في عالم تعدد الخيارات، الذي تباهي به الحداثة وما بعدها، ثمة خيار على الهاتف المحمول يسمى مزامنة حيث تربط ذاكرة الهاتف بذاكرة العالم الافتراضي الذي بات يطغى على عالم الواقع أو الحقيقة. أفكر في هذه الخاصية اليوم! هل لأني أعيش في مكان لا يتزامن مع شيء في العالم، غزة، أم أنها حالة الحجر التي تفرض عودة للذات ولكل الأشياء حولنا حتى أبسطها. فبساطة الضغط على خيار المزامنة تسخر من كل مشاعر العزلة والاغتراب عن وطن نعيش فيه وليس لنا منه سوى حاضر يتكرر دون أن يحلم بغد. خيار افتراضي يدخلنا عالم بقدرته أن يسخر من الجغرافيا التي تمنعنا من تجاوز المعابر والجدران، فنحلم قليلا ونبني صداقات بلا حدود دون حاجة لحركة فعلية و نجلس على ذات المقاعد منذ عقود. خيار يجعلنا نصدق أننا نملك من الحرية شيئاً هل حقا نشارك هذا العالم مساره الزمني. يبقى الحلم بحركة فعلية مؤجلا فالبعد عن وطن الأهل والعائلة وعن طرقات وأسواق وبحر يغمر أوجاعنا كل لقاء، معلق إلى يوم ما.
صدقنا لوهلة أننا في غزة معصومين عن الإصابة بفايروس كورونا الذي أصاب العالم وسخرنا من حصار لطالما كان خانقا هو الآن حصن حصين لنا. لكن تشاؤم العقل يغلي كالجمر تحت أمل النجاة من وصول هذه الجائحة إلينا فليس لنا من مأثورة غرامشي غير النصف الأول. وها نحن ندخل قطار الكورونا ونرتدي ثوبا جديدا للمعاناة، أرقام ونداءات صحية وحياة موقوفة سبقنا إليها العالم وها هو اليوم ينفض أول أنفاسه منهكا. أما نحن المجهدين مسبقا فنستقبله بنظام صحي متهالك، وحالة اقتصادية تترنح بين قطع الرواتب وإغلاق المعابر. لكن لماذا نريد أن نتزامن مع العالم، وأول من عزلنا هو ذاتنا المتنازعة اللاهثة على فتات سلطة وهمية تدعي شيطنتنا وتهدد كل حين بقوت أبناء مدينة باتوا يتسولون أقل حقوقهم. فما يتم ممارسته من تمييز على أساس مناطقي بين الفلسطيني من غزة والفلسطيني من الضفة الغربية يسجل اضطهاداً مضاعفاً علينا ويؤكد عداء يتساوى قبحه مع عدونا الأول وربما أكثر.
وفي الوقت الذي نشهد فيه عزيمة وصبر لدى أهل غزة، نشهد أيضاً نوعاً من الاتكاء على هذه العزيمة بكلمات رنانة فأهل غزة رمز للعزة، وهم شعب الجبارين. نراهن على صمود تأكله الهشاشة كل يوم. فعدد كبير من أبناء المدينة هاجر بلا أمل في الرجوع بعد أن طوقت المدينة أحلامه فإما أن يعيش عالة على عائلته وإما أن يتركها مهاجرا إلى منفاه الطوعي الجبري… فقر وقهر وقمع مركب يجعل السياسي اجتماعي والاجتماعي سياسي. قد تسمع في غزة عن طفل مرمي على باب جامع. وقد تسمع عن زيارة لإحدى وزراء النفط رغم كل الحدود يوزع صرره المالية حسب رغباته وفي غموض لا يجهل تفاصيله أولي الأمر. تسمع الكثير في هذه المدينة التي يضيق أنفاسها الحصار ولكنها تنهض كل صباح مرغمة على مواصلة الحياة التي تخلى عنها بعض شبابها في لحظة يأس فانتحار دون أن يترك ذلك حرجا طفيفا على الأقل في قلب من يمارس استمرار هذه الحالة من التجاهل لحيوات تبدأ وتنتهي دون أن تستحق حياة. يقول محمود درويش “الحياة التي لا تعرف إلا بضد هو الموت ليست حياة!” ولكنه يكمل أننا “سنحيا لو تركتنا الحياة إلى شأننا”. نعم سنحيا ولو تركتنا الحياة وشأننا وبئساً لتزامن يرتب ضحاياه في سباق أولويات وكأن الأم الثكلى في سوريا تختلف عنها في فلسطين، لتزامن يكدس و يراكم معاناة الحروب في وجهنا ليشاركنا حقنا في النجاة. بئساً لتزامن يتخذ من مصائرنا أحجار شطرنج في لعبة لا تجعل اعتبار لأحلام طفل صغير بحذاء جديد، أحلام شاب يريد أن يعمل دون أن تنتهك كرامته، أحلام أم بغد آمن لطفلها في طريق ذهابه للمدرسة.