تأملات معمارية في بنيان جبرا إبراهيم جبرا

Piet Mondrian, Church tower at Domburg, 1911

عبدالله البياري

كاتب وباحث من فلسطين

وقبل أن نحفر أكثر في تلك العلاقة بين الرمزي في السرد والمادي في العمارة والعمران، لنتأمل نموذجًا نصيًا لجبرا إبراهيم جبرا عن مدينة عمورية في روايته المشتركة مع عبد الرحمن منيف؛ "عالم بلا خرائط":

للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

14/01/2021

تصوير: اسماء الغول

عبدالله البياري

كاتب وباحث من فلسطين

عبدالله البياري

يقول روبرت بارك عالم الاجتماع الحضري إنَّ “المدينة هي أكثر محاولات الإنسان اتساقًا، وبشكلٍ عام أكثرها نجاحًا في إعادة تشكيل العالم الذي يعيش فيه بما يتفق بدرجة أكبر مع رغبات قلبه. (…) فالإنسان بشكلٍ غير مباشر، ودون إدراكٍ واضح بطبيعة مهمته، قد أعاد أثناء خلقه للمدينة تشكيل نفسه”(1)، ولكن إن حفرنا أبعد من ذلك بقليلٍ من معول الخيال، لرأينا أن ذلك ينطبق على السرد، رواية وشعرًا ونثرًا، أيضًا.

من هنا جاءت فكرة المقاربة المتداخلة الحقول Interdisciplinary التي نفذتها في تجربتي الأكاديمية البسيطة، فقد طلبت من طلبة وطالبات العمارة أن يقرؤوا ويقرأن نصًا روائيًا (ما)، ويختاروا مشاهد ما بعينها منه، لبنائها معماريًا وحضريًا، وذلك بالتشارك مع طلبة وطالبات قسم العلوم الاجتماعية، وطلبة وطالبات الدراسات الأدبية.

كان على الطلاب حينها أن يختاروا/يخترن رواية أو قصة قصيرة، كان لهم/ن تجربة ما معها، وأن يتأملوا/يتأملن تلك التجربة قبل أن يقترح النص الروائي أو القصص نصًا مركزيًا في كل تلك العملية، كان الطلاب يتساءلون: لماذا؟ فلتختر لنا نصًا ما كيفما أردت. 

إذا فعلت ذلك، كنت قد موضعت سلطتي الأبوية الهيراركية في المنظومة التعليمية حكمًا ومقررًا، وهو ما تركتُ الأكاديمية -في ما بعد- بسببه. ثانيًا، كانت الفكرة الأساسية من كل هذه البناء، هي دحض مقولة الحياد، فعندما نعلن شكلًا شخصيًا من تجربة قراءة ما، نحن نفعل ذلك من خلال موقف مقبل معلن بناءً على تلك القراءة وخصوصيتها، وبالذات أنها مرتبطة هنا -في سياق التجربة التعليمية تلك- بشكلٍ كتابي معماري تصميمي، يقول عبد الفتاح كيليطو: “خصوصية الكتابة مرتبطة بنوعية القراءة”(2).

لا توجد قراءة خالية من موقف قبليّ Prior، وهو ما يجعل العمارة كنص مقروء ومكتوب من خلال النماذج السردية الروائية أو/و القصصية، حادثًا تأويليًا وتأمليًا.

في البداية تعجب طلاب العمارة وطالباتها، ما العلاقة بين الأدب والسرد. ليس هذا فحسب، لم يفهم طلاب وطالبات قسمي الآداب والعلوم الاجتماعية أدوارهم في المسار التعلمي هذا. هنا ظهرت الحاجة لقراءة إرث الراحل الحاضر جبرا إبراهيم جبرا. 

العنصر الأساسي في الفكرة العمرانية والمعمارية هو الفراغ، فلو أزال المعماري والعمراني الحوائط، والأسقف، لظهر له الفراغ، وكأنه عارٍ من قشرته، وسطحه. وهو نفس المبدأ الذي يتعامل معه الأديب والكاتب، فالفراغ هو الفكرة قبل أن تتجسد لغةً.

ولأن العمارة كما يصفها جبرا “وليدة ما يعرف الإنسان من معتقد، وسياسة، وفنون، وتقنية وطموح، بقدر ما هي وليدة المشهد الطبيعي والتضاريس الأرضية، والمناخ، إنها وليدة المجتمع الذي يحركها وتتحرك به، بكل تعقيدات الكيان الحي في ذلك المجتمع وخلفياته”(3)، هنا يصبح الفراغ الذي تنطلق منه أي قراءة نصية ومعمارية للمكان سواءً في الرواية أو القصة ومسار تحويلها إلى منتج معماري، قراءة مركّبة، تخلق مجازات مركّبة بدوها، لكنها والأهم بقدر ما هي موضوعية هي ذاتية، وكذلك مشتركة، ومن هنا تأتي فرادة البنية المكانية في نصوص جبرا.

بالعودة للسؤال المركزي عن الذاتي والموضوعي والمشترك؛ أليس الأمر ذاته متحققًا في تجاربنا المكانية والمدينية والعمرانية؟

لفهم مقاربة جبرا عن المكان والكتابة، نعود إلى ما قاله عن نفسه بعنوان “أنا والمكان”: “غير أن الذي كنت أسبق إلى وعيه، كان المكان، فطريًا أيضًا أول الأمر، ولكن بشكل أكثر وضوحًا وأكثر إدراكًا مني لأبعاده مع تنامي التجربة، وتنامي القدرة على الإمساك بشوارد الذهن وإدراجها في أطر التفكير والتخيل. ولكن وعي المكان ذاته كان أشبه بشاعرية بصرية يستسلم لها المرء عفويًا، دونما تفحص أو نقد، ربما لأنها تزيد من حدّة الملاحظة وحدّة المتعة الحسية بشكلٍ يمكن تعيينه قياسًا إلى متعة وعي الزمن التي تتخطى الحواس والتعيين المباشر”.(4)

ولعل إحالة جبرا إلى المدرك الزمني في المكاني، هي نفسها التي أشار إليها فيلسوف الظاهراتية الفرنسي غاستون باشلار، حين قال إنَّ المكان يكثف الزمن، لتصبح العلاقة بينهما آلة القول بالقول نفسه، وهو نفس المطلوب من الطلاب والطالبات في مقارباتهم/ن المكانية والسردية والاجتماعية، لكن بالتبادل والتراكب والتداخل في ما بين حقولهم/ن العلمية المختلفة والمتنوعة.

عن ذلك النبض الزماني للمكان، وتماهيًا مع باشلار، يقول جبرا: “أحس بأن المكان ينبض نبض جسم حي تراكم فيه الزمن ثم انضغط انضغاط النور في الماس. قديمًا كان أم حديثًا، عامًا أم خاصًا، جماعيًا أم فرديًا، -إنما هو يستجيب لنا بقدر ما نستجيب له، ويسكننا بقدر ما نسكنه، فيغدو إدراكنا للمكان تأكيدًا على وجودنا بأبعادٍ يستحيل قياسها، في منطقة قد تقع بين الوعي والحلم، ولكنها تقع حتمًا في القلب مما نسميه بالحياة، أو الكينونة البشرية- كما أنها في القلب من التجربة التاريخية نفسها، وهي التجربة الزمانية الماورائية، التي يفيض بها كل ما يحط عليه البصر، أو ترتفع معه العين”.(5)

يقول مارك ويغلي: “الرسم المعماري، تقليديًا، يشغل مساحةً بين الفكرة وتجسّدها، وهو، في واقع الأمر، نصف شيء ونصف فكرة؛ إذ إن الرسم المعماري هو خريطةٌ لتحقّق فكرة ما، وهو أيضًا مادةٌ لاختمارها”(6). العمارة إذن، من خلال رسوماتها، مليئةٌ بالكلمات، بل تكاد تفيض بها. 

وقبل أن نحفر أكثر في تلك العلاقة بين الرمزي في السرد والمادي في العمارة والعمران، لنتأمل نموذجًا نصيًا لجبرا إبراهيم جبرا عن مدينة عمورية في روايته المشتركة مع عبد الرحمن منيف؛ “عالم بلا خرائط”:

 “توصلت في مرحلة من المراحل إلى أنّ عموريّة هي التي خلقت فيَّ وفي الآخرين هذا المقدار الهائل من القلق والشك. فهذه المدينة التي تربض على سفح الجبل وتمد نفسها برخاوة قاتلة في أنحاء عديدة حتى البحر، وتحرص أن تغلق ذهنيًا على نفسها الأبواب بعد غياب الشمس، هذه المدينة التي تتحدث بصوت عالٍ عن الفضيلة، وتعطي الفضيلة طابعًا عمليًا يتحدد بمقدار الربح والخسارة، وتفرح وتخجل وكأنها تقترف إثمًا، وتحزن بفجور وتنظر بلا مبالاة، وبعض الأحيان بسخرية، إلى الكثير مما يجري وكأنه لا يعنيها. هذه المدينة بفجاجتها ظاهريًّا ولا مبالاتها باطنيًا، والقذارة المعنويّة التي تختزنها وتلك القيم السائدة فيها جعلتني في مرحلة من المراحل أعتبرها مسؤولة عن حالة الضيق، وبالتالي عدم القدرة على التكيف مع ما يجري (…) كما لا يُعقل أن يكون الناس هكذا لولا أنّ المدينة لا تكف عن ترويضهم وإعادة تكوينهم باستمرار، لكي يصبحوا في النهاية هذه الابتسامات البلهاء التي تفترس الوجوه، دونما معنى، وتبقى بواطنهم أسرارًا لا تُخترق”.(7)

لو اختار أحد طلبتي أو/و طالباتي هذه الرواية الفذة، وقرر أن يرسم عمورية أو بيت عين فجار فيها، كيف كان/ت ليتخيلها/تتخيلها؟

أعتقد أننا كنا لنرى جزءًا من مدننا الآن، بيروت، بانفجاراتها، القاهرة بأمنها وبوليسيَّتها وعسكرتها، عمان بادعاءاتها، أو غيرها، بكل فصاماتها المركبة، واستقطاباتها، وهو ما يجعل موقعنا ليس كأكاديميين/أكاديميات وباحثين/باحثات وطلاب/طالبات، فقط من مفهوم المكان والزمان والعمارة والعمران، بموقع الفاعل والمنتزع لإرادة مكانية ما، لامتلاك الزمن فيه.

 بكلماتٍ أخرى، الانكشاف على عمورية، كنموذج أمدَّنا به جبرا ومنيف، والاشتباك التخيلي معها معماريًا وسرديًا واجتماعيًا، هو دعوة مباشرة للتساؤل: أي مدينة تلك، وأي مدينة نحياها نحن؟ إلى أين تسير مدننا العربيّة في الزمن؟ للخلف أم للأمام؟ هل نعلم بداياتها، لنتنبأ بنهاياتها؟ 

ولأن المكان بما يتكدس فيه من زمن، هو جزء أساسي من مجازية الهوية؛ هوياتنا، الفردية والجمعية، الذاتية والموضوعية (هل ثمة هوية موضوعية). ولأن “الهُويّة، كأيِّ ممارسة خطابيّة مبنيّة على التفاوض، والهدم، والتفكيك، والبناء”(8)، هل خضنا، كمعماريين أو غير معمارين، محاولاتنا كاملة لكتابة أمكنتنا بما هي شكل للتمظهر الذاتي للهوية الفردية والجمعية؟ 

لعل العمارة، تعطي موثوقية وسلطة مكانية وزمنية مهيمنة، بحكم ماديتها المباشرة، ونفاذيتها من حواسنا، أولى علاقاتنا بالمكان، أو كما قال ويغلي: “العمارة هي ما ينتصب في مواجهة الاضطراب وهي ما يقف بيننا وبين التوتر والحيرة. العمارة هي شاهد قبر، صورة عن صورة الموت، تقف بوضوح وتجريد في محل ما لا يمكن فهمه أو تبريره”(9)، وحاجتنا لجبرا بتأملاته المعمارية والفنية، بقدر حاجتنا لإرثه السردي، ليكون  رفيقًا للإيطالي الجميل إيتالو كالفينو في تداخل السردي والمعماري والعمراني، لكن من جهة عربيّة في الخريطة.

جبرا كان استشرافيًا بامتياز، فبينما تنظر بعض جامعاتنا إلى منهج تداخل الحقول Interdisciplinarity  بعينٍ متشككة، ولا تعبأ بتداخلية Intersectionality الموقع positionality المعرفي، وفرادته، كان جبرا قادرًا على التحليق في ذلك الفضاء الرحب، وبناء مقارباته المركبة، ودون أي جهد في الأمر.

لعلنا نتعلم.

أنتهي بالقول الذي قلته في محاضرتي الأولى لطلاب وطالبات كلية الهندسة المعمارية والتصميم:

“لست معماريًا، وآتيكم من خلفية مختلفة، لكنني أبدأ بالقول: أنتظر يومًا تُغلق فيه أبواب كليتكم هذه، وتلغى، ليعود البناء والعمران من الأرض واللغة والحكي، جدي استطاع بناء بيته في يافا دون الحاجة لأن يكون معماريًا أو أن يدرس العمارة، أو أن يدرس بالأساس!… العمارة كما اللغة، تنتج أماكنها وذواتها بمجرد التلفظ بها”.

 

الهوامش:

1. Robert Park:  On Social Control and Collective Behavior, Chicago University Press, 1967, p.3
2. عبد الفتاح كيليطو؛ الأدب والغرابة، دار الطبيعة، بيروت، 1983، ص 21
3. جبرا إبراهيم جبرا، الفن والفنان؛ كتابات في النقد التشكيلي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2000، ص197. 
4. جبرا إبراهيم جبرا، تأملات في بنيان مرمري، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 1989، ص 87.
5. جبرا إبراهيم جبرا، تأملات في بنيان مرمري، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 1989، ص 94.
6. محاضرة لمارك ويغلي في كلية العمارة بجامعة بلغراد، 2 نيسان 2014، ضمن فعاليات مؤتمر بعنوان “عمارة التفكيك: أطياف دريدا” من تنسيق فلادن ديوكيتش وبيتر بويانيتش.
7. عبد الرحمن منيف، جبرا إبراهيم جبرا، عالم بلا خرائط، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2007، ط7، ص81
8. جوديث باتلر، الذات تصف نفسها، دار التنوير، بيروت، 2014، ص 68
9. محاضرة لمارك ويغلي في كلية العمارة بجامعة بلغراد، 2 نيسان 2014، ضمن فعاليات مؤتمر بعنوان “عمارة التفكيك: أطياف دريدا” من تنسيق فلادن ديوكيتش وبيتر بويانيتش.

هوامش

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع