كتب ناظم حكمت، الشيوعي الملتزم، بعض الرباعيات، يستعيد فيها شاعرين مختلفين تماماً: الحسّي المادي عمر الخيام والصوفي الروحاني جلال الدين الرومي. يستخدم حكمت شكل الرباعيات التقليدي ليسخر من التقاليد كلها، ومن العالم الذي تحيا فيه هذه التقاليد.
أولاً، وقبل كل شيء، يسخر من فكرة أن هذا العالم المادي وهمي. تكاد هذه الفكرة تكون محور الفكر الصوفي وأصله، وتعدو جذورها في السياق الإسلامي والغربي إلى الفيلسوف الإلهي أفلاطون؛ بل حتى أولئك الهنود الذين لم يطلعوا على أفلاطون، من الهندوسيين والبوذيين، سادت بينهم هذه الخرافة العميقة الذكية الشيقة. وكان عصر العقل في الغرب (ق 17) وعصر التنوير (ق18) قد رفضاها بشكل قاطع، ثم أتى بعدهما نيتشه الذي رفض العصرين، ولكنه، مثلهما، رفض خرافات أفلاطون، وصبّ كل حقده الطبقي والفكري عليه.
يتابع حكمت سخريته لتطال الخيام الذي لم يكن صوفياً، بل مادياً بشكل كامل، متهماً إياه بالتخلي عن العالم، كي يغرق في لذة لا معنى لها، عبثية، تافهة، تتخلى عن المعنى الحقيقي الكامن في العالم المادي.
في العمق، ينبع رفض حكمت للخيام وللرومي من فطرة بسيطة عميقة: علينا تغيير العالم. لم يكن ماركس أول من طالب بذلك، ولكن صياغته المحكمة خلبت لبّ اليساريين الثوريين، ودوره الصادق في عملية التغيير نفسها جعلت صياغته أكثر مصداقية وقوة.
إذن، بحسب حكمت، يعمل الخيام والرومي، وكل الماديين أصحاب اللذة والصوفيين الغارقين في النشوة، على إبقاء العالم على ما هو عليه: لا يسعون إلى تغيير بينة السلطة، بل يوافقون عليها، لأن هذا العالم وهمي، أو، لأن اللذة هي كل ما يجب أن نسعى إليه.
لا يوجد طريقة للتهرب من منطق حكمت، ولا يوجد طريقة لجعل الخيام والرومي يتطابقان مع أبسط قواعد الأخلاق. صحيح أن البعض يسعى إلى القفز على المنطق، في محاولات لتقديس التراث، أو للسخرية من الماركسية واليسار، أو للكلام الكبير عن الأدب وعمقه عند الفارسيين الساحرين ما وراء السياسة: كلها محاولات يمينية متواطئة مع السلطة. وناظم حكمت، بالطبع، يكشف هذا التواطؤ بشجاعة وجمال.
وفي الترجمة العربية المعتمدة، أسقط المترجم الأستاذ فاضل لقمان، مترجم الأعمال الشعرية الكاملة لناظم حكمت، الرباعيات التي تشير مباشرة إلى الرومي والخيام. أما علي سعد في ترجمته للرباعيات عن الترجمة الفرنسية، وهي ترجمة معقولة ولكن ليست شاعرية، يثبتها، مع مقدمة للقصيدة يشرح فيها بوضوح أسباب تهجّم حكمت عليهما. والمترجم التركي إلى الإنكليزية طلعت .س. هملان، يختار رباعيات محددة، معظمها يتقاطع مع المترجمين العربيان. لا أعرف إن كان هناك أكثر من نسخة للرباعيات، كما هو الحال مع رباعيات الخيام والرومي، أم أن المترجمين يتلاعبون بشعر حكمت، بدون حتى أن يخبروا القارئ.
ترجمة علي سعد تبدأ بمقدمة نارية مملة مدرسية عن الشعر الملتزم القومي، مقدمة مخلصة فعلاً لمعظم أعمال حكمت، ولكن، ليس لهذه الرباعيات، المخاتلة وغير الملتزمة كلياً، كما سنرى. ولا يبدو أن سعد قد لمس السخرية في رباعيات حكمت، فقد كان مأخوذاً بالالتزام الفج مطالباً به، كأن الشعر سيغير العالم وحده.
لست من مدرسة حكمت في الشعر الملتزم، ولكنني لست معادياً للالتزام أيضاً. الاعتراضات على الشعر الملتزم ليست في التزامه، بل في سويته الفنية المنخفضة عادةً. فالالتزام في الفن، عموماً، تلقائي بسيط طبيعي، وحتى أستاذ مذهب الفن للفن، الداندي الأشهر أوسكار وايلد، تحفل أعماله كلها برسائل أخلاقية واجتماعية وسياسية. أي أن معظم الأدب الحقيقي، في جوهره، ملتزم وغير ملتزم في آن معاً.
في بعض قصائده، ينجح حكمت في تحويل الأدب الملتزم إلى ما هو أبعد بكثير من الالتزام: يفتح أبواباً على المستقبل والماضي والماورائيات ومعنى الحياة. ورباعياته هذه نموذج للأدب الملتزم المتفلّت من ضيق الأفق، المنفتح على عالم غني وتراث ساحر ورغبة أصيلة في الفهم: يعود حكمت إلى الخيام والرومي ماداً يديه ومشرعاً قلبه لحكمتهما الأبدية، بعد أن يقوّض فلسفتيهما، لمصلحة ماركسية واعية بذاتها وبدورها في التغيير.
يعود حكمت إلى أمرين يخالفان عموماً القراءات الماركسية واليسارية الضيقة للحياة ولمعناها: إلى الرغبة بالعبث المادي الذي يبدع فيه الخيام، وإلى الرغبة بالتواصل مع الماورائيات عن طريق وحدة الوجود، الذي خبل جلال الدين الرومي. يعود إليهما، فقط بعد تغيير العالم، أي عندما يستطيع المظلومون والمسحوقون تذوق العبث المادي والتفكر بتفاهة الحياة البشرية وبالأسئلة الروحانية الكبرى: وكلا الأمرين، مستحيل تماماً، بل وغير مقبول، في عالم يعيش فيه معظم الناس أسرى للظلم: في مثل هذا العالم، يكون العبث المادي والتواصل مع الماورائيات وصفات قذرة لتثبيت النظام القائم.
هكذا يتبدى أن حكمت أعمق وأصدق من الخيام والرومي من جهة، وأكثر حساسية وفهماً لغربة الإنسان في هذا الكون من ماركس وإنجلز من جهة أخرى؛ لأن الدفاع عن الناس، يكون باسم اللذات الجسدية وباسم الماورائيات معاً، ومن أجل ذلك علينا تغيير العالم: وهذا ما لم يستسغه معظم الماركسيين المتشددين والعلمانيين المتطرفين، بثقتهم بكل إجاباتهم ونظرياتهم، وبسخريتهم الحادة من الميتافيزيقيا (التي رأى فيها كنط، محقاً، أم الاسئلة). بحسب ناظم حكمت، الحياة، في الحقيقة وبعد التغيير أو من خلاله، تُعاش مع الأسئلة الكبرى: إما باللذة المادية لأن الحياة لا معنى لها، أو بالتواصل مع الماورائيات لتعطينا المعنى.
لا يلتزم حكمت بما يؤمن به تماماً، لا يلتزم بالماركسية التي سُجن من أجلها طويلاً، ليكتب رباعياته التي لم تحقق الشهرة التي تستحقها في عالم مليء بالصوفيين الهاربين والماديين العبثيين والماركسيين المتشددين، بل يبقي النوافذ مفتوحة على ما بعد الموت وعلى العوالم الماورائية مع الرومي، وعلى انتهاب اللذات الأرضية مع الخيام: عوالم أخرى ساحرة مبهرة، تختلف عن عالمنا هذا، الذي يجب تغييره كي نفهم أنفسنا ونتذوق اللذات ونتوه في الماورائيات.
رباعيات ناظم حكمت
(جمعتُ هنا معظم الرباعيات من الترجمات الثلاث، وعدّلتُ فيها قليلاً. أعتذر من ناظم حكمت ومن القرّاء، على تلاعبي الفظ بشعره، بدون حتى الرجوع إلى الأصل التركي للقصائد!)
ذلك العالم الذي كنت تراه يا جلال الدين حقيقي
-لا يوجد خرافة لا يعلم حقيقتها أحد-
وقد كان كبيراً، غير مخلوق، ولم يصممه
سبب أول لا أدري كنهه.
وأجمل الرباعيات التي نطق بها فمك
والتي انبثقت من لحمك ودمك
ليست تلك التي تستهلها هكذا:
“الصورة ليست إلا ظلاً.”
حقيقة هما عيناكِ وفمكِ الأحمر
الذي مُنع عني شهده،
وتراخيك كالماء المتمرد
وبياضك الذي لا تبلغه شفتيّ!
حدثني يوماً خيال حبيبتي:
“أنا موجود وهي لا”. قال لي من قرارة المرآة،
فضربتُ المرآة، فتحطمت، واختفى الخيال.
أما حبيبتي فبقيت سليمة معافاة.
القفير مملوء عسلاً
عيناك مملوءتان شموساً
عيناك، يا حبيبتي، ستصيران تراباً غداً
والعسل سيملأ قفاراً أخرى.
لا من النور، ولا من الطين،
بل من نفس الصلصال جُبلت حبيبتي
وقطتها الزرقاء
واللؤلؤة في عنق القطة.
يقول الخيام: “املأ رأسك بالخمر قبل أن يمتلئ بالتراب.”
ولكن الرجل ذا الحذاء المثقوب يقول وقد مرّ أمام حديقة ورد:
“أنا جائع في هذا العالم الذي يحمل من القمح أكثر مما يحمل من نجوم،
كيف سأشتري خمراً، وأنا لا أملك ما يكفي للخبز؟”
الحياة تمضي، فتمتع بالبرهة التي تحيا قبل أن ترقد رقاداً لا أحلام فيه
إنه الفجر، أيها الفتى، فصبّ الخمر في كأس البلور.
واستيقظ الفتى في غرفة بدون ستائر، باردة في الصقيع
وصفارة المصنع تزعق لا تتسامح مع أي تأخير.
في يوم شتوي لا يكدّره شيء، شفاف كالبلور
ما أروع أن تغرس أسنانك في هبر تفاحة مكتنزة بيضاء.
حبيبتي، حبي لك يشبه النشوة الغامرة
نشوة نفس عميق في غابة صنوبر يغطيها الثلج.
“انتهى كل شيء”، ستقول يوماً ما أمنا الطبيعة،
“انتهى الضحك والبكاء يا بني.”
ومن جديد ستبدأ الحياة الرحبة
التي لا تبصر ولا تتكلم ولا تفكر.
وهكذا أيها الكناري الجميل، لا يوجد
بيني وبينك إلا فرقٌ في الدرجة
أنت طائر بجناحين، ولا تفكر
وأنا إنسان بيدين، وأفكر.
ساعة الوداع تقترب أكثر فأكثر كل يوم
فوداعاً أيتها الدنيا الجميلة
ومرحباً
أيها الكون…