“الريح تسحبُ أذيالاً وتنشرها
يا ليتني كنت ممن تسحب الريح”
يقول عمر بن أبي ربيعة، ليصف تلك الرغبة الخفية الدائمة في السفر بعيداً، إلى أمكنة لا نعرفها، أو، إلى أمكنة نعرفها جيداً، ولكننا لا نجد وسيلة لبلوغها.
يُقال إن السفر يجعلك ترى جوهر الحياة وأبعادها السرية: يفتح لك طرقاً وعوالم ويخرجك من سجونك. ولكن الأبعاد السرية قد تبقى سرية ومغلقة دوماً، حتى بعد إتمام الرحلة، كمشكلة الشر المغلقة أبداً بحسب فولتير وفقهاء السنة. رحلات إسماعيل والقبطان أهاب بحثاً عن الحوت موبي ديك تنتهي بخسارات فادحة، بدون حتى فهم الأسباب. في رواية “قلب الظلام”، يتكشّف الكون في ختام الرحلة عن لبّه الظلوم اللئيم المتقيح. آخرون يعتقدون أن ما نتعلمه من السفر يتجدد دوماً: باشو، شاعر الهايكو، اشتُهر برحلاته الكثيرة، التي سجلها بدقة وأمانة وبساطة. يبدو سفر باشو جزءاً من رحلة مستمرة: لا يريد الوصول، ولا يريد السفر لمجرد السفر، ولا يريد القول بأن الدرب هو ما يعنيه: كلا، لا شيء من هذا، بل شيء أعمق: يتعرف على نفسه وعلى الطبيعة وعلى الناس في كل سفر، من جديد. في رحلته إلى بلدته الأم في الشمال الياباني، قام الكاتب الياباني أوسامو دازاي بتسجيل تفاصيل الرحلة، ليصل إلى القليل من الصلح مع الذات والعائلة، وإلى فهم باشو، للمرة الأولى كما قال، وإلى فهم القليل عن نفسه: لم تساعده الرحلة كثيراً، فقد انتحر بعدها بسنتين. كما انتحر القبطان فيتزروي الذي قاد السفينة التي حملت تشارلز داروين حول العالم خمس سنين. إذ لم يكن “أصل الأنواع” ليُكتب لو لم يسمح القبطان للطبيب الشاب الثري داروين، الذي ينتظره مستقبل ممل ليصبح قساً محترماً محافظاً، بالسفر والتسكع معه، كي يتسلى قليلاً ويدرس النباتات والحيوانات، ويلاحظ الطفرات الكثيرة الصغيرة المتنوعة بين الجزر المتناثرة في المحيط. لم يصبح داروين قساً؛ وتدريجياً، فقد القبطان عقله، بعد عقود من الرحلة، وهو يلوم نفسه ليل نهار على “بدعة التطور”، متمسكاً بكل حرف في الكتاب المقدس. في نهاية هذا السفر رأى داروين جوهر الحياة والحقيقة: الحقيقة التي غيرت رؤيتنا لأنفسنا ولموقعنا في الخليقة إلى الأبد، حيث الحياة البشرية وغير البشرية يشكلان سلسلة واحدة متصلة عبر رحلة طويلة جداً.
وهناك الحقائق التي تتكشف بدون سفر: المعري سجن نفسه في بيته بعد رحلته القاسية إلى عاصمة السلام بغداد؛ وفي سجونه الثلاث، كان أكثر حرية وترحالاً من كل الرحالة. كذلك نجيب محفوظ، وإيمانويل كنط، وإيميلي ديكنسون: لم يسافروا ولم يرتحلوا؛ لم يروا العالم ولم يهتموا به. عرفوا جيداً أن كل ما في الكون مكتوب في مكان واحد، هو المكان السحري حيث يولد المرء ويعيش. أتى كنط بالأجوبة الصحيحة، النهائية، على كل ما يشغل بالنا، في الإبستمولوجيا وفي الأخلاق. محفوظ كتب كل ما يمكن كتابته: من الرواية التاريخية إلى الواقعية إلى الدينية/الفلسفية إلى السياسية والرمزية. وديكنسون شرّحت الروح البشرية، وحدها، في عزلتها المكتملة. هؤلاء خلقوا العالم من عدم: اخترعوه، زينوه، أضافوا إليه، ثم نشروه لنا في الكتب والأشعار.
والسفر في التراث العربي الشعري يتجلى كعقوبة إلهية، يتذمر منها الشعراء باستمرار: أبو تمام والبحتري والمتنبي أشهر من قضى العمر في سفر محموم. بين تعاقب الخلفاء والأمراء والولاة، وحنينهم إلى مواطنهم التي لم تُشبع فيهم رغبتهم بالشهرة والمعرفة، ارتحلوا باستمرار، يحدوهم الامل بحياة كريمة، لم ينالوها قط.
يشرح أبو تمام حبيب الطائي رحلاته تلك:
“خَليفَةُ الخِضرِ مَن يَربَع عَلى وَطَنٍ
في بَلدَةٍ، فَظُهورُ العيسِ أَوطاني
بِالشامِ أَهلي وَبَغدادُ الهَوى
وَأَنا بِالرَقَّتَينِ وَبِالفُسطاطِ إِخواني
وَما أَظُنُّ النَوى تَرضى بِما صَنَعَت
حَتّى تُطَوِّحَ بي أَقصى خُراسانِ.”
حتى يومنا هذا، لم يصبح الترحال من خِصالنا؛ والأغاني التي نرددها وتلفح شعاف قلوبنا تهجو السفر والغربة دوماً، الغربة التي تأخذ الناس ولا تعيدهم، كغول العنقاء: “يا ظريف الطول وقف تقلك”، “يا رايح وين مسافر؟”، “يا مسافر وحدك”، “علّي جرى من مراسيلك”، “يا مال الشام” ومئات الأغاني الأخرى: حنين يطلقه بدون خجل أولئك الذين لم يسافروا، إلى مغتربين لا يردّون لا يعودون ولا يغادرون الذاكرة: يتبدّى السفر والغربة لنا كمنفى فقط.
والمنفى أكثر ما كان يخيف بوريس باسترناك بعد حصوله على جائزة نوبل للأدب: أن ينفيه النظام الروسي إلى الغرب. كان ذلك في زمن المراجعات التي قام بها خروتشوف لفترة ستالين، وما رافقها من تراخي قبضة الأمن على البلد: للأسف، انتصرت الستالينية على الكاتب المنعزل المسالم، الذي طُرد من رابطة الكتّاب وشهّر به الأصدقاء والخصوم علناً، على صفحات الجرائد وفي الاجتماعات، بدون أن يقرأ أي منهم حرفاً من روايته الشهيرة.
وافق باسترناك على التنازل عن الجائزة، التي لم تكن تعنيه كثيراً؛ وافق على إدانة الكتاب، على عدم نشره في روسيا، على الامتناع عن الكلام مع الصحافة الغربية: وافق على كل ما طلبته منه السلطات. الأمر الوحيد الذي كان يخشاه هو النفي.
إسحق بابل رفض البقاء في باريس، وعاد إلى روسيا ليقتله ستالين. مارينا تسفيتاييفا عادت إلى روسيا، لتشنق نفسها بعد سنتين. يفغيني زمياتين، المؤسس الأول للديستوبيا قبل آلدوس هكسلي وجورج أورويل، ندم على قراره في الهجرة، ومات مجهولاً فقيراً كسيراً في باريس. غوركي نفسه قضى أوقاتاً طويلة في منفى اختياري في إيطاليا، متذمراً من ممارسات لينين وتروتسكي؛ عاد مريضاً، أيام ستالين، ليموت في بلده متشائماً يائساً: انطلقت حملة “تطهير” البلد من المثقفين بعد وفاته مباشرةً.
كان المنفى يعني الموت، والبقاء في البلد يعني الموت أيضاً. لم يفكر واحد منهم أن المنفى قد يعني حياة أخرى: المنفى منفى، فقط لا غير.
وفي المنفى كتب دو فو، الشاعر الصيني، أجمل قصائده. فيها حنين لكل ما هو عادي: ومن يعش المنافي يدرك جيداً أنها تتشابه، بل تتطابق. يحنّ الشاعر إلى أشياء لا تعني شيئاً، إلا للمنفيين: لعبث ابنه، لتململ زوجته، لكسل الظهيرة، للثرثرة مع الأصدقاء: لكل ما يعطي الحياة طعماً. في حين تخلص سانتوكا، شاعر الهايكو الجوّال، من كل ما هو عادي، وعاش يشحذ الطعام ويكتب الهايكو. الفارق بينهما يختصر نقيضي الحياة: الأول ابن امبراطورية إدارية ضخمة، والثاني ابن بوذية الزن المتقشفة الصادقة ضيقة الأفق؛ الأول يحنّ إلى الحياة اليومية، والثاني يشذ عنها، واصفاً صباحه بحكمة الطير:
“مبللاً بندى الصباح
أتجه أنّى أريد.”
في دورة اللغة الدنماركية، أحد الدروس يناقش السفر والرحلات والعطلات السنوية: “هل زرتم تايلند؟ السويد؟ هل تفضّلون شاطئ البحر في كاليفورنيا، أم جبال الألب؟ هل زرتم أمريكا؟ لا، لماذا؟ متى تريدون زيارتها؟ إلخ”
السوريون المساكين يهزون رؤوسهم: “والله مشوار اللادقية ونشم ريحة البحر كان عنا قد الدنيا. صحيح أننا نتكدس في شواطئ وسخة محشورين فوق بعضنا، بأسعار خيالية لأبناء الطبقة الوسطى، فيما المرفهون يستمتعون في الشاطئ الأزرق والمريديان والرمال الذهبية، إلا أننا أحببنا اللاذقية وطرطوس. هي فرصة يطلع الواحد يشوف الدنيا… لم نزر أمريكا ولا جبال الألب ولا السويد ولا تايلند. أقصى طموحنا زيارة سريعة إلى بيروت أو دبي أو القاهرة أو اسطنبول.”
تصمت المدرّسة، غير قادرة على استيعاب فكرة الفيزا أولاً، والفارق الخيالي في سعر العملة الذي يجعل تذكرة الطيران إلى القاهرة حلماً للسوري العادي.
نعود إلى الدرس ببطء: نخفي خيبتنا وأحزاننا وشقاءنا، وذكرياتنا التي نفخر ونعتز بها في بحر المتوسط، على تفاهتها وبساطتها وسذاجتها، فيما الأوروبيون البيض يجوبون الكوكب، سائلين كل خمس دقائق: “مستحيل! لم تسافر خارج سوريا، لا أنت ولا أهلك ولا جيرانك!”
والبعض ينشغل بالدرب بدلاً من الوجهة. في ثلاثة أفلام عن القطارات، نرى محاولات الناس للانتقال وللفهم وللوصول: كلهم يفشلون. في فيلم المخرج الكردي/التركي اليساري يلماز غونيه، “الطريق”، تتحول رحلة مجموعة من المساجين عبر إذن سفر محدود المدة إلى درب مفتوح على شقاء غير محدود. ويعرض فيلم الروسي فاسيلي شوكشين “بيتشكي-لافوشكي”، رحلة زوج وزوجته يسافران من ريف سيبيريا إلى الجنوب للمرة الأولى في العطلة السنوية، يتعرفان فيها على عالم جديد منافق معقد. في بلد تحكمها الشيوعية بقبضة من حديد، يلتفت المخرج/القاص إلى الناس العاديين ومحاولاتهم في نحت السعادة. في فيلم “بطل”، للمخرج الهندي شوتوجيت راي، تطرح رحلة بطل أفلام السينما في القطار لاستلام جائزة أسئلةً بلا إجابات عن النجومية والبطولة والنفاق. السفر في الأفلام الثلاثة لا يأخذك بعيداً، بل تراوح في مكانك، ولكن مع فهم أعمق لجريان الزمن ولمعنى الحياة. وحده غونيه يجعل النهاية مأساوية كلياً: من سجن ملعون إلى حرية مؤقتة أكثر أسراً حتى من السجن نفسه.
والبعض يستوطن أمكنة أخرى، يستبدلها ببلده الأصلي: شاعر الهايكو إيسا استوطن العاصمة، لا بيت أبيه في الريف الذي لا يذكره إلا بسوء؛ وأبو نواس استوطن بغداد، ولم يعد مرة إلى البصرة. أبو الطيب المتنبي يحنّ إلى حلب. جلال الدين الرومي، هارباً مع عائلته من غزو المغول، استقر في قونيه؛ والشيخ الأكبر محي الدين بن عربي في دمشق؛ وكارل ماركس في لندن. كارل بوبر وفتجنشتين انتقلا من فيينا إلى بريطانيا، هرباً من النازيين. والنبي محمد هاجر من مكة المكرمة إلى يثرب، مدينته المنوّرة. لم يعد أي منهم إلى موطنه الأصلي.
أنا أيضاً، في السنتين الأخيرتين، أحلم بالسفر إلى مواطن غريبة عني: إلى “نوريتش” المدينة الوادعة، وإلى اسطنبول المدينة-العالم. لم أعد أحلم كثيراً بدمشق، إلا في بعض الكوابيس حين يدخل فرد من أهلي أو أصدقائي عليّ لينكرني. تتجلى دمشق دوماً ككابوس، ومواطني الجديدة التي أهوى تغويني بعودة لا أستطيعها.
يرِدُ بيت عمر بن أبي ربيعة في مختارات شعرية لأدونيس، بعنوان “ديوان البيت الواحد”، وهي مختارات ساحرة، تعكس ذوق الشاعر المتفرد أكثر مما تعكس الشعر العربي في تنوعه: تقتصر المختارات على صور هاربة من عالم مجرد ميتافيزيقي متعال، يموج برغبات وتشابيه ومجازات لا تقترب من العالم الأرضي اليومي العياني في شيء: كشعر أدونيس نفسه، كالرغبة بالسفر حيناً وبالعودة أحياناً، كالشهوة بعد أن تستنفد نفَسَها في جسد آخر، كابتسامة مخاتلة، كورقة شجر تسّاقط في الخريف، كحرية زائفة وثورة فاشلة، كالنوم في القطارات والطائرات والباصات: مجازات غير حقيقية تحكم عالمنا في فترات قصيرة متأرجحة شفافة؛ أما في الزمن العادي الواقعي السائل، فتعجز أجمل المجازات عن سحبنا من هذا العالم، والريح لا تنشر أحداً…