“على المترجم أن لا يكون عبدًا وفيًا للنصّ المصدر، إذ ينبغي عليه أن يتجنّب كلّ حرفيّة”… ايتيان دولي
وأنا أحاولُ كتابةَ هذه المقالة، واجهتني صعوبةٌ واحدة لم أعرف كيف أتعامل معها، وهي تحديد علاقتي الإشكاليّة مع جبرا إبراهيم جبرا دون أن يتوه القارئ في دهاليز الأسباب وحيثيّات المعضلة. فجأةً استوقفتني جملة قالها فيصل درّاج في شهادة له حول جبرا، يقول فيها: “بدأت علاقتي بجبرا سلبيةً كليًا، قرأت كلّ أعماله وقلت في ذلك الزمان، هذا إنسان برجوازي لا علاقة له بفلسطين. حين قرأت مرّة ثانية وثالثة «البحث عن وليد مسعود»، اكتشفتُ أن موقفي كان سخيفًا ومعيبًا”.
بخطّ يعاكس موقف درّاج، بدأت معرفتي بجبرا أديبًا أولا إيجابيّةً تماماً وأنا أقرأ له «البحث عن وليد مسعود» و«البئر الأولى» و«يوميات سراب عفّان» و«شارع الأميرات». كانت إيجابيّةً بمفهوم الطّفل اليتيم الباحث عن أبٍ له أو ربّما ذاك الأعمى الذي يريد عصا يتلمّس بها الطريق، فكانَ جبرا أكثر من ذلك، كان السّاحر الفلسطينيّ ذا القبعة الافرنجيّة الذي أخرجَ كائنات غريبة كثيرة منها، تضجّ بالألوان والأصوات، ليكونَ حاضرًا، مرئيًا، لا يتوارى ولو للحظة من وراء كائناته، حاضرًا ربّما أكثر من اللزوم.
سجنني جبرا مرّتين: المرّة الأولى كانت سجنًا داخل أسلوبه الأدبيّ ومناخاته السّرديّة، وهو يرفعُ فلسطين بأناقةٍ إلى موكب الحداثة، وسؤال الهويّة والإقامة في سؤال الانتماء-اللانتماء إلى درجاتٍ أكثرَ عمقًا، طوباويةً، وجوديةً، مسيحيةً، وأكثر استعلاءً على الواقع الماديّ لهذا السّؤال. هذا الأديب الذي ودّع مادّيةَ السّؤال محليًا، ونزَع بأبطاله نحو جغرافيا مهاجرة ثلاثية الأبعاد، حطّم الاتجاه الأحاديّ للهوية الفلسطينيّة، وتخلقُ طرقًا مشفرةً يتنوّع فيها صدى الهويّة التي تنتشرُ في أبعاد الإيديولوجيّ الوطنيّ والفكريّ والفلسفيّ الوجوديّ. هكذا ترجمَ لي جبرا فلسطين: شخصيّات تركّب أجنحةً شمعيّة وتحلّق عاليًا في بقاع الأرض، تدور دوراتٍ سبعًا، تتوه في أسئلةِ الذات، وترسو في مكانٍ ما دون أن تذيب الشمسُ أجنحتها.
هكذا نظرتُ إلى السّاحر وأنا أقرأ نصوصه برصانةٍ وخيلاء من اكتشفَ كنزًا، وأنا أدخلُ زنزانته عن طيب خاطر. ثمّ كان الدخول الثاني إلى زنزانته في المرة الثانية وأنا أقرأُ ترجماته إلى العربيّة: «مأساة هاملت» و«الملك لير» و«عطيل» (المسرحية التي أبقى على عنوانها الخاطىء لشيوع اللحن ورواجه، موضحًا الأسباب في مقدّمته لمسرحيّة «أوثيلو»)، و«مكبث» و«العاصفة» و«الليلة الثانية عشرة»، و«الصخب والعنف»، و«الأمير السعيد»، و«سوناتات شكسبير». كانَ الانبهارُ عظيمًا، وأنا في العشرين من العمر، ولم أكن بعد قد انضممتُ إلى العالم الأكاديميّ ولم يبدأ مشوراي مع العين الناقدة، ولم أكن قد اطّلعتُ على ترجمات الآخرين وهم يتحدّون جبرا لغةً وفهمًا لعوالمِ هذه النصوص وسياقها. كنتُ ما زلتُ في قماطة الأطفال، أرفعُ القبّعة لمن يعلّمني حروفَ العالَم التي كنتُ أجهلها. وبهذا ترجَمَ جبرا العالَم لي مرّتين، مرّة أديبًا ومرّة ثانية مترجمًا.
ومع الدخول في نظام المعرفة ومنهجيّة الأسئلة وجديّة البحث والقراءة البعيدة عن مجرّد اقتناص المعلومة، أخذتُ أحفرُ نفقًا جزئيًا لأهربَ من سجن المعلّم الذي كان صوته طاغيًا في نصوصه ونصوص الآخرين ممن نقلهم إلى العربية، حاضرًا بفيضِ حضورٍ، بفيضِ معرفة، بفَيضِ شعريّة، سطوة الفاعل أمام المفعول به إلى حدّ طغيان صوت الأول وهو يمحي مسافات الصّمت اللازمة في النصّ حتّى يُسمَع، ويؤوّل، ويُشطبَ ويحلّق القارئ فيه إلى مساحات من صوتٍ آخر، ليسَ هو صوت الشعريّة، ولا صوت الناقل المعرّب، بل صوت ثالث ينبثقُ من رحمِ صمت المفردات، من صمت المشاهد، من صمت السّرد، والشعر، يغرّبكَ عن طبقته الأولى ويحررك من حضور النصّ باتجاه غيابه، أو باتجاه ما لم يقله النصّ في ظاهره.
كانت هناك محاولات لإيجادِ أخطاء غير مغتفرة في ترجمة جبرا لأعمال شكسبير، وتكبيرها بعدسة النقد، كما كان حال المقارنة بين ترجمة سركون بولص وترجمة جبرا في السوناتا رقم 55: أيكون الرخام والأنصاب موشّاةً بالذّهب أم مطليّةً بالعسجد، يد النزاع أم النزاعات، حرب مبيدة أم حرب ضروس، وكما هو الحال في مع رأي آخرين نحو عبد الواحد لؤلؤة وهو ينتقد، بوجه حق، الترجمة العريضة الموسّعة للجمل الانجليزية المكثّفة لتصير أكثر قربًا إلى قارىء العربيّة، أو أخطاء جبرا في ترجمة شكسبير، والتي انتقدها بشدّة صلاح نيازي في كتابه «من تقنيات التأليف والترجمة» كترجمته لمفردة Nature على أنها الطبيعة بدلا من الحي، ولمفردة Time على أنها الزمان بدلا من العالَم، ولمفردة “النخلة” على أنها غصن زيتون إلخ. ولربّما تكمن مشكلة جبرا، كغيره من مترجمين كبار، في تحدّي النصّ، الإخلاص في نقله إلى حدّ إخفائه، الانبهار به إلى حدّ تهميش تأويلاته، السعي إلى تطابق الحرفي/المستحيل وتكافؤ المعنى المستحيل أيضًا، مزاحمة النصّ على جماليّاته، ومزاحمة بلاغة وبيان اللغة الهدف لبلاغة وبيان اللغة الأصل، وشتّان بين هذا وذلك.
لكن ثمّة شيءٌ آخر يخذلك في ترجمات جبرا، على شعريّتها وجموحها نحو التعريب، لا لكَونه وقع في خطأ ترجمة العبارات والمصطلحات كما يذكر غالي شكري، وكما يذكر سركون بولص وصلاح نيازي وغيرهم من أكاديميين تناولوا الترجمة وأزماتها نصيًا، بل لأنّ اللغة التي حملها جبرا، كأيّ مثقّف ينقلُ ثقافات ونصوصًا، لم يترك مساحة للمترجم “اللامرئيّ” في النصّ، لغيابه وغياب سطوته وسطوة إيغو المترجم على نصّ الغريب، فنتجت نصوصٌ مزدوجة في غربتها، وهاملت العربيّ لم يكن هاملت أمير الدانمارك تماما، ونصوص كالسوناتات والنصوص المسرحيّة محمّلة بشعريّة عربيّة، رفيعة المستوى، “أمينة” في مفهوم الحَرفية. ربّما كان من الأجدر أن لا يفعلها جبرا على هذا النّحو، ربّما كان من باب أولى أن يتيحَ لهذا اللامرئي أن يتّسع ظلّه على رقعة النصّ، أن يترك الباب مواربًا لهذا “المحتجب” حاضرًا، بدلا من أن يضجّ حضوره ويطغى على النصّ، ليصيرَ عبدًا خادمًا له، لا شريكًا في صنعه وفي فتحه على التأويلات تماما، ففي كلّ الحالات، كانت ترجماته أمينة لكنّها لم تترك فيّ نفس الأثر تماما عندما قرأتُ نصوص شكسبير في أصلها، وهذا هو الخطأ الذي لا يغفره الدارس، ولا القارئ المنبهر، لجبرا، وغيره من كبار المترجمين.
يوجز مفيد عبد الله ومصطفى تاج الدين هذا الكلام في مقالتهما “تحولات هاملت في ترجمة جبرا إبراهيم:
“في ترجمته لهاملت، الملك لير، عطيل، ومكبث، يتبنى جبرا استراتيجية تكافؤ رسمية تنتج صيغة أمينة ولكنها فجّة لمسرحية هاملت باللغة العربية. إن خضوعه الحرفيّ للأصل يحدّ من قدرته على تقديم المسرحية باللغة العربية العادية والاصطلاحية. تتعدى المعضلة هذا الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك، لأن الصيغة العربية بعيدة على نحو مضاعف عن الثقافة العربية، حيث يتم إخراج المعجم من السياق اللغوي والموضوعات والإشارات من السياق الثقافي. وهكذا يبدو المنتج الجديد وكأنه زرع اصطناعي لعمل غريب في الموطن الأصلي للغة العربية. ينبع مصدر هذه المشكلة جزئيًا من الاختيار الأولي للمترجم بترجمة كلمة-كلمة بدلاً من ترجمة جملة-جملة أو من فكر إلى فكر، ويشكل جزئيًا طبيعة نسيج شكسبير الثقافي والمجازي المتقن للغاية لهاملت”.
التأويل، في مرحلة فهم النصّ ما قبل الترجمة. هذا التأويل الذي يلعب دورًا مركزيًا في تصحيح القراءة أثناء الترجمة، وهو التأويل الذي يرى فيه عمر كوش قادرا على إدراج الاختلاف الفلسفيّ بين الموضوعيّ والنسبيّ. وهو التأويل الذي يشكّل انتقالاً من المُضمر إلى المُفصَح عنه في النصّ، وعلى المترجم، كما يرى جان دوليل، أن يقتنص القيمة السياقيّة للمفردات عبر دلالاتها النسبيّة، وحصر معنى الجمل داخل المقامات التي جاءت فيها وليس بمعزل عنها. وثمّة معان مضمرة في كلّ نصّ، لا يكفي توسيع عرض المفردات والشعريّة في نقل النصّ ليفي بشروط التأويل. ومع شكسبير بالتحديد، لا مجال لسلخ نواة المعنى عن غشائها اللغويّ، فكلّ ثوب لغويّ جديد يُلبِسُه المترجم للنصّ يخلخلُ أبعاد التأويل. يكتب وسام جبران في كتابه “والبقيّة صمت وسكون” دارسًا خزائن الصّمت في مسرحية هاملت، في فصل الوجود الصامت والوجود المتداول:
“يرفض هاملت أن يفهم ذاته على أنها وجود إقفاليٌّ نهائيّ ، فسار في مسار البحث عن معنى وجوده الإنسانيّ الفعليّ ، فكان عليه أن يتعلّم مساءلة الوجود والخَوض في معانيه. “أكون أو لا أكون”، ليس سؤالا وحسب، لكنه القلق ـ الشعلةُ، الذي يخوض في معنى الكينونة وجوهر الوجود: أهو الوجود المتداول ـ الحاضر المحض، أم هو حضور الغائب أو الكائن غير المتحقّق بعد، ووقع الفراغ في ما يبدو ظاهراً للعيان؟” (119).
وهو سؤال ينبثق من النصّ الشكسبيريّ وتأويلاته مضافًا إليه: ما المترجم حقًا؟ وما الأثر الذي يفترض بالترجمة أن تتركها في المتلقّي؟ وأينَ تبدأ حدود المترجم؟ وما هي حدود مساحة التفسير المتاحة له في حدود خدمته؟
***
كنتُ كلّما رأيتُ الحرف O في سوناتات شكسبير ومسرحيّاته، أسألُ نفسي، أيّ آه، أوه، أو أواه ستعبّر عن تلك المساحة البيضاء الفارغة داخل هذا الحرف صفريّ الهيئة، عبثيّ الشّكل، صاحب الفراغ القاتل الذي عبّر عن اليأس الذي كانت تصرخ به أنوات الأبطال عند شكسبير في تلك الحقبة الفنية التاريخية النهضويّة، عصر التحوّل الأكبر؟
لهذه الأسباب، أحبّ حبرا، ولهذه الأسباب لا أستطيع اليوم أن أقرأ شكسبير بترجمته.
جبرا، عدوّي الحميم -ذاك المعلم أغفر له أخطاءه التي قد لا يغفرها آخرون- الذي فتحَ لي صندوقه السّحريّ، وعرّفني إلى دَهشة الكلمات في أصلها وفي تعريبها. كان هو الحاضر المرئيّ على ضفّة بعيدة، رصينة، ترهبني، على الرّغم من كلّ المآخذ ومن تحطيمي لرهبة تمثال بوذا في تشريح الترجمة والقراءة والتأويل للمفردات والمستوى الفلسفيّ-النفسيّ للشخصيّات، والمبنى النحويّ للجُمل. كان في الضفّة الأكثر قبولا والأكثر شيوعًا يؤسس لصوته ويثبّت حضوره، فيما أنا اخترتُ النزوحَ إلى ضفّة أخرى، نحو المهمّشين المُسكتين والمشكوك في أمرهم، أشدهم من تلابيبهم وأجرجرهم إلى عتبات اللغة العربيّة وقرائها. كان هو يصاهر الملوك ويفصّل ثيابًا على مقاسهم بلغته وشعريّة لغته الحرفيّة التي تغلقُ أحيانًا أكثر مما تفتح وتنفتح، يدمّر ويهشّم ويبني من جديد، بنقصٍ وغيابٍ وحضور، يعرّبُ بمعنى الكلمة زارعًا النصّ في قلب غربةٍ جديدة تضاعف الإحساس بالغربةٍ تجاه النصّ، أما أنا فقد اخترتُ أن ألعبَ في مساحة “اللامرئيّ” تحررني من قيد عبوديّة الترجمة والتعريب والنقل، وتأخذني إلى أخطاء الكتّاب وأخطاء خيالهم الجامح، لأعيد على نفسي في كلّ مرّة سؤال: أين ينتهي دورهم وأين يبدأ دوري أنا؟