمكتبة وتشغيل الأقراص والبحث فيها يدويا. بالنسبة للباحث هذا إنجاز كبير، لكن بالنسبة لنا في العالم العربي والفلسطينيين تحديدا، حيث لا يمكن للاجئ الفلسطيني في لبنان أن يبحث في أرشيفات الدول العربية وأوروبا؛ أصبح للرقمنة بعد أهم من البعد البحثي، تعتبر الرقمنة هنا ضرورة وليست رفاهية، شرط أن تقدم بشكل علمي صحيح.
أحيانا تصلني فيديوهات أو روابط لفيديوهات مسجلة تحت سنوات لم يكن التصوير فيها متاحا أصلا لعدم توفر الأجهزة حينها، وتصلني معلومات واضح انها غير صحيحة وغير موثوقة وهذه خطورة كبيرة على المواد ومصداقيتها، بالذات للباحث، ولا شك أيضا للإنسان العادي الذي يمكن أن يتأثر من مواد غير موثوقة المصدر.
خصصت باباً للمتحف الفلسطيني، هل برأيك هذا المتحف كاف أو أنه هو العنوان للحفاظ على المواد الأرشيفية أم يجب أن تكون مؤسسات أخرى أو أرشيف مستقل؟
يا ريت لدينا أرشيف مستقل. لقد تطرقت لموضوع المتحف لأنه العنوان الأهم حاليا، عندما قمت بالكتابة قبل سنتين كان المتحف عنواناً لنا كفلسطينيين وفكرة توفير محتوياته الكترونيا مهمة. ربما تكون هناك انتقادات لدى الجمهور على المتحف ولكن الفكرة مهمة ويجب أن يكون هناك تنسيق بين المؤسسات الفلسطينية المختلفة. في الداخل الفلسطيني هناك مؤسسات تعمل في موضوع الذاكرة والأرشفة لكنها متفرقة، الاستقلالية مهمة لكن التنسيق أهم، لأنه يوفر لدينا شبكة أرشيفات تماما كما تُدار الأمور في أوروبا. لا توجد دولة او مؤسسة قادرة على احتواء كل شيء ومن جهة أخرى التخصص في موضوع معين مهم جدا للأرشفة. نقدي للمتحف هو محاولته احتواء كافة أنواع المواد والوثائق لديه عوضاً عن اتخاذه دور الريادة في تنسيق عملية الأرشفة بمعايير موحدة مع باقي المؤسسات العاملة في هذا المجال، ليؤسس بذلك الشبكة التي تكون الحجر الأساس لبناء أرشيف وطني فلسطيني في المستقبل.
ما الفروقات ما بين المواد المرئية والمسموعة قبل وبعد النكبة؟
هناك فرق أساسي ويأخذنا الى تاريخ الانتاج الفني والثقافي، فلسطين كانت متطورة وثرية مقارنة بدول اخرى في بلاد الشام فكانت القدس ويافا وحيفا مراكز ثقافية هامة. بعد ال 48 كان هناك انقطاع وولد لدينا توجهان، الأول حتى أواسط الستينات لأن الناس كانت لا تزال تعيش البوست تراوما بعد التهجير، ومن بقوا في البلاد أصبحوا في دولة غريبة. الإنتاج استمر في مجالات الرسم ونظم الشعر والكتابة مثلا، لكن الانتاج كان فردياً وليس انتاج فرق او مجموعات، مثلا لم تكن هناك فرق موسيقية او مسرحية او انتاج سينمائي. بوجود منظمة التحرير في العام 1965 تم فتح الباب بشكل ممنهج ومدروس أمام إعادة الإنتاج المرئي والمسموع وتطوره من اجل ايصال الرسالة الفلسطينية الموحدة للعالم بشكل حضاري.
ما رأيك بوجود مبادرات متفرقة لحفظ الأرشيف الشخصي؟
من المهم وجود مثل هذه المبادرات، ربما هناك 20 مبادرة في فلسطين والشتات. البحث والتأكد من المعلومات قبل نشرها يميز هذه المبادرات وهو صحيح ويجب دعمه. الأرشيفات الخاصة مهمة لان هؤلاء الأفراد جزء من الشعب ويعكسون تاريخ شعبهم وحضارته وتفاصيل حياتهم من خلال صورهم او تسجيلاتهم، وتتحول الى ارث جمعي بعد سنوات طويلة.
كيف نتيح أهمية الأرشيف للإنسان العادي ليعرف قيمة الصورة التي وجدها في خزانة العائلة؟
اعتقد ان الحل هو برنامج توعية حول أهمية هذه الموجودات، وكيفية الاستفادة منها. ربما يبدأ الأمر من المدارس وإعطاء آليات للحفاظ على هذه المواد. هنا اريد ان اذكر مثلا إرث سلفادور عرنيطة، وهو موسيقي من القدس مواليد سنوات ال ٢٠ وتوفي في الثمانينات وهو برأيي من أهم الموسيقيين الفلسطينيين الذين ألفوا مقطوعات هي مزيج ما بين الموسيقى الكلاسيكية والعناصر الشرقية. في الكتاب أتحدث عنه وعن تسجيل “سجل انا عربي”. هذا ملحن عنده كمية مقطوعات كبيرة الفها بعد ان تهجر الى بيروت بعد 1948. في التسعينات توجهت زوجته الى امريكا من عمان وكنت بتواصل معها للحصول على النوتات الاصلية التي كتبها سلفادور عرنيطة بخط يده -المخطوطات- لكنها لم تعرف مكان وجودها وانتقلت كل المواد التي تركها الى الابنة في أمريكا، وهذه المرأة لم تعرف ما الذي يمكنها ان تفعله مع كل الارشيف فوضعته في مصف السيارة حيث يتعرض لخطر التلف! وقالت انها لم تجد مؤسسة فلسطينية معنية بهذه المواد.
ومثال اخر؛ هناك فنان سوري الأصل فلسطيني القلب – هكذا اسميه- اسمه برهان كركوتلي، له أعمال فنية خاصة ومميزة جدا، حصلت على مجموعة لوحات اصلية موقعة بخط يده لأن الشخص الذي كان يمتلك هذه اللوحات كان يريد التخلص منها! والمخرجة الالمانية مونيكا ماورر التي عملت مع مؤسسة السينما الفلسطينية في السبعينات تملك الكثير من الأرشيفات من مواد صوتية وافلام ولا يمكنها الاحتفاظ بها، ومع تقدمها في العمر أصبح خطر ضياع هذه المواد وشيكا لكن حرصها عليها جعلها تتواصل معي لآخذ المواد، بعد انتهاء ازمة كورونا ساحاول السفر الى روما للحصول عليها. انا املك الكثير من التسجيلات واللوحات والوثائق واحاول إنقاذ ما يمكنني إنقاذه لكني في النهاية شخص ولست مؤسسة. وأنا احلم بإقامة مؤسسة وطنية فلسطينية تأخذ على عاتقها هذا المجهود وجمع الأرشيف.
ما هي تطلعات وجهود بشار شموط المبذولة لبناء أرشيف؟
لا توجد أرضية خصبة لبناء أرشيف، لكن بدأت العمل على بنك معلومات حول الأرشيفات التي تحتوي على مواد لها علاقة بالتاريخ الفلسطيني في العالم. بدأنا من هنا في ألمانيا وهي دولة مهمة للارشيف الفلسطيني لانها حظيت باهتمام المستشرقين الألمان الذين قاموا بتصوير فلسطين كثيرا ولا تزال هناك آلاف الصور التي لم تتم رقمنتها بعد. من جهة أخرى فإن طباعة الأسطوانات الموسيقية كانت تتم في برلين ولذا توجد هنا أعداد كبيرة من الأسطوانات، منها أسطوانات رجب الأكحل الذي ذكرته سابقا. في فترة الستينات حتى الثمانينات كان لألمانيا الشرقية دور مهم في دعم الفلسطينيين إعلاميا وثقافيا – فأول فيلم روائي من إنتاج منظمة التحرير “عائد الى حيفا” أنتج بالتعاون مع ألمانيا الشرقية، كذلك مسلسل “بأم عيني” الذي بدأ تصويره في ألمانيا الشرقية. فالتطلعات هي فحص محتويات الأرشيف في المانيا ومن ثم الانطلاق لفحص ما هو متوفر في أوروبا، واتاحتها للباحثين، وهي ستكون بمثابة قاعدة لبناء أرشيف وطني مستقبلا.