شكّل العام ١٩٦٨، الذي تلا هزيمة حزيران، تحولاً كبيراً في طريقة تفكير الفلسطينيين ورؤيتهم لقضيتهم، بعد أن أدركوا أن الدول العربية المرتهنة أنظمتها للمنظومات الرأسمالية الأمريكية والأوروبية، والتي تعهدت بإعادتهم لبلدهم، لا تمتلك الرؤية الواضحة لخوض حرب تحرير، وأن لا خيار أمامهم إلا الكفاح المسلح، ومن هنا تبلورت فكرة الثورة الفلسطينية المسلحة بشكل أكبر.
هذا التحول شمل أيضاً مجموعة من السينمائيين الفلسطينيين في الأردن، الذين قرروا بدورهم تحمل المسؤولية عبر انضمامهم لصفوف الفدائيين في حركة “فتح” التي تأسست قبل سنوات قليلة في الكويت، متحملين مسؤولية وضع نواة أول حراك سينمائي مرافق لثورة شعبهم، أو كما تصفهم الكاتبة والمخرجة السينمائية خديجة حباشنة في مقدمة كتابها «فرسان السينما… سيرة وحدة أفلام فلسطين»، الذي صدر نهاية العام ٢٠١٩ / ٢٠٢٠ عن دار الأهلية للنشر في الأردن، بقولها: “هذا الكتاب يروي قصة مجموعة سينمائية استثنائية وفريدة في ريادتها، كأول وحدة سينمائية متخصصة ترافق حركة تحرر وطني مسلحة منذ البداية”.
وصدر الكتاب في الذكرى الخمسين لإنتاج أول فيلم فلسطيني في مرحلة سينما الثورة “لا للحل السلمي – من إنتاج وحدة أفلام فلسطين”، التي أسسها من تصفهم خديجة حباشنة بأنهم: “مجموعة فنانين سينمائيين، كان قدوتهم الفدائي، ارتجلوا وجربوا”. كما تزامن صدور الكتاب كذلك الذكرى السنوية العاشرة لرحيل أحد مؤسسي هذه السينما الكاتب والمخرج السينمائي مصطفى أبو علي، زوج خديجة ورفيق دربها في الحياة والسينما والثورة، منذ تعرفا إلى بعضهما أيضاً في العام ١٩٦٨.
فرسان السينما
قدمت خديجة حباشنة في كتابها، ما يمكن اعتباره وثيقة تاريخية، تليق بمستوى رفاقها الذين رحلوا، مصطفى، سلافة وهاني، وهي لا تقل أهمية عن رفاقها من حيث الجهد الذي قدمته من خلال عملها معهم، وكذلك أفلامها التي صنعتها، وعملها الدؤوب على جمع الأرشيف الفلسطيني السينمائي، وهو ما يضعها أيضاً في موضع الشاهد المطالب بتقديم شهادة تاريخية، تقدم فيها كباحثة تصحيح الكثير من المعلومات المغلوطة عن تلك الحقبة، وكذلك تسرد سيرتها الذاتية وسيرة رفاقها الذين عملت معهم، المخرج والكاتب مصطفى أبو علي، سلافة جاد الله (أول مديرة تصوير عربية)، والراحل هاني جوهرية أحد أبرز مصوري سينما الثورة.
جاء الكتاب بلغة أقرب للسيناريو التسجيلي منه إلى اللغة التقريرية الصحفية أو التوثيقية الجافة، مانحة قراءها متعة الإحساس والتخيل، فهي تصف الأماكن بطريقة أقرب إلى السيناريو منه إلى البحث والتوثيق، وتقسم الكتاب حسب تسلسله الزمني بطريقة أقرب للمشهدية السينمائية، حرصت فيها على دقة التوثيق، وعرض الشهادات في سياق وثائق، فلم تتصرف تحريريًا برسائل إخوة وأصدقاء سلافة وهاني، ونشرتها كما هي بلهجتها العامية أحياناً، ودعمتها بالصور النادرة لهم، ما منح السرد والروايات مرجعية توثيقية.
سيرة وحدة أفلام فلسطين
في أيلول ١٩٦٦ التقى الشاب العائد من لندن هاني جوهرية، بعد أن أنهى دراسته من المعهد البريطاني، بسلافة جاد الله، أول مصورة سينمائية عربية وخريجة معهد السينما في القاهرة، في مكتب مدير قسم السينما في وزارة الإعلام الأردنية، المخرج الأردني علي صيام. وتعمقت زمالتهما أكثر خاصة بعد حرب حزيران ٦٧، حيث كان الاثنان يعملان في وزارة الإعلام الأردنية، وشمل عملها حينها تغطية الحرب وتهجير الفلسطينيين الثاني، في ذلك الوقت كان مصطفى أبو علي قد عاد من لندن بعد أن أنهى دراسته في معهد لندن لتقنيات الفيلم، وانضمّ للعمل معهم في وزارة الإعلام الأردنية، ومن خلال عملهم صوروا مجموعة أفلام وثائقية من بينها: فيلم “الخروج”، “الأرض المحروقة”، “وزهرة المدائن” وهي من إخراج علي صيام وتصوير هاني جوهرية وسلافة جادالله، وفيلم “الحق الفلسطيني” عام ١٩٦٨ والذي يعتبر باكورة أفلام مصطفى أبو علي التي أخرجها وصورها كل من سلافة وهاني.
ومنذ انضمامهم للثورة الفلسطينية، بدأوا يفكرون فيما يمكنهم تقديمه من خلال الكاميرا، فقرروا بعد التواصل مع أحد قيادات الثورة الراحل خليل الوزير “أبو جهاد”، كما يقول هاني جوهرية في مقال له تضمنه كتاب خديجة حباشنة، “من تأسيس قسم للتصوير الذي اقتصر عمله بدايةً على توثيق صور الشهداء وبعض الأعمال الخاصة بالثورة، ولكن بعد معركة الكرامة ٢١ آذار ١٩٦٨، التي صمد فيها فدائيو الثورة الفلسطينية أمام قوات الاحتلال في قتال بطولي دام أكثر من ١٩ ساعة، مما اضطُرَّ قوات من الجيش الأردني للتدخل في المعركة إلى جانب الفدائيين. شهدت الثورة هجوماً صحافيًا عالمياً، فجاءت الحاجة إلى الصور الفوتوغرافية، وحصلنا على مكان للعمل، كانَ عبارةً عن مطبخٍ في أحد البيوت”.
لكن سرعان ما بدأت الوحدة تمتلك بعض المعدات والإمكانيات، خاصة بعد استقالة هاني جوهرية وسلافة جاد الله من وزارة الإعلام الأردنية وتفرغهم للعمل في السينما التي أسسوا لها، حيث يقول مصطفى أبو علي: “الوحدة تمكنت أواخر عام 1969 بعد امتلاك كاميرا تصوير سينمائي (آريفيلكس) وآلة تسجيل صوت (ناجرا) من إنجاز أول أفلامها الوثائقية بعنوان (لا للحل السلمي)، ومما أذكر شخصياً عن تلك الفترة حصول الوحدة على آلتين للعرض (بروجكتر 16ملم) وعدد من الأفلام عن نضالات الشعوب، قُدمت هدية للثورة الفلسطينية، وكانت بداية التحرك السينمائي مع عرض هذه الأفلام على قواعد الفدائيين في غور الأردن وجنوب لبنان وفي المخيمات”.
لكن هذه الوحدة أصيبتْ بأول نكباتها عندما أصابت رصاصة رأس سلافة التي كانت نواة المجموعة وعصبها المحرك وأقعدتها عن العمل عام ١٩٦٩.
الثورة والسينما
تؤرخ خديجة لسينما ثورية، صنعها مقاتلون، سينمائيون، ثوريون، ولأن بلاد هؤلاء المقاتلين التي سلبت منهم، لم تكن قد نضجت بعد في مأسسة صناعة السينما، فلم يكن لديهم مرجعيات سينمائية ثابتة يستندون إليها، فخاضوا بحثهم الشخصي وتجاربهم في صناعة منهجيّتهم الخاصة، فمحاولات الفلسطينيين لصناعة أفلام قبل النكبة كانت جميعها مبادرات فردية وشراكات أفراد مع بعضهم، في محاولات لتأسيس استوديوهاتٍ صغيرة لإنتاج الأفلام، كما في حالة استوديو فلسطين الذي أسسه شاب فلسطيني هاوٍ للسينما اسمه إبراهيم حسن سرحان، في مدينته يافا منتصف ثلاثينيات القرن الماضي. لم يكن سرحان قد درس السينما أكاديمياً في أي مكان، وبالرغم من ذلك استطاع إنتاج بعض الأفلام القصيرة والمتوسطة الوثائقية والروائية، وأفلام أخرى أنتجها وأخرجها من عاصروا سرحان مثل محمد صالح الكيالي الذي درس التصوير والسينما في فرنسا وإيطاليا، خميس شبلاق، وجمال الأصفر، والذين يعتبرهم بعض من وثقوا السينما الفلسطينية، روادَ صناعة الأفلام في فلسطين.
يحتوي الكتاب سرداً تفصيلياً لمسيرة سينما الثورة، وتحديداً وحدة أفلام فلسطين، وبمجهود بحثي واضح وكبير، لم تغفل تقريباً حتى من عملوا ولو لفترة قصيرة بالوحدة من الفدائيين، فنحت منحىً توثيقياً يعتمد على توثيق السينما من خلال توثيق حياة مؤسسيها وروادها.
بعد أحداث أيلول الأسود عام 1970 تفرق أعضاء قسم التصوير ووحدة الأفلام، فسلافة كانت تخضع للعلاج من الإصابة التي تسببت لها بالشلل النصفي، وبقي هاني جوهرية في عمّان قبل أن يلتحق بهم لاحقاً في العام ١٩٧٥، أما مصطفى أبو علي فتوجه إلى بيروت مع قيادة الثورة، وفي بيروت تطورت وحدة أفلام فلسطين مع انضمام مصورين وأعضاء جدد وعودة عدد من الكوادر من أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي بعد تلقيهم دورات تدريبية على التصوير السينمائي وهندسة الصوت، فأصبحت “وحدة أفلام فلسطين” تضم قسماً للتصوير الفوتوغرافي وقسماً لإنتاج الأفلام.
كما بدأت التنظيمات الفلسطينية الأخرى كالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لاحقاً، بتأسيس وحدات للسينما، وفي العام ١٩٧٢ طُرحت فكرة توحيد جميع أقسام ولجان السينما لدى المنظمات الفلسطينية في مؤسسة واحدة للسينما تتبع دائرة الإعلام الموحد لمنظمة التحرير الفلسطينية، لكن المشروع لم يكتب له النجاح، فتم تأسيس (جماعة السينما الفلسطينية) كبديل عن ذلك في أواخر العام ١٩٧٣، وفي العام التالي طرح مصطفى أبو علي وآخرون محاولة أخرى لتوحيد أقسام السينما ولم يكتب لها أيضاً النجاح، وبعد فترة تغير اسم وحدة أفلام فلسطين إلى مؤسسة السينما الفلسطينية.
كانوا بالأصل فدائيين
ما صنعته وحدة أفلام فلسطين، لم يكن مرحلياً ليتوقف بعد توقف الثورة، فخديجة نفسها مؤلفة الكتاب، هي أيضاً ابنة وحدة أفلام فلسطين، الوحدة التي اتخذت شعاراً لها “نحن في الأصل فدائيون”، ولا تزال حتى اليوم تبذل جهداً كبيراً في الحفاظ على إرث الوحدة، وإرث رفاقها الذين رحلوا، وقد بدى ذلك جلياً في الجهد الكبير المبذول عبر سنوات في الكتاب، من البحث والتقصي لتوثيق الأحداث انتقلت فيها بين عدة دول ومدن، تبحث بين الصور ومقاطع الأرشيف والصور الفوتوغرافية والوثائق الشخصية، تجمع الشهادات الشخصية، وتجري المقابلات، متخذة على عاتقها تقديم وثيقة تاريخية توثيقية تليق بمستوى زملائها ورفاق دربها من الفدائيين السينمائيين، وتقدم وثيقة تاريخية مهمة عن مرحلة صعبة وشائكة من مراحل السينما الفلسطينية، التي فقدت الكثير من أرشيفها خلال الحروب المتعاقبة.
«فرسان السينما» ليس فقط كتاباً توثيقياً، إنه سردٌ شيّقٌ وسلس، كما لو كان فيلمًا تسجيليًا رشيقَ السرد البصري. كتاب مليء بالمشاعر التي عادة ما تفتقدها الكتب التوثيقية للمراحل التاريخية.